بعد 41 عاماً .. عود على بدء : إتفاق 17 أيار/ مايو بحلة جديدة

-+=

يمر لبنان، مجدداً اليوم، بمرحلة شديدة الخطورة من تاريخه الحديث، بل يمكن القول أنها أخطر المراحل التي اجتازها على الاطلاق، منذ العام 1948، إنْ من حيث الوضع الداخلي الناجم عن ارتدادات العدوان الذي يشنه الكيان الصهيوني منذ 17 أيلول / سبتمبر 2024،  أم من حيث المشاريع المطروحة على الساحة العربية عموماً، وأهمها مشروع “الشرق الأوسط الجديد” المستند إلى “اتفاقيات أبناء أبراهام لتحقيق السلام والتعاون الاقتصادي والأمني” وكل الاتفاقيات التي حصلت قبلها بدءاً باتفاقية كمب دايفيد ومن بعدها أوسلو ووادي عربة. هذا المشروع الذي يضع في استراتيجيته السيطرة الكاملة على المنطقة العربية ذات الموقع المهم والامكانيات الاقتصادية الكبيرة بالعودة إلى الخريطة التي قدمها وفد الحركة الصهيونية العالمية إلى مؤتمر السلام في باريس في العام 1919.

وإذا ما أردنا تفصيل أهم أسباب تلك الخطورة الاستثنائية، لا بد لنا من التوقّف عند بعض العناوين التي وردت في السنوات الفاصلة بين وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في شهر كانون الثاني / يناير من العام 2017 وعودته إليه في أوائل العام 2025:

أول هذه العناوين كان في موافقة واشنطن رسمياً على مشروع تحول الكيان الصهيوني إلى “دولة اليهود في العالم”، إنْ عبر نقل سفارة الولايات المتحدة إلى مدينة القدس “العاصمة الأبدية لإسرائيل”، أم عبر تطويب أرض الجولان، خلافاً للقانون الدولي، باسم الكيان المغتصب، أم أيضاً عبر المساعدات العسكرية والاستخباراتية والمالية والدبلوماسية  الضخمة التي قدّمت إلى حكومة نتنياهو، خاصة منذ خريف العام 2023، والتي ترافقت مع عودة الحديث عن “قناة بن غوريون” الممتدة من إيلات إلى غزة، وعن مشروع “الريفيرا” الغزاوية بعد تهجير أصحاب الأرض منها… ولا ننسى ما يحاك بالنسبة للوضع في باب المندب وخليج عدن بعد اعتراف نتنياهو الفجائي، منذ بضعة أيام، بدولة “صومال لاند” (أرض الصومال).  

ثاني هذه العناوين هو ما يجري، اليوم، من تنفيذ للمرحلة الثانية من مخطط الاستيلاء التدريجي على كل الجنوب اللبناني وصولاً إلى صيدا غرباً وجبل الشيخ شرقاً،  عبر مشروع تحويل منطقة الشريط الحدودي اللبناني إلى “منطقة اقتصادية” بأموال عربية وتحت إشراف أميركي – إسرائيلي مباشر، بعد أن تم سلب الشعب اللبناني حقه في جزء من مياهه الإقليمية تحت مسمَّى “حقل كاريش” الذي يحتوي ثروة غازية مهمة. من أجل ذلك، يرفض الكيان الصهيوني وقف عدوانه على الجنوب، وكذلك الانسحاب من التلال الخمس التي احتلها في خريف ٢٠٢٤، مستفيداً من الموقف الأميركي الذي أدّى، بعد ما سمي “وقف إطلاق النار في تشرين الثاني / نوفمبر من العام ٢٠٢٤، إلى استبعاد قوات الأمم المتحدة وتسلّم “لجنة الميكانيزم” التي يرأسها ضابط أميركي وتشرف عليها موفدة ترامب الصهيونية مورغان أورتاغوس.

ثالث هذه العناوين، ويكمن في توسيع دور “لجنة الميكانيزم” التي انتقلت من الإشراف على اجتماعات وقف إطلاق النار (الذي لم يتوقف أصلاً)، ومرحلته الأولى نزع كل السلاح جنوب الليطاني، إلى الإشراف على اجتماعات سياسية ودبلوماسية برئاسة أورتاغوس شارك فيها من الجانب الإسرائيلي نائب رئيس قسم السياسات الخارجية ومن الجانب اللبناني السفير السابق في واشنطن سيمون كرم، وطرحت في بداياتها “صياغة أفكار تعزز التعاون الاقتصادي” بين لبنان والكيان الصهيوني… وهذه النقلة النوعية من النقاشات العسكرية والأمنية غير المباشرة إلى الحوار السياسي المباشر تذكر بما جرى بعد العدوان الصهيوني في العام 1982 والمباحثات التي تمت في منطقة خلدة (جنوب بيروت) باشراف السفير أنطوان فتال والتي أدّت، آنذاك، إلى اتفاق 17 أيار/ مايو 1983 الذي أكّد على “إعلان نهاية حالة الحرب بين لبنان وإسرائيل وإقامة علاقات ودية” مع الكيان، وكذلك “إنشاء مكاتب اتصال بين البلدين لعقد اتفاقيات تجارية”.

