في الذكرى الـ 37 لاستشهاد حسين مروَّة نضيء، سريعاً، على أهم مراحل حياته لإبراز تطور مسيرته النضالية – الفكرية من مرحلة إلى مرحلة أخرى، التحول في حياته من الدراسة الدينية إلى دراسة الفلسفة والاختصاص بها، مع ما يحمله كل ذلك، في الوقت نفسه، من مسألة في غاية الأهميَّة، تدخل في صلب مفهومه للعلاقة بين القديم والجديد، والنظريات المعرفية، وهي رفضه للقطيعة المعرفية الميكانيكية بين القديم والجديد، فهو يرى أن تلك العلاقة هي علاقة تطور معرفي، بمعناه المادي التاريخي، لذلك لم يلغِ ما أفاده من معارف خلال مرحلة دراسته الدينية في النجف.
حسين مروَّة في سطور:
الطفولة والتهيئة “للهجرة إلى النجف”
ولدَ حسين مروَّة في قرية حداثا قضاء بنت جبيل- جبل عامل جنوب لبنان في العام 1910 وذلك بحسب الهوية، ولكنه يقول إنَّ والده علي مروّة “سجل بخطه انني ولدت عام 1326 هجرية ويوازيها 1908 ميلادية” (مروة حسين، ولدت شيخاً وأموت طفلاً، سيرة ذاتية في حديث أجراه معه عباس بيضون، ط 1، دار الفارابي، بيروت، 1990، ص. 15). وإذا “علمنا أنّ أول محرم 1326 ه، يصادف فيه الثلاثاء الرابع من شباط 1908، وأول محرم 1327 ه، يصادف فيه السبت 23 كانون الثاني 1909، يتبّين لنا أن ولادة حسين مروَّة هي في شهر من شهور 1908م” ( مُروَّة أحمد، سيرة حسين مُروَّة كما أرادها أن تكتب. ولدت رجلاً وأموت طفلاً، ط1، دار الفارابي، بيروت، 2018، ص. 31). وعن والده يقول إنه كان رجل دين تلقى دراسته الدينية في النجف “وكان رجال الدين وعامة الناس يقدرونه ويكرمونه لما عرف به من نزاهة وترفع وعزة نفس ولاجتنابه محاباة الزعماء والاقطاعيين، ولورعه الديني”. (مروة حسين، ولدت شيخاً وأموت طفلاً…، ص. 15).
عاشَ حسين مروَّة في طفولته تربية صارمة، كان لها انعكاسها على شخصيته، لأن والده الشيخ علي مروّة كما يقول حسين مروَّة كان يريده أن يكون “خليفته في عمله الديني (…). الأمر الذي طبع حياتي كلها. ومن جملة ما أصابني من هذه التربية حرماني الكلي من طفولتي (…). أورثتني تربية الوالد حياء مقيماً لكنها تركت في خصالاً حميدة منها عزة النفس والترفع عن الدنايا والتورع الخلقي عن كل ما يدنس النفس ويشوب سيرة المرء وسلوكه وتهذيب النفس واللسان”. (ولدت شيخاً وأموت طفلاً، ص. 16. وأيضاً، في مروة أحمد، سيرة حسين مُروَّة كما أرادها أن تكتب…، ص.ص 31-32). حتى والدته (سكنة) كانت، كما يذكر حسين مروَّة، قاسية في تربيته وذلك من أجل ضبط سلوكه المرسوم له في إطار الحُلُم، حُلُم العائلة، يَصِفُ ذلك بقوله “تعلّمتُ في طفولتي مكابدة الحرمان وتكلّفتُ مسالك الكبار، من هنا كان عنواني للسيرة التي كنت أزمَعُ كتابتها (وُلِدتُ شيخاً وأموت طفلاً)”. (مروة أحمد، سيرة حسين مروة كما أرادها أن تكتب…، ص. 33). وعن هذا الحُلُم يقول حسين مروَّة إنه “لَبِسَني قبل أن أجتاز سنَّ الثامنة.. ولَبِسَتْني معه العمامة والجبَّة قبل أوانهما ”الطبيعي“.. العمامة والجبَّة، كرمزٍ للحلم ذاتِهِ أولاً، وكأداةٍ إلزامٍ لي بموجبات الحلم ثانياً.. قلت: حلمي؟.. لا عفواً.. ذلك كان منذ البدء، حلم أبي، ثم أمي والأسرة، ثم سائر العائلة في سائر جبل عامل”. (مروة حسين، من النجف دخل حياتي ماركس، مجلة الطريق، بيروت، العددان الثاني والثالث، حزيران (يونيو)، 1984، ص. 172).
