الصمود والمقاومة في مواجهة الإبادة والتهجير

-+=

نعرف جميعاً أن وقف إطلاق النار لم يكن بإرادة “إسرائيلية”، بل كان مفروضاً، وبقرار من قبل إدارة ترامب، فاستمرار جبهة غزة مشتعلة، أصبح عبئاً على الإدارة الأميركية، نتيجة تعثر الكيان الصهيوني وفشل آلته العسكرية في حسم عدوانه وتحقيق أهدافه في القضاء على المقاومة الفلسطينية ونزع سلاحها وتهجير الشعب الفلسطيني وكسر حالة الصمود في الميدان وداخل بيئة المقاومة وحاضنتها الشعبية، وعجزه في ابتزاز المقاومة خلال جولات المفاوضات الماراثونية، رُغم حرب الإبادة وجرائم الحرب المستمرة منذ عامين. 

عامان من الصمود الأسطوري، وربع مليون، بين شهيد وجريح ومفقود وَلَدَت حالة وعي شعبي أممي بحقيقة الصراع وجذوره، وتنامت حالة تضامن عابرة للبنى الاجتماعية والسياسية في أقطار القارات الخمس، وتحول الرأي العام لصالح الشعب الفلسطيني وحقوقه داخل عدد من الدول، كانت تعتبر معاقل نفوذ وسطوة إعلامية صهيونية، وما مشهد نتنياهو معزولاً في آخر ظهورٍ له على منبر الأمم المتحدة، والحَرَج الذي أصاب قيادات سياسية داعمة للكيان الصهيوني أمام مجتمعاتها وبرلماناتها في العديد من الدول الغربية، مروراً بعقد المؤتمر اليهودي الأول المناهض للصهيونية في شهر حزيران \يونيو الماضي في فيينا، إلا مظاهرَ لتحولاتٍ كبرى أوصلت الإدارة الأميركية إلى واقع مفاده، أن استمرار جبهة غزة مشتعلة دون تدخل يحقق “شكلاً من أشكال وقف اطلاق النار” لم يعد يخدم “خطة الطريق الترامبية” لبناء “الشرق الأوسط الجديد” الصهيوني الأميركي ضمن إطار ومفهوم استراتيجية الأمن القومي الأميركي الجديدة (2025 – 2026)، كمنطقة للاستثمار الاقتصادي الاستراتيجي، وتقليص كلف التدخل الإمبريالي بطرقها السابقة، وإخماد  منسوب المواجهة العسكرية في منطقتنا، دون إغفال أولوية حماية مصالح شركائها وحلفائها المحليين وفي مقدمتهم “اسرائيل”.

تحولات في العلاقات العربية الأميركية

لا بد من قراءة التحولات التي تشهدها بعض الدول العربية، الخليجية تحديداً، وهي الحليف التقليدي للولايات المتحدة الأميركية، والتي انتقلت وفق مؤشرات موضوعية، من حالة التبعية شبه الكاملة للولايات المتحدة الأميركية والاعتماد شبه المطلق عليها سياسياً واقتصادياً وأمنياً وعسكرياً إلى شراكات اقتصادية جديدة مع الصين وروسيا، و”مساومتها” الولايات المتحدة لتكون شريكة لها في تحديد ملامح “الشرق الأوسط الجديد”، واتفاقيات تطوير قطاعات الطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي والاقتصاد التكنولوجي الذي سجل أعلى معدلات نمو، تتراوح بين 13 – 16 %، ما يتقاطع وإعطاء أدوار ومساحة نفوذ أكبر لحلفاء الولايات المتحدة التقليديين في المنطقة، ويساهم في تقليل كلف الإبقاء على نفوذها، من خلال تحمل شركائها لهذه الكلف. فنحن لسنا أمام حالة صد أو مواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية، بقدر ما هي حالة بحث عن شراكة في تنفيذ مشروع “الشرق الأوسط الجديد”.