هذا الأمر الأخير يطرح سؤالاً مشروعاً حول مسألة دخول لبنان مجدداً في مرحلة تطبيع العلاقات، وهل أن ما جاء من تصريحات بعض المسؤولين اللبنانيين والأميركيين، وبالتحديد ما جاء سابقاً على لسان رئيس الحكومة في إحدى المقابلات التلفزيونية، وما تلاه من دعوة الموفد الأميركي توم برّاك للبنانيين إلى الانخراط في مشروع “السلام الابراهيمي” للمنطقة، هو ما ينفذ اليوم في الناقورة … بمعنى آخر: هل عدنا، كما دعانا رئيس الجمهورية الأسبق أمين الجميل، إلى ما كنا قد رفضناه منذ واحد وأربعين عاماً، إلى 17 أيار/ مايو جديد، مرفق هذه المرة بتهجير جماعي لما يقارب مليون لبناني من أرضهم، تيمناً بما يجري في فلسطين المحتلة، وبترسيم جديد لحدودنا؟

لقد لفتنا النظر، منذ تسعينيات القرن الماضي، إلى خطورة مشروع “الشرق الأوسط الجديد” وتوجهاته لإعادة ترسيم حدود دول المنطقة عبر تفتيتها إلى دويلات طائفية واثنية، وهو ما جرى في ليبيا والسودان والعراق واليمن، وما يجري اليوم في سوريا ولبنان؛ كل ذلك عبر انصياع كلي للأنظمة العربية تجاه المشروع الامبريالي الأميركي الذي يسعى للخروج من أزمته الخانقة عبر تشديد هيمنته العسكرية على العالم ومنابع الطاقة والمياه والغذاء وطرق إمدادها، بدءاً بالحديقة الخلفية، أي أميركا اللاتينية، ووصولاً إلى الصين… ونعود اليوم إلى دق ناقوس الخطر الذي يهدد بزوال العالم العربي، بدءاً من فلسطين ولبنان، وتالياً سوريا. أما الحل، فيكمن في التحرك السريع لتجميع القوى التي ترفض التطبيع في إطار حركة تحرر عربية جديدة تعلن عن مكوناتها وبرنامجها للحل الجذري وتضع الآليات المرحلية لتنفيذه.

المراجع

(١) – نذكّر ببعض ما تضمنه الاتفاق الأخير لوقف إطلاق النار على لبنان، والذي تم بإشراف أميركي – فرنسي: 

1- “ستنفذ إسرائيل ولبنان وقف الأعمال العدائية ابتداء من الساعة 04:00 (بتوقيت إسرائيل / شرق أوروبا) في 27 نوفمبر 2024، وذلك وفقاً للالتزامات المفصلة أدناه… [نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر].

 2- ابتداء من الساعة 04 (بتوقيت إسرائيل / شرق أوروبا) في 27 نوفمبر 2024، ستمنع حكومة لبنان حزب الله وجميع المجموعات المسلحة الأخرى في أراضي لبنان من تنفيذ أي عمليات ضد إسرائيل [ وهذا ما ينفذ اليوم من قبل الجيش اللبناني]، ولن تنفذ إسرائيل أي عمليات عسكرية هجومية ضد أهداف جنوب لبنان، بما في ذلك الأهداف المدنية والعسكرية، أو أي أهداف أخرى تابعة للدولة في أراضي لبنان، سواء برأ أو جواً أو بحراً [لم تتوقف الاعتداءات، ليس فقط في الجنوب، بل كذلك في البقاع؛ هذا، عدا عن المسيرات التجسسية التي تجوب سماء لبنان يومياً، وعن قصف طال، مرات عدة، مراكز الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل]”.

Author

  • د. ماري الدبس

    نائب الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني والمنسقة السابقة للقاء اليساري العربي.

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

الصمود والمقاومة في مواجهة الإبادة والتهجير

عامان من الصمود الأسطوري، وربع مليون، بين شهيد وجريح ومفقود وَلَدَت حالة وعي شعبي أممي بحقيقة الصراع وجذوره، وتنامت حالة تضامن عابرة للبنى الاجتماعية والسياسية في أقطار القارات الخمس، وتحول الرأي العام لصالح الشعب الفلسطيني وحقوقه داخل عدد من الدول، كانت تعتبر معاقل نفوذ وسطوة إعلامية صهيونية

التحديات التي تواجهها الدولة المصرية مع بداية عام 2026

اتسعت الفجوة الطبقية بين القلة التي تتحكم في السلطة ورأس المال، وبين ملايين الشعب المصري الذي ازداد فقراً، وبدأت الديون في ازدياد مستمر لأننا لا ننتج إلا قليلاً، ولأنه تم صرف القروض على البنية التحتية وبناء مدن جديدة لا يسكنها أحد إلا نسبة ضئيلة، دون الالتفات إلى أهمية التنمية الإنتاجية وأهمية تنمية الموارد البشرية

المؤتمر القومي العربي يدين الاعتراف الصهيوني بانفصال شمال الصومال ويدعو إلى تشكيل جبهة عربية-إفريقية لمواجهة الاختراق الصهيوني

دان المؤتمر القومي العربي اعتراف الكيان الصهيوني بالكيان الانفصالي شمال الصومال، مشيراً إلى ما ينطوي عليه هذا الانفصال من تعميق لأزمة جمهورية الصومال وتأبيد الانقسام