إذنْ، كانت تنشئة حسين مروَّة كلها تصب في تأهيله للذهاب إلى النجف ليعود إلى قريته رجل دين مُعَمم، وبسبب ذلك انصب همَّه على السفر إلى النجف وتلبية رغبة والده، ولكن وفاة والده وضعت عائلته في حال من الفقر أثرَّت على تحقيق تلك الرغبة، إلَّا أنه عمل على تحقيق حُلُم والده ووالدته، وبدأ يذهب إلى القرى التي تُعقد فيها حلقات الدرس، يقول “لقد شعرتُ بنوعٍ من النَّهم نحو العِلم وبدأتُ أجري نحو القرى مشياً على الأقدام لكي أتصل بأهل العِلم وأدرسَ عليهم ممّا يؤهلني لتحقيق ذلك الحُلُم، وكانت أمّي تنظر إليّ باعتزاز وتشجّعني، وكان هذا يزيدني عزماً وإصراراً على المضي نحو العلم”. (مروة أحمد، سيرة حسين مروة كما أرادها أن تكتب…، ص. 45). وبقي يتنقل بين المدارس إلى أن أنهى دراسته في مدرسة النبطية (جنوب لبنان)، وبذلك تأهل للسفر إلى النجف، وبعد تأمين المستلزمات المادية سافر حسين مروّة، أو بحسب تعبيره هاجر، إلى النجف في العام 1924.
المرحلة النجفيَّة
عند وصول حسين مروَّة إلى النجف كانت فرحته كبيرة فقد أحسَ أنه في طريقه إلى تحقيق حُلُم والده ووالدته. يصف لحظة وصوله إلى النجف بأنها كانت لحظة فرح وانبهار، ولكن كان عليه، بحسب نظام التدريس المتبع في النجف اختيار الأستاذ الذي سوف يدرس عليه، وأيضاً كان عليه البدء في دراسة المنطق، فهو قد أنهى دراسة النحو التخصصية في مدارس جبل عامل. ويذكُر في سيرته أنه في تلك المرحلة انتقلَ مع زملائه من طلبة جبل عامل إلى دراسة المنطق على أستاذ تركي الأصل، كان له أثره الكبير على مجرى حياة حسين مروة، هو “الشيخ محمد الكنجي ولهذا الأستاذ أثره في حياتي فإلى كونه متمكناً من المنطق، قديراً في تدريسه كان رجل دين مستنيراً بعيداً عن الجمود والتزمت. وقد يكون لهذا الاستاذ يد في التغيير الذي قلب فيما بعد مجرى حياتي”.( مروه حسين، ولدت شيخاً وأموت طفلاً…، ص. ص. 31-32. وأيضاً مروة أحمد، سيرة حسين مروة كما أرادها أن تكتب…، ص.67).
يقول حسين مروَّة إنَّ هذا الحُلُم لم يعشْ معه في النجف أكثر من عام، بدأ الحُلُم “يَنْتَابه الضمور والذبول في ذاتي، أي أخذ يفقد – شيئاً فشيئاً- صفته كحلم لي، ليعود أخيراً الى ما كانه في البدء: حلم الأسرة والعائلة في جبل عامل، فحسب”.( مروة حسين، من النجف دخل حياتي ماركس، مجلة الطريق، مصدر سابق، ص. 173.) فقرر العودة إلى لبنان، وترك الخط المرسوم له وإنْ كان إلى المجهول، “إلى المجهول؟.. لا.. سرعان ما تحوَّل المجهول معلوماً.. ذلك بفضل الحلم المنطفئ ذاته (…) فهو الذي أشعل في داخلي (…) حافز المغامرة في طلب المعرفة حتى في أعمق غابات المجهول (…) المجهول صار معلوماً، هو العلم إذن.. هو العلم، نهجاً وهدفاً معاً”. ( المصدر نفسه، ص. 174).
