المواجهات المسلحة الفلسطينية الأولى في محيط عربي محتل

بحلول شهر نوفمبر 2024، وفي خضم الحرب الدائرة منذ أكتوبر 2023 في غزة والضفة والجنوب اللبناني بين قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية من جهة وقوات الاحتلال الصهيوني بمشاركة أميركا من جهة أخرى، يكون قد مضى 89 عاماً على المواجهات المسلحة الأولى للشعب الفلسطيني ضد التشكيلات الصهيونية المسلحة القادمة من مختلف بلدان العالم لاحتلال فلسطين وإقامة دولة دينية لليهود طبقاً للمشروع الاستعماري بقيادة بريطانيا، أقوى دولة استعمارية في تلك الفترة. 

وطوال ما يقرب من تسعين عاماً يتواصل نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني الممول والمدعوم بالكامل من مؤسسات الصهيونية العالمية والدول الاستعمارية بقيادة بريطانيا أولاً، ثم أميركا حالياً، وسط ظروف شديدة التعقيد وتحديات بالغة الصعوبة على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية، لم تشهدها أي حركة تحرر وطني في العالم. 

المواجهات المسلحة الأولى- الثورة العربية الكبرى 1936 – 1939:

شهدت ثلاثينيات القرن الماضي وصول حدة التناقض إلى ذروته بعد تزايد سيطرة الصهاينة على الاقتصاد الفلسطيني بدعم وتمويل من مؤسسات الصهيونية العالمية وبريطانيا، التي كانت تحتل كلا من مصر وفلسطين والأردن والعراق واليمن. وتزايد قدوم التشكيلات الصهيونية المسلحة القادمة من أوروبا ليصل عدد الصهاينة في عام 1936 إلى 370 ألفاً، والذي قابله انتشار الروح القومية في فلسطين ودول الجوار مع إدراك المخطط الأوروبي الصهيوني لإقامة دولة لليهود في فلسطين، وتطلع الشعب الفلسطيني إلى نيل الاستقلال، ولم تكن هذه الأماني لتتحقق إلَّا عن طريق النضال الجماهيري الموحد والوقوف في وجه سلطة الاحتلال البريطاني والتشكيلات الصهيونية المسلحة الوافدة من أوروبا. وهكذا تهيأت الظروف المواتية لاندلاع الثورة.

 وكان الشيخ عز الدين القسام قد أسس مبكراً في عام 1930 منظمة “الكف الأسود”، كمنظمة مناهضة للصهيونية ولبريطانيا، وقام بتجنيد وتنظيم دورات تدريبية عسكرية للفلاحين، وبحلول عام 1935، كان قد جند ما بين 200 و800 فلسطيني، وساعده على ذلك أنه كان مأذوناً في إحدى قرى قضاء حيفا، وبهذه الصفة كان يعرف أهالي حيفا والقرى المحيطة بها وكان محل احترام بينهم، أي أنه كان قائداً شعبياً طبيعياً ذا صفة دينية.

 وكان تبني الكفاح المسلح أمراً ضرورياً ومفروضاً بعد وصول التناقض إلى شكل صدامي حاسم، وتزايد العنف الصهيوني والبريطاني لتسهيل استيلاء الصهاينة على الأراضي. وفي نوفمبر 1935 قاد القسام مجموعة من 11 فلسطينياً للمواجهة بالسلاح في حيفا ضد الصهاينة استشهد فيها مع أربعة من أفراد المجموعة وتم أسر الباقين.

وكان استشهاد القسام شرارة بدء مقدمات الثورة الكبرى، والتي استمرت ثلاث سنوات ومرت بمرحلتين.

المرحلة الأولى 

تفجرت الشرارة الأولى للثورة الكبرى في فلسطين يوم 15 أبريل 1936، عندما قامت مجموعة قسامية بقيادة الشيخ فرحان السعدي بقتل اثنين من اليهود وجرح ثالث خلال هجوم على مركبتهم في طولكرم ثم حدثت مواجهة مسلحة بين الفلسطينيين والصهاينة في يافا يوم 19 أبريل أدت إلى مقتل تسعة يهود وجرح 45 آخرين، واستشهد فلسطينيان وجرح 28، وأعلنت الحكومة على إثرها منع التجول في يافا وتل أبيب كما أعلنت حالة الطوارئ في كل فلسطين.

وفي 20 أبريل تشكلت في نابلس لجنة قومية غير حزبية مكونة من مجموعة من الشبان المثقفين. ودعت اللجنة إلى الإضراب العام في فلسطين حتى تعلن الحكومة البريطانية استجابتها للمطالب الوطنية، وهي: إيقاف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومنع انتقال الأراضي العربية إلى اليهود، وإنشاء حكومة وطنية مسؤولة أمام مجلس نيابي.