الاحتلال يحول خرق وقف إطلاق النار إلى “واقع روتيني”

استمرار خرق وقف إطلاق النار يحوله إلى “واقع روتيني” يخدم أهداف نتنياهو السياسية ومساعي أقصى اليمين الصهيوني الاستيطانية وغايات جيش الاحتلال الأمنية، وكلها تلتقي عند سعي الاحتلال تحقيقَ ما لم يُحققه خلال عامي الإبادة من أهداف معلنة، ولو بوتيرة أقل، ويسمح له باستهداف قدرات المقاومة البشرية والتسليحية، وهو لم يتوقف لحظة عن ذلك. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فمشروع إعادة الاستيطان لمناطق مختلفة في غزة ما زالت قائمة، رغم تضارب تصريحات قادة الاحتلال حول الموضوع، لكن تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي “يسرائيل كاتس” الأخيرة عن توجه الكيان لبناء مستوطنات مدنية – عسكرية على غرار “نواة ناحال” تؤكد ذلك، وهذه “العقيدة الاستيطانية” راسخة لدى مجتمع الاحتلال الصهيوني بكل مستوياته ومكوناته.

مشروع ترامب يخدم الاحتلال

مشروع ترامب لقطاع غزة لا يتناقص والرؤية الصهيونية، وتحديداً رؤية نتنياهو وعتاة اليمين الديني الصهيوني في الجوهر، فهو في المحصلة يسعى لتحويل قطاع غزة إلى مشروع استثماري اقتصادي ضخم أطلق عليه “مشروع شروق الشمس” يشرف عليه بشكل مباشر جاريدو كوشنر صهر ترامب، وستيف ويتكوف، وبتخطيط من كبار مستشاري البيت الأبيض جوش غرينباوم ومسؤولين إسرائيليين، وهو شكل من الاستعمار الإحلالي والاستيطان الذي يأخذ شكل المشروع الاقتصادي، يسلب الأرض ويسطو عليها عنوة، بعد أن تم تدمير كل ما فوقها من حجر وبشر. وما يستطيع ذلك من عبارات غامضة بشأن مصير شعبنا الفلسطيني في غزة، وهذا بحد ذاته تغييب لأي سيادة لشعبنا الفلسطيني على أرضه، والشروع في خطط التهجير “الناعم” بوسائل مختلفة، تستغل عدم الشروع بالإعمار الفوري المتعمد، وعدم توفير متطلبات الحد الأدنى من الحياة، وتحويله إلى واقع مزمن، يشجع “الهجرة الطوعية” لأسباب حياتية واقتصادية.

الاستيطان يتمدد في الضفة وخطر التهجير يتصاعد

كل هذا لا يمكن فصله عن مخطط اليمين الصهيوني الاستيطاني في الضفة، واستمرار مشروع توسيع المستوطنات، وبناء مستوطنات جديدة فوق أراضٍ تم استلابها، حيث أقر الكابينيت الصهيوني مؤخراً انشاء 19 مستوطنة جديدة، وإعادة بناء أربع مستوطنات كان قد تم تفكيكها سابقاً، إضافة إلى بناء قواعد عسكرية جديدة لجيش الاحتلال في الضفة، وحماية هذا الجيش للاعتداءات المتكررة من قبل المستوطنين، والإمعان في بناء بوابات تجاوز عددها الستمائة بوابة تغلق بالأقفال مداخل ومخارج البلدات والقرى والمدن، والتضييق المنهجي على حركة الناس في حياتها اليومية، في محاولة لفرض إعادة التشكيل الديمغرافي، وفرض ظروف صعبة تدفع الناس للتمركز في المدن، وهجر الرفيق الفلسطيني، وضرب الاقتصاد الزراعي الفلسطيني، والتمادي في حرمان الناس من الوصول إلى أراضيها والعناية بها، وزراعتها، وجني ثمارها. 

بالمحصلة، مخطط التهجير وتفريغ الأرض واحد، سواء في غزة أو الضفة، مع اختلاف وتنوع الأدوات والوسائل، وكلها تلتقي في تحويل حياة شعبنا الفلسطيني إلى جحيم يدفع الناس للهجرة بحثاً عن ظروف حياتية أفضل، هذا ما يفكر ويعمل عليه الاحتلال الشراكة وتواطؤ أميركي شديد الوضوح.