إنه الاختيار الأوّل الذي اتخذه حسين مروَّة في العام الأوَّل من دراسته في النجف أي تحديد وجهة مصير حياته، يقول: “كان عليَّ أن أختار: إمَّا قرار العودة الى الارتباط النهائي بذلك الحلم الذي حملني هو الى دار الهجرة، النجف، أي أن أقرر – منذ لحظتي تلك- متابعة السير في مسار ”المهنة“ التي كانت كل مطمح الحلم.. وإما أن أقرر الانعطاف القاطع عن هذا المسار. لكن الى أيْن؟.. هذا الأمر لم يكن له حساب عندي في لحظات الاختيار، لأنه لم يرتفع الى مستوى كونه أحد طرفيْ الاختيار.. ما كان يعنيني – في لحظتي تلك- سوى أن أختار: إمّا متابعة الخط المرسوم لي من قبل، وإما الانعطاف عنه، وإنْ إلى المجهول!.. لم أتردد مطلقاً.. اخترت فوراً.. وانقطعت العلاقة المباشرة مع الحلم”. ( مروة حسين، من النجف دخل حياتي ماركس، مجلة الطريق…، مصدر سابق، ص.ص. 173- 174). ولكن حسين مروَّة يسأل نفسه “كيف الدخول في هذا المجهول/ المعلوم؟. كيف، وقد تحوّلتْ العلاقة مع الحلم الذاهب، أي مع طريقي الوحيد حينذاك الى العلم، تحوّلاً يعني انسداد هذا الطريق أمامي تلقائياً، كما هي طبائع الأمور في مثل وضعي ذاك. لا بد من الدخول.. هكذا قلت. سأبقى في النجف.. سأتابع الدراسة في النجف.. هكذا صمّمت. ذلك هو الاختيار الثاني الحاسم: سأبقى… سأتابع.. رغم كل الأسئلة المستَنْفَرة في داخلي ضد هذا الاختيار. رغم كل الإثارات المحتملة في داخل ذاتي حيال هذا القرار (…). سأبقى.. سأتابع.. لكن الهدف واحد أحد، هو المعرفة، هو العلم، دون ”المهنة“.. سأبقى وأتابع الدراسة النجفية حتى استكمال مراحلها جميعاً”.( مروة حسين، من النجف دخل حياتي ماركس، مجلة الطريق…، مصدر سابق، ص174)، وهو القرار الذي التزم به حسين مروَّة بالرَّغم من بعض الانقطاعات القصيرة.
يصف حسين مروَّة قراره/ اختياره الأوَّل والثاني بأنهما أحدثا تغيراً في حياته فقد أصبحَ يملك حريته وحرية اتخاذ قراره وكان ذلك بمثابة الباب أمامه للدخول إلى عالَم قراءة أوسع ممَّا هو في مقررات التدريس في النجف، فقدوسَّعَ قراءاته ونوَّعها ممَّا عرَّضه لخلافات وصدامات مع زملائه ومقررات التدريس المفروضة. هنا يذكر حسين مروَّة أنّ النجف كانت سوقاً للنتاج العربي كله، وانه كانت تصل إليهم المطبوعات والكتب الصادرة في البلدان العربية، مصر، وسوريا، ولبنان، وبالتالي كانت فرصة للاطلاع على نتاج مفكرين وأدباء وعلماء، والاطلاع أيضاً على أعمال مترجمة. يصف حسين مروَّة هذه المرحلة من حياته بأنها كانت مرحلة الخصب المعرفي.. يقول “قرأت فيها أشتاتاً من المعارف، لا تنتظمها وحدة، بل يتخلّلها الاختلاف حتى التناقض.. كنت أقرأ الأدب الرّومانسي، مع الفكر العلمي، مع الكتابات العلمية الخالصة، مع البحث الاجتماعي: نظرياً وميدانياً (…). ذلك النهج النفَّاذ الذي علَّمني كثيراً ومهَّد لي الطريق الى ماركس، ثم وصل بي الى ماركس”. ( مروة حسين، من النجف دخل حياتي ماركس، مجلة الطريق…، مصدر سابق، ص.176).
