الحرب العدوانية مستمرّة.. لا خيار إلّا المواجهة

-+=

لم تنتهِ الحرب العدوانيّة التي يشنّها الكيان الصهيوني المتغطرس على لبنان، كما على فلسطين وعلى دول وشعوب المنطقة بشكل عام. إنها تستمرّ بأشكال وأساليب متعدّدة، وبدعم من الإدارة الأميركية، وهي مرشّحة للتصاعد في المدى المنظور. وفي الحالة اللبنانية، فإن “اتفاق وقف الأعمال العدائية”، الذي  أُعلن منذ عام  ( 27 نوفمبر 2024)، وبغضّ النظر عن ملاحظاتنا العديدة عليه، لم يُنفّذ إلّا من الطرف اللبناني، فيما استمر العدو الصهيوني، وبتغطية وإسناد من الولايات المتحدة الأميركية “راعية” الاتفاق، في احتلاله للعديد من المواقع والنقاط  داخل الأراضي اللبنانية، وفي منع أهالي البلدات الحدودية المدمّرة بمعظمها من العودة إلى قراهم ومدنهم ومزارعهم، ومن إعادة إعمارها، كما يواصل يومياً عمليات القصف والتفجير والتدمير والاغتيالات والخروقات الجوية والبرية، والتهديدات المختلفة، بما فيها التهديد الأخير بـ”أيام من القتال”. 

لم تنتهِ الحرب العدوانية، وليس ما يؤكّد أنها ستنتهي، فالعدو يعمل على فرض شروطه على الأرض في لبنان، عن طريق العدوان، أو من خلال الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية والمالية المتعدّدة التي تمارسها الولايات المتحدة الأميركية، التي وصلت إلى حدّ المشاركة في العمليات العدوانية، إشرافاً ورصداً وتنفيذاً، بالترافق مع تحرّكات وتهديدات موفديها، دفعاً باتجاه فرض أشكال شتّى من التطبيع، ومن التنازلات، من خلال “استجداء” المفاوضات المباشرة، وبشروط العدو المتلازمة مع إملاءاتها. 

  لا ينفصل هذا الوضع، عن تواصل ظهور النتائج الجيوسياسية للعدوان الصهيوني، المدعوم أميركياً، على غزّة ولبنان ودول عربية أخرى، حيث لم تكتمل فصول هذه النتائج، التي تنسحب على مسائل وملفّات مصيرية تعني المنطقة كلها، وقد تنطوي على احتمالات شديدة الخطورة في المديين المتوسط والبعيد، وبخاصة بعد توقيع “اتفاق” وقف إطلاق النار في غزّة. 

احتمالات تجدّد العدوان على لبنان والدعم الأميركي له

ومع التصعيد الأميركي في ظلّ قيادة ترامب، تبدو احتمالات تجدّد العدوان الشامل على لبنان قائمة، كما تبدو احتمالات الحروب الإقليمية قائمة أيضاً، وسط فرض الكثير من الشروط “الإسرائيلية”، على الرغم من التضحيات والبطولات التي قدمتها المقاومة في مختلف ساحاتها.

يستمرّ العدو في إجرامه، مستنداً إلى الدعم الأميركي اللامحدود، و”منتشياً” بالتغييرات في موازين القوى على الصعيد العام، ومعتبراً أن الفرصة سانحة له للسير في مشاريعه التوسعية، و”أحلامه” الصهيونية، بما فيها مشروع “إسرائيل الكبرى” جغرافياً واقتصاديا وسياسياً، ولا يتوانى رئيس وزراء الكيان المجرم الإرهابي نتنياهو، الذي يجد في استمرار الحرب “مهرباً” له، عن الحديث عن “تغيير وجه الشرق الأوسط”. ويتبدّى أن الكيان المصطنع لا يعيش إلاّ على الحروب والعدوان و”الضمّ” والتوسّع، لكن هذا العدو يدرك أنه لم يحقّق النتائج المبتغاة لديه لما اعتبره “إنجازاً” عسكرياً، فيعمد إلى المزيد من الاندفاع في العدوان وإلى رفع سقف التهديدات التي تطال لبنان، كما تطال أكثر من بلد في العالم العربي وفي المنطقة.

