أخي وأرضي – حكاية من فلسطين

-+=

صدر عن منشورات تكوين كتاب ” أخي وأرضي – حكاية من فلسطين ” تأليف سيرين صوالحة وسامي هرمز، ترجمة: إيمان سعد، مراجعة وتدقيق: شهد دعباس.

مقدمة المؤلفيْن

هذه قصةٌ حقيقية. كنت شابّاً يافعاً وطالباً مشدود الأعصاب في جامعة برينستون حين بدأتُ العمل عليها، حين التقيتُ سيرين للمرة الأولى وبدأتْ تسرد عليَّ القصص. وعلى مرّ الطريق إلى كتابتها تشتَّت انتباهي: أنهيتُ رسالة الدكتوراه، وألَّفتُ كتاباً آخر مختلفاً، وأسستُ عائلة. مع ذلك، ورغم أنَّ زمن إنجازي هذا المشروع طال للغاية، وتضاءل الوقت الذي بوسعي منحه إياه، إلا أنَّ عزيمتي على إنهائه لم تهن للحظة. 

على مر السنين، واصلت سيرين سرد قصص من فلسطين. في البداية كانت مدفوعةً برغبتها إلى إظهار مدى التشابك بين عائلتها والانتفاضة الثانية، ومدى تأثرها بالأحداث السياسية في تلك الفترة حيث التقينا للمرة الأولى. لكني دوماً استشعرتُ توتراً بين هذا الدافع وبين رغبتها في سرد قصة حياتها هي، قصة عائلتها، قصة انضمام أخيها إلى المقاومة ودوره فيها، وكيف هي حقيقة الأوضاع في فلسطين. هذا التوتر حاولتُ الحفاظ عليه لدى كتابتي هذه القصة. 

محاولة الوصل بين قصص عديدة حدثت على مر عقود لكي أكتب سرديةً واحدة متماسكة، ما كانت أبداً بالأمر الهيِّن عليَّ. فقد أثقل كاهلي هوسي غير الصحي بدقة المعلومات وصحّتها، كما أثقلني حرصي الشديد على أن السردية التي أجمعها هي بالفعل السردية التي تريد سيرين أن ترويها للعالم.

لكن سيرين هوَّنت عليَّ هذه العملية. قصصها وكلماتها وعزيمتها الراسخة، شغفها في سرد حكاية فلسطين من خلال المحن التي مرَّت بها عائلتها، أمدَّتني بالإلهام لمواصلة الكتابة. وبينما تروي عليَّ سيرين القصص، فيما المسجِّل الرقمي يلتقط صوتينا، وجدتُ مشاعري تتشابك مع حياة سيرين، ماضيها يُنسَج في حاضري كلما قضيت معها وقتاً أطول – أسجِّل أحاديثنا، ألتقي عائلتها وأصدقاءها، نلتقي كي نحتسي فنجان قهوة في مدن عديدة، وأشاهد أطفالها يكبرون أمام عينيَّ.

ليس بوسعي إحصاء عدد المرات التي التقينا فيها، واللقاءات الاجتماعية والعائلية التي تشاركناها على مر السنين، ومئات المكالمات الهاتفية بيننا. القصة التي اجتمعت أجزاؤها خلال هذه العملية هي عن حياة عائلة سيرين مثلما رأتها بعينيها، وأحياناً بكلماتها هي، لكن على الأغلب بكلماتي أنا. ما ستقرؤه في هذا الكتاب راجعته سيرين ونال موافقتها على مراحل عدّة في هذه العملية، من المسوّدات الأولى إلى التدقيق النهائي. كلماتها، كما هي ظاهرة هنا، مخلصة لكلماتها المنطوقة قدر المستطاع، إذ أخذتُ هامشاً من الحريّة في الترجمة والتحرير لأجل الحفاظ على مقروئية النص. منحتني سيرين الإذن بالسرد من منطلق ذكرياتها على أمل جذب القارئ للاستغراق في تجربة عائلتها من جهة، ومنحه سردية صحيحة تحافظ على صوتها في سردها المحكيّ. ولكي أحافظ على صوت سيرين، فقد ميَّزتُ بين صوتها وصوت السارد بتنسيق خط مختلف.(1) 

أتاح لي السرد الكتابة بتخمينٍ مدروس عن أحداث لم يشهدها أحدٌ منا، وبذا لم نعرف تماماً كيف وقعت – تحديدًا الأحداث ذات العلاقة بتجارب السجن والعمليات السرية واللحظات المحاطة بالكتمان. وفي كل تلك الحالات، جاء التخمين مدروساً ومدعوماً بالبحث، مع إبقاء أعيننا دوماً على تحرّي الدقة والحقيقة. لكل تلك الأسباب، قررنا أنا وسيرين توقيع الكتاب باسمينا. كما سترى بنفسك، سترافقني أنت في هذا الكتاب بينما أنتقي الأحداث وأعيد خلقها وسردها ضمن القصة الأكبر لفلسطين، كل ذلك مع سيرين.