مرحلة التحول الفكري
أنهى حسين مروَّة مراحل تعليمه الديني في النجف في العام 1938، وبدأت في أوائل الأربعينيات مرحلة التحول لديه نحو الخروج من حُلُم والده وأسرته والبدء في العمل الفعلي خارجه، لكسب العيش. في تلك الفترة تنقل حسين مروَّة بين العراق وسوريا، ولبنان، بحثاً عن عمل، وكانت عودته النهائية إلى بيروت في العام 1949.
اطلعَ حسين مروَّة على أفكار شبلي شميل وإسماعيل مظهر، وهما اللذان كان لهما التأثير على تحولاته الفكرية نحو المادية، وعلى أفكار سلامه موسى، وذلك بين عامي 1925- 1927، وهي السنوات الأوّلى لمرحلة تحولاته الفكرية. كانت كلمة “اشتراكية” تتردد كثيراً في قراءات حسين مروَّة في هذه المرحلة، يقول إنه لم يلتقِ ماركس إلَّا مرات قليلة وخاطفة فالقراءات “الجاهدة والحائرة حول الاشتراكية، في سنوات العهد الأوّل لهذه المرحلة، كانت بعيدة عن ماركس، أي بعيدة عن اسم ماركس أولاً، وبعيدة عن اشتراكية ماركس (الماركسية) ثانياً. كثيراً ما كان مفهوم الاشتراكية يختلط في الكتابات العربية ”النهضوية“، اختلاطاً طريفاً، بمفاهيم متغايرة أو متناقضة، وكثيراً ما كان جوهر قضية الاشتراكية، أي المسألة الطبقية، يَزُوغُ خلال هذه الكتابات الى خارج القضية، أو يختفي كلياً، وتبتعد الكتابة – بالطبع إذْن- عن واقع الحركة الاجتماعية”. (مروة حسين، من النجف دخل حياتي ماركس، مجلة الطريق…، مصدر سابق، ص. ص. 177- 178). اللقاء الأوَّل بين حسين مروَّة واسم ماركس كان في العام 1926، يقول عن ذلك اللقاء”صحيح أن هذه أوّل مرة ألتقي فيها ماركس.. لكن ماركس هذا، الذي التقيته عند فرح أنطون، لم أستقبله بارتياح، ولم أشعر أنه هو الذي سيخرجني من بلبلة المفاهيم المختلطة للاشتراكية.. فماركس هذا هو -أولاً- ”فيلسوف منا“، أي من هؤلاء ”العمال“ الذين يبْتسرون – اعتباطاً- حلَّ المشكلة الاجتماعية – الطبقية الكبرى بحيث ينحصر هذا الحلّ في ”إشراك العمال في ربح العمل“.. وهو مع ذلك – ثانياً- ”من أشد انصار العمال غلواً“.. وهو – ثالثاً- مع ذلك أيضاً له رأي في الملكية يناقض رأيَ أرباب العمل.. كيف تجتمع هذه التناقضات في شخص هو – إلى ذلك كله- فيلسوف من الفلاسفة؟ رغم هذه الهواجس المقلقة، وقع في نفسي أن ماركس هذا لا بدَّ له شأن عظيم في القضية التي يتحدثون عنها كثيراً باسم ”الاشتراكية“.. لكن، كيف سأصل الى صاحب هذا الشأن العظيم بصورته الحقيقية دون الصورة المضطربة هذه؟.. بدءاً من هذا السؤال، بدأتُ أدخل في العلاقة السليمة مع ماركس.. ومن هنا بدأ ماركس يدخل حياتي وما ازال في النَّجف”. (المصدر نفسه، ص. ص. 178-179).