ولا شكّ أن “طموحات” العدو الصهيوني، تندرج بشكل أو بآخر، مع المشاريع الإمبريالية في إحكام السيطرة على موارد المنطقة، وما تشمله من ثروات طبيعية وبنى تحتية ومصادر طاقة وممرّات برّية وبحرية وجوية تربطها بعالم خارجي يشتدّ فيه الصراع والتنافس المتعدّد الأشكال حول إعادة اقتسام مواقع النفوذ والسيطرة وترتيب الأوزان على المستوى الكوني.

يرى العدو أن الظرف مناسب لفرض شروطه على الأرض في لبنان، بعد عدوانه المجرم الأخير الذي أدّى إلى توقيع “اتفاق وقف الأعمال العدائية”، بما يعطيه سيطرةً أمنية مطلقة في جنوب الليطاني، وسيطرة أوسع على عموم الأراضي اللبناني سواء من داخل الاتفاق أو من خارجه تحت مظلّة أميركية داعمة وشريكة عسكرياً وسياسياً وأمنياً.

يمعن العدو في اعتداءاته برّاً وبحراً وجوّاً وفضاءً، ويستبيح لبنان بأرضه وسيادته ومؤسّساته وقراره السياسي، مُجنّداً طاقاته العسكرية والاستخبارية والإعلامية، ولا يقيم وزناً لأي قرار أو موقف رسمي تتخذه الدولة اللبنانية أو أية دولة عربية، ولا لأي اتفاق، أو لجنة، مستنداً إلى الدعم الأميركي الذي يُطلق يده في القتل والإرهاب والاستنزاف، معلناً أنه لن يوقف عدوانه إلّا بالاستسلام الكامل لشروطه.

ومع استمرار العدوان الصهيوني وتفاقمه، تتصاعد الضغوط الأميركية على السلطة اللبنانية، سواء عبر نقل شروط العدو، أو عبر الإملاءات والتهديدات، في إصرار على جرّ لبنان إلى الخضوع والاستسلام والتطبيع والتخلّي عن السيادة والأرض والثروات الطبيعية البرية والبحرية، بالترافق مع “ترتيبات” أمنية، تشرّع استمرار التهجير والتغييرات الجغرافية والديمغرافية تحت عنوان إنشاء “المنطقة الآمنة” أو “المنطقة الاقتصادية” في جنوب لبنان.

وسط هذه الأجواء، واستجابة للضغوط الأميركية والدولية، أتى قرار الحكومة اللبنانية بتطبيق “حصرية السلاح”، من دون ربطه بتأمين انسحاب العدو “الإسرائيلي”، ووقف العدوان، وبدء خطة الإعمار والعودة، وتسليح الجيش اللبناني من مصادر متعدّدة، وتعزيز إمكانياته وقدراته اللوجستية والعددية، بما فيها العودة إلى التجنيد العام للشعب اللبناني، في مواجهة العدو الصهيوني وأطماعه. كما أنّ هذا القرار لم يلحظ حقّ الشعب اللبناني المشروع في مقاومة الاحتلال طالما وُجد هذا الاحتلال، في مقاومة وطنية وشعبية شاملة وواسعة، تكون ممارستها جزءاً لا يتجزّأ من مشروع سياسي للتحرّر الوطني والاجتماعي.

لكن رغم هذه الاستجابة، فإن الإملاءات والتهديدات لم تتوقّف واستمرت في التصاعد، لتشكّل الوجه الآخر للتصعيد الصهيوني، بحيث تصبح “الدبلوماسية” الأميركية المزعومة، هي الممرّ لتحقيق أكبر قدر من “المكاسب” للعدو. وبهذا المعنى فإنّ الحملة المشتركة الأميركية- الصهيونية تمارس الضغط السياسي والعسكري على لبنان سعياً لاستجرار موقف يتجاوز الدعوة إلى التفاوض، باتجاه التسليم الكامل من دون أية شروط، سواء تزامن ذلك مع “نزع السلاح” أم لا.

وللتدليل على ذلك، فإن الأمور وصلت إلى عدم القبول بالطرح الرسمي اللبناني، الذي يضع أولوية وقف “إسرائيل” لخروقاتها، وانسحابها من النقاط المحتلة على الحدود الجنوبية، وعودة الأسرى مع تكليف “اللجنة الخماسية” بالتأكّد، في منطقة جنوب الليطاني، من سيطرة القوى المسلّحة اللبنانية وحدها، وبسط سلطتها بقواها الذاتية، والتأكيد على “جهوزية الدولة اللبنانية للتفاوض، برعاية أممية أو أميركية أو دولية مشتركة، على أي اتفاق يُرسي صيغة لوقف نهائي للاعتداءات عبر الحدود”، على أن تتولّى “الدول الشقيقة والصديقة للبنان”، رعاية هذا المسار، عبر تحديد مواعيد واضحة ومؤكّدة، لآلية دولية لدعم الجيش اللبناني، كما للمساعدة في إعادة إعمار ما هدّمته الحرب.