على مدار عملي على جمع قصة سيرين، فيما المسوّدات ما تنفك تتناقل بيننا جيئةً وذهاباً لأتأكد من إخلاص سرديتي لقصَّتها، وفي لقاءاتنا العابرة للاطمئنان على بعضنا والتواجد في رفقة الآخر، تشكَّلت بيننا صداقة، نمت بعدها إلى علاقة أخوّة. “أنت زي ابني”، ستقول لي في عدة مناسبات، وسأزورها أنا كما لو أني أزور أختي الكبيرة. وفيما تطوَّرت علاقتنا، تحوَّل هذا الكتاب إلى أكثر من مجرد تعاون، أصبح حياةً منسوجة بعضها ببعض – قصة جمعيَّة قلبها الاستعمار الاستيطاني رأساً على عقب بتمزيق مجتمعاتنا ورسم الخطوط الكبرى لبدايات قصصنا ونهاياتها.  

في عملية النسج هذه، حيث رحنا نضفر الحكايا بعضها ببعض، تكمن عدة طبقات من الحب، أو لربما الحب هو الذي أتاح هذا النسج – حبّي لسيرين وعائلتها وفلسطين، حبي للعالم المحيط بي، للبشرية التي بوسعها اعتناق الحياة بكل أشكالها. عدا أني، كلما حاولت الكتابة من مبعث الحب، أجدني مثقلاً بأخلاقيات البحث، كما لو أنَّ أحدهم يثبّت عنقي على الأرض بجزمته. كيف للمرء في هذه الحالة أن يكتب؟ كيف نوفي الحبَّ حقَّه؟

الحب، ومليون تشكيك

فنحن العرب والفلسطينيين نعيش ضمن تاريخٍ يشكّك في سرديتنا، وإذا لم ننتبه، فمن شأن هذا التشكيك أن يكسرنا. هذا التشكيك يشيِّئك، ويُخضِع تفكيرك وأولوياتك. استغرقني التغلب عليه زمناً طويلاً، أعواماً من الكتابة والمراجعة لكي أصدَّ هذا التفكير وأثره عني لدى كتابة هذه القصة – لكيلا أسمح لهذا التشكيك، قدر استطاعتي، بالسيطرة على كتابتي. 

وقد ساعدني الجانب البحثي في تحقيق ذلك. إذ قضيت أعواماً من البحث تضمَّن محاورات عدة مع أغلب الأفراد الأحياء في عائلة سيرين، والتقيت أصدقاءها وجيرانها وأفراداً آخرين من أهل قريتها، ودوَّنت ملاحظاتي في أثناء زياراتي لفلسطين، إضافةً إلى البحث في الأرشيف لدى مركز الدراسات الفلسطينية في بيروت. تعتمد هذه القصة أيضاً على مصادر أساسية وثانوية متنوعة ما بين نصوص وفيديو. وقد أضفت ملحقاً للقارئ الذي يود فهم المصادر التي أتت منها بعض التفاصيل والاقتباسات، ولكي يستزيد بالقراءة إن كان لديه شك في دقة المعلومة التي أوردتها أو في الحقيقة ككل. بالطبع، في مواضيع الحياة والموت، في مواضيع الاستعمار الاستيطاني والاحتلال، فالحقيقة ذيلٌ نلاحقه للأبد؛ وهذا، تحديدًا، نيّةُ المستعمِر. وها التشكيك يطلّ عليَّ برأسه القبيح مرةً أخرى!

ملاحظتان أخيرتان. الأولى تتعلَّق بالأسماء العربية للقرى والأماكن على سائر النص؛ هذه التسميات العربية تذكيرٌ ضروري بتاريخ تلك الأماكن في وجه المحو المتعمَّد لفلسطين. أما الملاحظة الثانية فتتعلَّق بانشغالي الشديد بكيفية التعامل مع أسماء الشخوص، إذ لا سبيل إلى فصل أناسٍ محددين عن حياة سيرين وإبقاء أسمائهم مجهولة. لذا بقيت معظم الأسماء على حقيقتها، ولم أبدّل سوى أسماء الفلسطينيين المشكوك في عمالتهم لإسرائيل وتعاونهم مع جيشها. فهذا الكتاب ليس محاكمة علنية ولا حكماً نافذاً، ولا نملك دليلاً قاطعاً قد يصمد في أي محكمة يدين أولاء الناس بالعمالة. وأنا في هذا الكتاب لا أفضح أحداً ولا أحكم عليه بناءً على القيل والقال.   

سامي هرمز

نوفمبر ٢٠٢٢

مضت سبع عشرة سنة منذ بدأنا هذا المشروع، أنا وسامي. مرَّت عليّ أوقات ظننت أنَّ هذا الكتاب لن يرى النور أبداً، وراودني فيها الإحساس أنَّ هذه القصة الفلسطينية ستضيع كما ضاعت فلسطين. أوقاتٌ ظننت فيها أنَّ احتمال سماع أحدهم صوتي، صوت فلسطين، أشبه بالعدم. والآن، فيما الكتابُ يطبَع استعداداً لنشره، بات بوسعي التقاط أنفاسي. 