النجف ولقاء حسين مروّة مع اسم كارل ماركس
للقاء حسين مروَّة مع ماركس “الماركسي”، بحسب قوله، قصة تعكس نضالات الشعب العراقي الوطنية في تلك المرحلة التاريخية ودور الشيوعيين العراقيين فيها، يقول إنَّ ماركس الحقيقي “الماركسي” الذي هو غير ماركس الذي قرأه عند فرح أنطون، وصلَ إليه من الشيخ حسين محمد الشبيبي، وهنا يذكر حسين مروَّة، أن هذا الشيح هو نفسه الشهيد الشيوعي المعروف الذي أعدمه النظام الملكي مع الشهيد فهد في بغداد. كانت صلة حسين مروَّة مع الشيخ الشبيبي من خلال مجلة “الهاتف” النجفيَّة التي كان يكتب فيها مقالة أو قصة أسبوعية، وذلك خلال أواخر ثلاثينيات القرن العشرين وهي فترة حلقته الدراسية الأخيرة في النجف. يقول حسين مروّة إنَّ مجلة “الهاتف” كانت في تلك المرحلة مجلة معظم المثقفين العراقيين، ممَّا فتح الباب أمامه في توسيع علاقاته الفكرية والأدبية، ويُحدِّد انه “في هذا الأفق انعقدت صلتي بـ ”الشيخ“ الشيوعي (حسين محمد الشبيبي)”. (مروة حسين، من النجف دخل حياتي ماركس، مجلة الطريق…، مصدر سابق، ص. 179).علاقته معه فتحت الباب أمامه للقاء ماركس الحقيقي من خلال أعماله، فالشيخ حسين الشبيبي أهداه نسخة من “البيان الشيوعي” مشترطاً عليه أن يقرأها أكثر من مرّة.. يصف تلك التجربة بقوله “ولكي أستحق شرف هذا الإهداء عِشْتُ مع ”البيان“ في هذه النسخة العزيزة يومين كاملين متتاليين، ثم رجعت إليه منشرح الصدر، مفعماً بفرح المعرفة بأضوائها الجديدة الكاشفة”. (مروة حسين، من النجف دخل حياتي ماركس، مجلة الطريق…، مصدر سابق، ص. 179). دور الشيخ حسين الشبيبي في تعريف حسين مروّة على ماركس لم يتوقف عند هذا الحد، فقد كان له الدور في لقائه، كما يذكر في الموضع نفسه، مع أفكار لينين ومواقفه وذلك عند سؤاله للشيخ الشبيبي حول قضية وطنية في تلك المرحلة، فأجابه الشيخ الشبيبي بالاستشهاد بلينين، هنا يذكر حسين مروّة أنه اعترضه “متسائلاً: لماذا لا يستشهد بالماركسية؟، قال: اللينينية هي الماركسية مُطبَّقةً على الواقع الملموس تطبيقاً إبداعياً تميَّز به لينين في عصر الثورة الاشتراكية العلمية المتحققة على الأرض بالفعل”. (المصدر نفسه، والصفحة نفسها) هذا التحديد لمفهوم تمييز كونيَّة القوانين الماركسية العامَّة كان له الدور الرئيس في تمييز حسين مروَّة للمنهج المادي التاريخي في دراسته للتراث العربي- الإسلامي. توسعت قراءات حسين مروَّة لماركس وللينين في فترة الأربعينيات، فترة الحرب العالمية الثانية، وشعر بحاجة إلى قراءة لينين أكثر. فكانت مسيرة اللقاء الفكري بينه وبين النظرية الماركسية والمنهج المادي التاريخي الذي أتخذه منهجاً لدراسة الفلسفة العربية – الإسلامية.
النشاط السياسي وقرار الإبعاد من العراق
شاركَ حسين مروَّة في الوثبة/ الانتفاضة الوطنية العراقية التي حدثت في نهاية العام 1947 ضد معاهدة بورتسموث التي أبرمتها السلطات العراقية مع الاستعمار البريطاني، وما تحمله من قيود سياسية وعسكرية تنزع السيادة الوطنية العراقية، وهي معاهدة كانت مقدمة لأحلاف عسكرية في الشرق الأوسط مع البريطانيين، وشكلت التمهيد لحلف بغداد في ما بعد. أسقطَت معاهدة بورتسموث، وأخذ حسين مروَّة على نفسه الانحياز إلى الانتفاضة، وأصبح على يقين أن الشيوعيين يحملون عبء صون الانتفاضة. كان يكتب مقالاً يومياً في جريدة “الرأي العام“، ويقول في تلك الفترة “لم أكن ”شيوعيا“ بعد، لكن كنت كاتباً وطنياً أكتب مَوْقفي الوطني بصراحة وجراءة كل يوم في صحف بغداد، لا سيما في جريدة ”الرأي العام“ اليومية (صاحبها شاعرنا الأكبر الجواهري).. وقد اتفق أن أكتب مقالاً بعنوان ”نوري السعيد بين العقل والعاطفة“(مجلة ”الحضارة“) تعليقاً على تصريح له ”يَنْصح فيه شعب العراق أن يركن الى ”العقل“ بدل ”العاطفة“.. بعد أسبوعٍ واحدٍ على نشر المقال عاد نوري السعيد الى الحكم وبعد أسبوع واحد من عودته فوجئت بقرار الابعاد فوراً”من العراق. (مروة حسين، من النجف دخل حياتي ماركس، مجلة الطريق، مصدر سابق، ص. 182).