 إنّ “الوساطة” الأميركية المزعومة، لا تكتفي باتخاذ الحكومة قرار “حصر السلاح”، بل بالعمل على تنفيذه، وبما يتجاوز القرار 1701، حتى لو وصل الأمر إلى انخراط الجيش اللبناني في صدامات محلية، دون أن تلتزم حتى بالحصول من “إسرائيل” على “وعد” بخطوات يطالب بها لبنان، مثل وقف الاعتداءات أو الانسحاب من النقاط المحتلّة، أو عودة الأسرى، بل تعتبر أنّ المسألة محصورة فيما يتوجّب على لبنان أن يقوم به. وفي هذا الإطار كانت الحملة الأميركية على قائد الجيش اللبناني، بحجة أن الجيش عاجز أو متواطئ، وأنّ لبنان الرسمي يقوم بعملية تضليل للولايات المتحدة، مع توجيه “تأنيب” له لاستخدامه تعبير “العدو الإسرائيلي” انسجاماً مع الدستور اللبناني، ورداً على طلب التصدّي للتوغل المعادي..

الرد الوطني على الضغوط الأميركية واعتداءات العدو الصهيوني

إنّ الردّ الوطني على هذه الضغوط والمحاولات يجب أن يكون مبنياً على تفاهمات داخلية، وأن لا يقتصر فقط على الاتفاق حول “حصرية السلاح” وقرار الحرب والسلم، بل أن يتلازم مع تأكيد الحقّ المشروع للدولة والشعب بكلّ قواه وإمكانياته في المقاومة الفعلية للعدوان، وتجسيد هذا الحقّ عملياً في دحر الاحتلال وفي العودة والإعمار، وفي الوصول إلى حلّ داخلي متّفق عليه لموضوع الخطة العملية للدفاع عن لبنان وأرضه وشعبه بعيداً عن الضغوط الأميركية.. وكي لا يكون هذا الموقف منقوصاً أو أحاديّ الطابع، فإنّه يجب أن يشمل أيضا بلورة وتنفيذ تصوّر لعملية الإصلاح السياسي للخروج من “أسر” النظام الطائفي ولعملية الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، خاصة مع ازدياد معدّلات الفقر والبطالة والانكشاف الاجتماعي والهجرة، فالشعب اللبناني يرزح تحت عدوان خارجي وتوتير داخلي وانهيار اقتصادي ومؤسّسي وبيئي وصحّي.. واللبنانيون مهدّدون بحياتهم ووجودهم من كل النواحي.. إنّ وجود مثل هذه التفاهمات الداخلية يشكّل الضمانة الفعلية للبنان في تعزيز قدراته في مواجهة المشاريع والمخاطر التي تهدّد مصيره ووجوده وكيانه، خصوصاً في ظلّ استعصاء الحصول على ضمانات خارجية في ظروف دولية وإقليمية مفتوحة على أشدّ المخاطر والمفاجآت.

ونحن نرى أن المقاومة هي عامل قوة للبنان، إذ لا يمكن الركون إلى الاستنتاج بأن ما انتهى إليه العدوان “الاسرائيلي” العسكري راهناً من نتائج على جبهات عربية عدّة، قد أثبت عملياً أن فكرة المقاومة قد انتهت، فالمقاومة متلازمة مع وجود الاحتلال، ولذلك تبرز وبصورة ملحّة وعاجلة ضرورة التعبئة الوطنية للدفاع عن البلد ومصيره، ولا خيار إلّا المواجهة.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

بنين: انقلاب فاشل يكشف نظامًا مأزومًا

بلا شك، الخاسر الأكبر في 7 نوفمبر بنين. ففي بلد تتطلب فيه التهديدات الأمنية جيشًا موحدًا، بات الجيش أكثر انقسامًا من أي وقت مضى بين موالين ومتمرّدين. ومن الواضح أن الجيوش الأجنبية باستثناء حماية رئيس دولة لم يعد يثق بقواته لن تحل شيئًا. الرد لا يمكن أن يكون أمنيًا، فالحل الحقيقي سياسي.