العبيد لا ينتصرون

في 3 يونيو 1964 استضاف الكيان الصهيوني النسخة الثالثة لبطولة كأس أمم آسيا لكرة القدم بمشاركة 3 دول أخرى. فاز المنتخب الصهيوني بالبطولة بعد تنافسه مع منتخب الهند، وجرت المباراة الأخيرة على ملعب يقع في ضواحي مدينة يافا وبالتحديد في قرية الشيخ مؤنس قبل أن يقوم الاحتلال الصهيوني بدمج يافا وقرية الشيخ مؤنس ليصبح اسمها اليوم تل أبيب.

قبل تلك المباراة بثلاثين عاماً جرت على نفس الملعب مباراة التأهل لنهائيات كأس العالم عام 1934 بين منتخبي مصر وفلسطين وكانت الدولتان، آنذاك، تحت الاستعمار البريطاني.

مثّل المنتخب الفلسطيني في تلك المباراة كلا مِن: فريدمان، بيرغر، واينبيرغ، فوكس، يوهان، فيدلر، إفرام، ليفي، هارلاب، زاليفانسكي، وداييم رايخ. وخلت القائمة من أي لاعب فلسطيني!

مبنى الرايخستاغ

ولفهم القصة الغريبة يجب أن نعود عاماً واحداً ونصف العام إلى الوراء ونذهب إلى العاصمة الألمانية برلين، حيث فاز حزب العمال الوطني الاشتراكي بالانتخابات العامة، وأصبح من حق الحزب، الذي يُطلق عليه اختصاراً إسم(الحزب النازي)، تشكيل الحكومة الجديدة نظراً لحصوله على أغلبية مقاعد البرلمان الألماني المعروف بالرايخستاغ. وهو ما حدث بالفعل في 13 يناير 1933 عندما أصدر الرئيس الألماني بول هيندنبيرغ، على مضض، أمراً رئاسياً بتكليف أدولف هتلر مستشاراً لألمانيا وهي التسمية الألمانية لمنصب رئيس الوزراء. ما أن باشر هتلر أعماله حتى تكدّس عشرات الآلاف من اليهود الألمان في سفن الهجرة هرباً من بلادهم ومن هتلر ومن حزبه المتعصب الذي يعتبر اليهود وراء هزيمة ألمانيا للحرب العالمية الأولى وما جرته على الشعب الألماني من ويلات استمرت لعقدين من الزمان.

كانت سفن الهجرة في القرون الماضية لا تخلو من الأمراض والأوبئة، ولكن لم يحمل أي منها، طوال الهجرات البشرية البحرية، ما حملته سفن الهجرة الألمانية المتجهة إلى فلسطين، حيث نقلت الأحقاد والتطرف والأطماع المتمثّلة بداء الصهيونية ليبتلي بها الشرق الأوسط والعالم كله.

صورة المنتخب الفلسطيني المكون من اللاعبين اليهود المهاجرين من ألمانيا ويبدو على قمصان اللاعبين حرف الـ إشارة إلى فلسطين أو كما تكتب بالإنجليزية Palestine.

استقبل الفلسطينيون هؤلاء المهاجرين بكل ترحاب وسذاجة، تعاطفاً معهم في محنتهم، وكان من بين المهاجرين مجموعة من لاعبي كرة القدم فمارسوا اللعبة مع أصحاب الأرض الأصليين الذين لم يكونوا بمهارة وقوة الوافدين الجدد. وعندما شاركت فلسطين في تصفيات كأس العالم عام 1934 قامت الإدارة البريطانية بتشكيل معظم المنتخب الفلسطيني من اللاعبين الألمان المهرة، وهو ما أثار غضب اللاعبين الفلسطينيين فرفضوا الانضمام للمنتخب الفلسطيني الذي أصبح يمثّله لاعبون ألمان يتحدثون العبريّة ولم يمض على وجودهم في فلسطين سوى عدة أشهر، فقاطعوا المنتخب بحكم أنهم الأحق بتمثيل بلادهم لكن الإدارة البريطانية تجاهلتهم. لكن كان هناك من لم يتجاهلهم، وهم المصريون. فعندما سمعوا بما حدث، قرر المنتخب المصري الانتقام للاعبين الفلسطينيين وأخذ اللاعبون المصريون المباراة من جانب سياسي وقومي، فهزموا اللاعبين الألمان بـ 7 -1 في القاهرة وسط حضور جماهيري كبير وعاطفة قومية طغت على ملعب العباسية، ثم هزموهم مرة أخرى في مباراة العودة على أرض فلسطين بـ 1- 4