لقاء حسين مروَّة مع الحزب الشيوعي اللبناني والانتساب إليه
بسبب قرار نوري السعيد عادَ حسين مروّة إلى بيروت من دون أي أوراق ثبوتية لأن السلطات العراقية قد حرمته هويته العراقية، وكان قد فقدَ وثائق هويته اللبنانية، يذكُر انه تدبرَ أمر الهوية من خلال سجلات النفوس العائلية في لبنان وتمكَن من الحصول على بطاقة هوية، ولكن الحصول على عمل كان مشكلة، بخاصة، كما يقول حسين مروَّة، أن “صيت” الشيوعية كان قد سبق وصوله إلى لبنان على الرَّغم من عدم انتمائه، عضوياً، إلى الحزب الشيوعي العراقي الذي قرر الانتماء إليه بفعل ما أحدثته الوثبة الوطنية العراقية من أثر عميق عليه، ولكن جاء أمر إبعاده “عن العراق من نوري السعيد، قبل أن يصير الانتماء عضوياً بالفعل”.( مروة حسين، من النجف دخل حياتي ماركس، مجلة الطريق، مصدر سابق، ص.183)، وعندما عادَ إلى لبنان انتمى إلى الحزب الشيوعي اللبناني.
كتبَ حسين مروَّة في جريدة “الحياة” زاوية “مع القافلة” وكان، أيضاً، يحرر صفحتها الثقافية، تميزت مقالاته في زواية “مع القافلة” بوجهتها وخلفيتها التقدمية الوطنية التي انتقدَ فيها ما يجري في لبنان والبلدان العربية، وهي وجهة تعكس قناعاته الفكرية والسياسية النقيضة لتوجهات جريدة “الحياة“. يقول حسين مروَّة إن مقالاته في زاوية “مع القافلة” لفتت أنظار الشيوعيين والبعثيين، وإنه اتصل ببعض قيادات الحزب الشيوعي، أنطون تابت، ونقولا شاوي، وفرج الله الحلو، أمَّا فاتحة ارتباطه مع الشيوعيين فيذكر إنه “حدث ان كتبت بمناسبة ذكرى عمر فاخوري مقالاً قلت فيه رأيي في عمر فاخوري فكراً وفناً وكان هذا المقال، من حيث لا احتسب يتناول عمر فاخوري من الوجهة التي يتناوله بها الشيوعيون، ويضعه حيث يضعونه، كان هذا المقال فاتحة ارتباط بالشيوعيين فكان ان طلبوا منّي أن أكتب مقالاً للطريق [مجلة الطريق]، فكتبت مقالاً بعنوان ”ابن سينا“ فكرة تقدمية، ثم اخذت الصلة تتعمق وتأخذ مداها الفكري والشخصي. وهكذا التقيت بعد برهة قصيرة بالرفيقين نقولا شاوي وفرج الله الحلو. ومن هذا اللقاء تولد مشروع إنشاء مجلة ثقافية، وهي المجلة التي عرفت باسم ”الثقافة الوطنية“. وعلى طريق التحضير للمجلة اتصلت بمحمد دكورب الذي كان يعمل سمكرياً في صور ويكتب في جريدة التلغراف مقالات وأقاصيص ذات اتجاه تقدمي واضح (…). وهكذا أنشأنا الثقافة الوطنية 1951 بتحريري أنا [حسين مروّة] ومحمد دكروب وبإشراف فرج الله الحلو(…). وبانشاء الثقافة الوطنية 1951 صرت عضواً في الحزب الشيوعي، ثم انتظمت في صفوف أنصار السلم 1954”.( مروة حسين، ولدت شيخاً وأموت طفلاً…، مصدر سابق، ص. ص. 61-62. في كتاب سيرة حسين مروَّة كما أرادها أن تكتب، إعداد أحمد. ح. مروة، مرجع سابق، يقول حسين مروَّة إن إنشاء مجلة “الثقافة الوطنية” كان في العام 1952، وذلك في الصفحة 313 والصفحة 315)، وكان لحسين مروَّة دوره الرئيس في صحافة الحزب الشيوعي اللبناني فقَد أشرفَ على تحرير مجلة “الطريق” منذ العام 1966 إلى تاريخ استشهاده في العام 1987.