وفي 25 أبريل اجتمعت الأحزاب الفلسطينية برئاسة الحاج أمين الحسيني، وبدأ الإضراب الشامل في يافا وصاحبته تظاهرات واشتباكات امتدت إلى نابلس فالقدس، ثم انتشرت في كل أنحاء البلاد. وتشكلت لجان قومية في أنحاء فلسطين لتأمين الإضراب وإنجاحه. كما تبنى الفلسطينيون سياسة “العصيان المدني” بتنفيذ الامتناع عن دفع الضرائب اعتباراً من يوم 15 مايو.

 وتحت الضغط الشعبي توحدت القيادة الفلسطينية بتشكيل “اللجنة العربية العليا” في 25 أبريل واختارت الحاج أمين الحسيني رئيساً لها. 

وأخذت العمليات المسلحة – التي بدأت محدودة متفرقة – في الانتشار حتى عمت معظم أرجاء فلسطين، وبلغ معدلها خمسين عملية يومياً، وزاد عدد الثوار حتى بلغ حوالي خمسة آلاف، معظمهم من الفلاحين الذين يعودون إلى قراهم بعد القيام بمساعدة الثوار.

ولم تنفع الرسائل السياسية والعسكرية البريطانية في إيقاف الإضراب والثورة، بما في ذلك إعلان بريطانيا في 18 مايو إرسال لجنة ملكية “لجنة بيل” للتحقيق في أسباب “الاضطرابات”، ورفع التوصيات لإزالة أي “ظلامات مشروعة” ومنع تكرارها. 

  • وخلال هذه الثورة قاتل الفلسطينيون وحدهم، واستخدموا ما يمتلكونه من أسلحة قليلة في مواجهة القوة الاستعمارية العظمى في تلك الفترة (بريطانيا) والتشكيلات الصهيونية المسلحة التي شكلت أنوية المستوطنات الاستعمارية الصهيونية. ولهذا كانت تلك المواجهات الأولى غير متكافئة، خاصة وأن دول الجوار العربي الرازحة تحت الاحتلال قامت حكوماتها بالضغط على قيادة المقاومة لإنهاء الثورة.

 وأدى ذلك إلى توقف المرحلة الأولى من الثورة في 12 أكتوبر 1936.

شبه هدنة: أكتوبر 1936 – سبتمبر 1937

دخلت فلسطين بعد توقف الإضراب في شبه هدنة مؤقتة بانتظار نتائج توصيات اللجنة الملـكية “لجنة بيل” والتي قاطعها الفلسطينيون في البداية، إذ استاءوا من البيان الذي أصدره وزير المستعمرات البريطاني قبل وصول اللجنة والذي قال فيه: “إنه ليس هناك أسباب تبرر توقيف الهجرة”.  

وحافظ الثوار على درجة من الاستعداد يسهل معها الانتقال إلى الوضع الثوري السابق، في حالة عدم تحقيق المطالب العربية. ولذلك، استمرت عمليات المقاومة ذات الطابع الفردي كالنسف والقنص والاغتيالات السيـاسية. وقد اعترفت الحكومة البريطانية بمقتل 97 شخصاً بينهم 9 جنود بريطانيين، وجرح 149 بينهم 13 من الشرطة والجيش خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 1937.

  • وأوصت اللجنة الملكية في تقريرها، الذي رفعته إلى الحكومة البريطانية في 22 يونيو 1937، بتقسيم فلسطين إلى دولتين: واحدة عربية وأخرى يهودية، على أن تبقى الأماكن المقدسة وممر إلى يافا تحت الانتداب البريطاني، فاجتاحت البلاد موجة من السخط أدت إلى تفجر المرحلة الثانية من الثورة.

المرحلة الثانية من الثورة: سبتمبر 1937 – سبتمبر 1939

وبدأت المرحلة الثانية للثورة أواخر عام 1937، وشهدت حركة مقاومة عنيفة شارك فيها الفلاحون بقوة، واستهدفت القوات البريطانية بشكل متزايد. وفي المقابل استخدم الجيش البريطاني وقوة شرطة فلسطين وسائل وحشية لقمع الثورة، وخاصة ضد الفلاحين بهدف تخويف السكان العرب وتقويض الدعم الشعبي للثورة. 

  •  وخلال هذه المرحلة، انسحبت عشيرة النشاشيبي من “اللجنة العليا العربية”، ووقفت إلى جانب البريطانيين ضد وحدات الفصائل العربية القومية والإسلامية.

وحظيت الثورة بدعم شعبي هائل. وفي صيف 1938 وصلت إلى قمتها، وخضعت لهيمنتها مناطق واسعة، خصوصاً شمال فلسطين ووسطها، وتحطمت الإدارة المدنية في معظم مناطق فلسطين. واقتحم الثوار العديد من المدن المهمة، وكانوا يسيرون وهم مسلحين في شوارع نابلس وأظهروا قدرة جيدة على التنظيم وفعالية في “حرب العصابات”، وشكلوا محاكم للفصل في القضايا، وعاقبوا بحسم السماسرة والجواسيس والعملاء. وزادت أعداد الثوار حتى بلغت حوالي عشرة آلاف. وبلغ من شدة الثورة أن وزير المستعمرات عد فلسطين “أصعب بلد في العالم”.