تصعيد العدوان في شمال الضفة الغربية

وفي مناطق شمال الضفة الغربية تمادي العدوان “الإسرائيلي” ضد أبناء شعبنا الفلسطيني لإنهاء “عملية الحجارة الخمسة”، التي تأتي لتستكمل تدمير البنية التحتية والعمرانية والمدنية لمخيمات شمال الضفة الغربية؛ جنين، طولكرم، وعين شمس، ومحو معالمها، وإعادة هندسة “بنائها”، وتقليص تعدادها الديمغرافي، بما يخدم إلغاء سمتها كمخيمات للاجئين، ذاكرة القضية الفلسطينية وشاهدها الحي، من أجل فرض هيمنة أمنية صهيونية مباشرة في محيطها، والدفع لفرض خيار التهجير لأبناء شعبنا، تتحول بموجبه هذه الخطة إلى نموذج يسعى الاحتلال لتعميمه في تهجير باقي مخيمات ومناطق الضفة الغربية بالقوة الغاشمة.

نضيف إلى ما سبق تشكيل فرقة جديدة لجيش الاحتلال الصهيوني “الفرقة 96 جلعاد”، التي انتشرت على امتداد غرب نهر الأردن من بحيرة طبريا شمالاً وحتى البحر الميت جنوباً، لتوفير المتطلبات العسكرية والأمنية لتكون جاهزة في مهمتين، الأولى لتكون أحد أدوات التهجير القسري من الضفة الغربية، والثانية للشروع في احتلال مناطق “جلعاد” الأردنية التي تضم محافظات إربد وعجلون وجرش، ضمن مشروع “إسرائيل الكبرى”، إذا تحققت الشروط الموائمة للاحتلال للقيام بذلك.

لكن الوعي الجمعي الفلسطيني، ومقارعة هذا الاحتلال وجهاً لوجه لقرابة ثمانية عقود ولّدت إرادة مقاومة وصمود استثنائية، وعززت تشبث شعبنا بأرضه، ولم يعد مقبولاً تكرار نكبة 1948 مهما حصل، ومهما كانت التضحيات، وهذه القناعات أصبحت راسخة لدى شعبنا من النهر إلى البحر، في الضفة، وغزة، والأرض المحتلة عام 1948، والشتات الفلسطيني متشبث بحقه في العودة.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

بعد 41 عاماً .. عود على بدء : إتفاق 17 أيار/ مايو بحلة جديدة

نعود اليوم إلى دق ناقوس الخطر الذي يهدد بزوال العالم العربي، بدءاً من فلسطين ولبنان، وتالياً سوريا. أما الحل، فيكمن في التحرك السريع لتجميع القوى التي ترفض التطبيع في إطار حركة تحرر عربية جديدة تعلن عن مكوناتها وبرنامجها للحل الجذري وتضع الآليات المرحلية لتنفيذه

التحديات التي تواجهها الدولة المصرية مع بداية عام 2026

اتسعت الفجوة الطبقية بين القلة التي تتحكم في السلطة ورأس المال، وبين ملايين الشعب المصري الذي ازداد فقراً، وبدأت الديون في ازدياد مستمر لأننا لا ننتج إلا قليلاً، ولأنه تم صرف القروض على البنية التحتية وبناء مدن جديدة لا يسكنها أحد إلا نسبة ضئيلة، دون الالتفات إلى أهمية التنمية الإنتاجية وأهمية تنمية الموارد البشرية

المؤتمر القومي العربي يدين الاعتراف الصهيوني بانفصال شمال الصومال ويدعو إلى تشكيل جبهة عربية-إفريقية لمواجهة الاختراق الصهيوني

دان المؤتمر القومي العربي اعتراف الكيان الصهيوني بالكيان الانفصالي شمال الصومال، مشيراً إلى ما ينطوي عليه هذا الانفصال من تعميق لأزمة جمهورية الصومال وتأبيد الانقسام