استغل الكيان الصهيوني، منذ إنشائه عام 1948، ضعف التواجد العربي في الاتحاد الآسيوي، فشارك باسم “إسرائيل” بكثافة في النشاط الرياضي لنيل الشرعية المفقودة لكن جميع الدول المحيطة بها، بل وبعض الدول الآسيوية الأخرى، رفضت التعامل معها كتعبير عن عدم اعترافها بالكيان الطارئ. رغم ذلك ظل يشارك بفعالية حتى نجح السيد أحمد السعدون رئيس مجلس الأمة الكويتي الحالي، وكان خلال الستينيات والسبعينيات رئيساً للاتحاد الكويتي لكرة القدم، في حث الدول العربية على الانضمام للاتحاد الآسيوي لتكوين كتلة رياضية من الاتحادات العربية والإسلامية بالإضافة إلى الاتحادات المتعاطفة مع القضية الفلسطينية. استطاعت هذه الكتلة في عام 1976 طرد الاتحاد الصهيوني من الاتحاد الآسيوي ومنعه من المشاركة في الأنشطة الرياضية الآسيوية لأنه لا ينتمي لقارة آسيا، فقامت أوروبا فيما بعد بضم الكيان الصهيوني إلى الاتحاد الأوروبي الرياضي. أي أنّ أوروبا تخلّصت منهم كصهاينة ثم استعادتهم كاتحاد رياضي، وكان عليها أن تستعيد أحفاد وأبناء مهاجريها الألمان والروس والهولنديين والنمساويين والمجريين وبقية حثالاتها من أرض فلسطين.

الرياضة كالثقافة والإعلام والفنون والاقتصاد، كلها تساهم في تشكيل وعي الإنسان، فإذا استُغلّت بشكل صحيح سيكون الشعب واعياً وحرّاً وملتزماً بقضاياه الوطنية والإنسانية، وإذا استُغلّت لمصلحة حاكم ما أو نظام معيّن أو لهدف غير سوي، سيبدو الشعب منغمساً في التفاهات والقشور ومنفصلاً عن هموم بلاده وأمّته.

في عام 1548 أصدر الفرنسي” إتين دي لابويسي” كتابه القيّم “العبودية المختارة”. أقتطف منه هذه العبارة المهمة: “تستخدم السلطة الحيل والكذب والإعلام الفاسد، والمهرجانات المنحطّة والحفلات الشعبية السخيفة لتخدير الناس وتنويمهم”. 

في ظروف معينة، كالعدوان الصهيوني الحالي والمستمر على الشعب الفلسطيني، تندرج الرياضة ضمن المهرجانات المنحطّة التي تستغلّها السلطة لتخدير الشعب وتنويمه كما قال لابويسي. ولو نظرنا حالياً لفعاليتين رياضيتين تجريان الآن، ويشارك فيهما العرب بفعالية، الأولى كأس أمم إفريقيا التي شهدت توالي خسائر المنتخبات العربية وخروجها من البطولة. والبطولة الثانية هي فعاليات النسخة الـ 18 لبطولة كأس آسيا لكرة القدم وتجري على ملاعب دولة قطر، وتلقي المنتخبات العربية المشاركة فيها مصيراً مشابهاً لنظيراتها العربية في بطولة إفريقيا.

في رأيي المتواضع، أن الخسارة ليست مشينة في الرياضة فهي جزء من اللعبة لكن المشين هو المشاركة في هذه المهرجانات والتي لا أجد لها تفسيراً آخراً غير أن الهدف منها هو أن ترتفع هتافات الجماهير المتحمّسة في المدرجات كي تطغى على صرخات وأنين وبكاء أطفالنا وأمهاتنا وأخواننا في غزة.

لن نتذكر البطولة الآسيوية الحالية في قطر بكونها أُقيمت أثناء العدوان الوحشي على غزة فقط، بل سنتذكرها أيضاً لأنها البطولة الآسيوية الأخيرة التي تُقام بدون مشاركة منتخب الكيان الصهيوني.

(*) العنوان مقولة للفيلسوف أرسطو.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

الطوفان وأزمة عزمي بشارة

إن صلب أزمة بشارة مع الطوفان أن صوت الأكاديميا والتنظير الحبيس في الصالونات الثقافية ودفات الكتب يدخل في امتحان حقيقي ما إن تقع المعركة، وفي هذا الامتحان برزت هشاشة منظور بشارة ولتذهب كل الجهود والموارد التي عمل عبرها في تقديم أطروحته.

في مفهوم أسبقية الواقع على الفكر والبراكسيس والتغيير

علاقة الفكر بالواقع، وعلاقة الأسبقية بينهما، والبراكسيس قضايا تُشكل أحد المباحث الرئيسة في النظرية الماركسية – اللينينية التي أدخلت من خلالها جديدها في الفلسفة النفيي لمفهومها المثالي والمادي الميكانيكي في آن معاً. فالفكر (الوعي) غير منفصل عن الواقع وتناقضاته وهي علاقة توجب تمييز مفهومها، ولتحديد تلك العلاقة هناك ضرورة، منهجية، لتحديد كيفية ارتباط الفكر بالواقع وبالبراكسيس ودورهم في التغيير.

السودان.. التعليم وبناء الإنسان

نظام تعليمي لا يملك المواطن القدرة العقلية والإرادة المعنوية التي تساعده على اكتساب المهارات لقراءة وفهم واقعه للوصول إلى حقيقة وجوهر ما يدور حوله من ظواهر وأحداث. ولا يهتم برغبات التلميذ ولا يلبي حاجاته ولا يطور القدرات التي تمكن التلميذ من الخلق والابتكار والإبداع أو تملكه مهارات التحليل والتركيب والقبول والرفض والرؤى النقدية.

[zeno_font_resizer]