  • وقد اتخذت هذه الثورة طابعاً إسلامياً عاماً من خلال الدور الكبير لجماعة القسام في شمال فلسطين ووسطها، وحركة الجهاد بقيادة عبد القادر الحسيني في مناطق القدس والخليل، ومن خلال القيادة السياسية لمفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني للحركة الوطنية الفلسطينية. وساعد على ذلك كونها تمت في مواجهة مشروع استعماري هدفه إقامة دولة دينية عنصرية يهودية في فلسطين. 

واضطرت السلطات البريطانية إلى إرسال تعزيزات عسكرية ضخمة وقامت بإعادة احتلال فلسطين مستخدمة كافة وسائل البطش والدمار والعقوبات الجماعية، ومستعينة بكافة الوسائل الحديثة لجيش من أقوى جيوش العالم من طيران ودبابات ومدافع وغيرها.

  • وتوقفت هذه الثورة نتيجة إعادة احتلال بريطانيا لفلسطين، وكذلك بسبب حالة الإنهاك والإعياء والانهيار الاقتصادي التي أصابت شعب فلسطين طيلة ثلاث سنوات ونصف السنة، دون أن يجد عوناً جاداً من الدول العربية والإسلامية، والتي كانت بدورها ترزح تحت النفوذ الاستعماري. واستشهاد كثير من قادة الثورة، وخيانة بعض العائلات الإقطاعية. كما كان قيام بريطانيا بإصدار كتابها الأبيض في مايو 1939 الذي وعدت فيه باستقلال فلسطين خلال عشر سنوات، وبإيقاف الهجرة اليهودية بعد خمس سنوات، ووضع قيود مشددة على انتقال الأراضي لليهود، أحد عوامل تهدئة الثورة.

وباندلاع الحرب الرأسمالية العالمية الثانية عام 1939 تعرض ثوار الثلاثينيات الفلسطينيون لقمع رهيب، وعاش الشعب الفلسطيني ظروفاً صعبة، حتى عاد من جديد للمقاومة المسلحة في مواجهة المرحلة الأخطر، مرحلة إقامة الدولة الصهيونية عام 1948، والتي أعقبها صعود لحركة التحرر الوطني الفلسطيني والعربي. 

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

إضراب عمال أرامكو عام 1953

إن دراسة التاريخ بتناقضاته وتطوراته تساهم في تجنب الأخطاء وتطوير ما كان صحيحاً. فالأحداث التاريخية تبقى في ذاكرة المجتمعات. هذه الأحداث قد لا يُرى تأثيرها وقت حدوثها، لكن تضاف إلى جينات هذه المجتمعات ومفعولها يورَّث جيلاً بعد جيل. إذاً، من المهم أن يتم تدوين واستذكار التجارب، الإيجابية منها والسلبية، بين فترة وأخرى حتى تدُرس كيلا تنسى وتندثر وتفقد الأجيال القادمة الإحساس بمدى أهميتها وتأثيرها على حياتهم.

قرن من النضال: ضوء على خبرات الحزب الشيوعي اللبناني ومخزون تجاربه المتنوعة

محاولة لتسليط بعض الضوء على جوانب مهمة من مسيرة الحزب تتعلق بما تميّز به نضال هذا الحزب الطليعي ودوره وخبراته وتجاربه المتنوعة، التي تشكّل له رصيداً نضالياً تاريخياً غنياً ويفترض أن تكون مصدر إلهام للمناضلين العرب.

وقائع تأسيس الحركة الطلابية الكويتية قبل ستين عاماً

ضمن حالة النهوض العامة، التي شهدتها الحركة الوطنية الديمقراطية الكويتية في النصف الأول من ستينات القرن العشرين، وامتداداً للمسار التاريخي الممتد منذ الخمسينات لنضال الحركة الطلابية الكويتية، تأسست في ديسمبر من العام 1964 المنظمتان الطلابيتان الديمقراطيتان: الاتحاد الوطني لطلبة الكويت والاتحاد المحلي لطلبة الكويت “الثانويين”.

جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية: الرد الثوري على الاحتلال الصهيوني ومجازره

في 16 أيلول / سبتمبر، وفي كل أيلول من كل عام، تحية من “تقدُّم” إلى جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية… وأبطالها الذين هزموا الجيش الذي قيل أنه “لا يهزم”… تحية إلى المقاومين والأسرى والجرحى والشهداء ضد الاحتلال الصهيوني وحروبه العدوانية الإجرامية… تحية إلى أبطال عملية “طوفان الأقصى” أبطال المقاومة الفلسطينية الصامدة منذ السابع من أكتوبر 2023 ضد العدوان الصهيوني على غزة… أبطال يسطرون كل يوم ملاحم بطولية في مقاومة العدو… تحية إلى كل مقاوم ومقاوِمة للعدو الصهيوني في جميع جهات وطننا العربي.

[zeno_font_resizer]