حين ولدتني أمي أسمتني سيرين، وظنَّ أبي أنَّ اسمي سيجلب الحظ والرخاء للعائلة، حتى أنه أسمى مطبعةً أسَّسها باسمي، ولم تدم هذه المطبعة وقتاً طويلاً. قد تسأل نفسك وأنت تقرأ هذا الكتاب “وأين هذا الحظ والرخاء، وأين الحياة الطيبة؟” لكن بالفعل، إذا ما قورنت حياتي بحياة أشقائي وشقيقاتي، فقد حظيتُ بالحياة الطيبة. مقارنةً بما مر به أخي، عشت حياةً جيدة. مقارنةً بالعديد من الأخوات والأمهات والبنات الفلسطينيات، أنا امرأة محظوظة. لذا، من باب الامتنان والواجب، أردت كتابة قصة عائلتي وشعبي حفاظاً على ذكرى الذين فارقونا، ولأجل الباقين هنا، والآتين من بعدنا. 

كانت سبع عشرة سنة صعبة، قاسية، أتاني الكتاب في أواخرها يهوِّن عليّ ما مررت به. ففي تلك الأعوام، في المدرسة حيث أدرِّس، اتهمني طالبٌ بأني إرهابية، وبعد معركةٍ مع الإدارة جرَّدتني من كرامتي، سرَّحوني من وظيفتي. قاضيتُ إدارة المدرسة، لكني خسرت القضية بسبب التمثيل القانوني الضعيف في أثناء المحاكمة، وفقدتُ الأمل. بعدها بعامين شُخِّصت بمرحلة متأخرة من سرطان الثدي، وفقدت قواي وإرادتي. هذا الكتاب كان الشيء الوحيد الذي أبقاني حيّة، إذ لم أكف عن حلمي بأن يأتي اليوم ويقرؤه الناس. غرزت أظافري في هذا الحلم وتشبثت به بكل قواي، أدفع سامي بإلحاح إلى إنهاء المشروع. وفيما كنت أجلس في غرفة العلاج الإشعاعي، غير واثقة من مستقبلي، كان الخاطر الوحيد الذي يشغلني أنّي بحاجة إلى هذا الكتاب أن يرى النور اليوم قبل الغد! 

إيماني أنَّ الكتاب سيحقق لي العدالة التي أرتجيها منحني القوة على المواصلة.

آمل أنَّ بقراءتك هذا الكتاب ستجد فيه دعوةً إلى التعلُّم أكثر، للدخول في حديث معي، معنا، أن تسمع قصصنا. صحيح هذه قصة شخصية، لكنها أيضاً قصة فلسطينية، قصة شعبي والمعاناة التي نحتملها. وثمة قصص فلسطينية عديدة غيرها، أوضح وأشدُّ تعقيداً، وإذا جمعتها كلها في فصول، كل القصص المكتوبة وغير المكتوبة، ستجد بين يديك قصة فلسطين.

وهذا الكتاب هو فصل عائلتي.  

سيرين صوالحة

نوفمبر ٢٠٢٢

  1. – في الترجمة العربية بين يديك، يتحقق التمييز بين صوت السارد وصوت سيرين بكتابة الصوت السارد بالعربية الفصحى وكتابة صوت سيرين باللهجة الفلسطينية.

مكتبة ومنشورات تكوين

Author

  • منشورات تكوين

    دار نشر تأسست عام 2017، مقرها الكويت والعراق، متخصصة في نشر الكتب الأدبية والفكرية تأليفاً وترجمة.

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

“موجز تاريخ الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني”

صدر عن منشورات تكوين كتاب “موجز تاريخ الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني” تأليف إيلان بابيه، ترجمة شهد عباس، والكلمة التقديمية للكتاب بقلم آفي شلايم. كلمة تقديمية

في إعادة إنتاج “الفكر العدمي” .. عناوين نقديَّة أوليَّة

يتركز الهجوم على النظرية الماركسية – اللينينية، تحت مسميات تيارات عديدة، منها ما ذكرناه أعلاه وغيرها من التيارات البرجوازية، هو في أسه سعي، محموم، لنزع عصبها، الصراع الطبقي، محرِّك التاريخ، لنفيه كون حامله، الطبقة العاملة، حفَّارة قبر النظام الرأسمالي.

“كُفِّي الملام”.. تراجيديا نموذجيّة مؤلمة

رغم المعاناة الشديدة، ورغم الخسارات الكثيرة، والعسف، ومرارة العزلة، إلا أنَّ فهد العسكر لم يتراجع عن مواقفه، بل بقي متمسِّكاً بها حتَّى النهاية، واستمرّ الأذى باللحاق به حتَّى النهاية