حكاية “النزعات المادية في الفلسفة العربية – الإسلامية” مع الحزب الشيوعي اللبناني
لكتاب “النزعات المادية…” حكاية مع الحزب الشيوعي اللبناني، بدأت في العام 1968 عندما كلفت اللجنة المركزية للحزب حسين مروَّة السفر إلى موسكو لانجاز مهمة دراسة الفلسفة العربية – الإسلامية، ليكون التراث والنتاج الثقافي العربي أداة من أدوات النضال ضد التبعية، والاستعمار ودراساته الاستشراقية التي تسعى إلى إفراغ التراث من العقلانية، وهي قضايا محورية في دراسة حسين مروَّة للتراث حدَّدها، بشكل واضح، أن دراسته للتراث ليست مسألة خيار ذاتي محض، بل مرتبطة بموقف سياسي تحرري يدخل في صلب أهداف حركة التحرر الوطني العربية، أي انه خيار موضوعي مرتبط بالشروط المادية التاريخية للنضال من أجل التحرر الوطني، في مواجهة دراسات، مثالية، تحنط التراث في قوالب جاهزة تؤبد سيطرة السلطة السياسية وأيديولوجيتها. وبدراسته كشف حسين مروَّة انه على الرَّغم من أن التراث العربي- الإسلامي نتاج فكري، فلسفي، واحد كمعطى للحاضر، إلَّا أنه يتعدَّد بتعدُّد موقع الناظرين فيه، فالفكر المثالي الحاضر الذي ينظر في تراثنا، إنما ينظر فيه من موقع أيديولوجية تعكس موقعه الطبقي في البنيَّة الاجتماعية، يُظهر فيها الجوانب الستاتيكية من التراث ويطمس ديناميته، أي يمارس عملية إسقاط الحاضر على الماضي في عملية إعادة إنتاج التراث بشكل يظهر فيه وكأنه في جمود، وكأن الماضي، بالتالي، منفصل عن الحاضر تماماً، وهي نظرة انتقائية تأخذ من تراثنا ما يتلاءم مع أيديولوجيتها لتأبيد سيطرة الطبقة البرجوازية المسيطرة. على الطرف النقيض لتلك النظرة ومنهجيتها وخلفيتها الأيديولوجية حدَّد حسين مروَّة أس المنهج المادي في دراسة التاريخ، بأنه منهج “ينظر في هذا التاريخ وذاك نظرة شمولية لا ترى فيه جانباً دون آخر، بل جوانبه كلها. فما دامت المثالية من الاشكال التاريخية للفكر، فلسفيا كان أم غير فلسفي، لان كلا من هذه الاشكال وتلك هو واقع تاريخي، فاهماله اذن خطأ في ممارسة المنهج نفسه، والدراسة العلمية لا تكون علمية بالفعل مع اهمال اي جزء من موضوعها” (مروه حسين، النزعات المادية في الفلسفة العربية- الاسلامية، ج1، ط. 5، دار الفارابي، بيروت، 1985، ص.31). في دراسة حسين مروَّة للتراث العربي – الاسلامي في ضوء المنهج المادي التاريخي عمل على مسألة منهجية رئيسة تظهر غنى المنهج المادي التاريخي الديالكتيكي، الذي يحث الفكر على نبذ الجمود، فقد أخضعه لقانون تفاوت التطور الماركسي الذي أضاء عليه لينين، أي بكلام آخر عدم تطبيق ما هو تكوّن على ما هو متميز، تمييز كونية القوانين الماركسية العامَّة، وهو قانون في صلب المنهجية الماركسية – اللينينية.
منذ العام 1968 بدأ حسين مروَّة الرحلة / المهمة، رحلة البحث العميق في التراث والفلسفة العربية- الإسلامية، وإنجاز المهمة التي كلفه فيها الحزب، إلى أن أنهى بحثه ونال من “معهد العلوم الاجتماعية” في موسكو، درجة الدكتوراه. الرحلة / المهمة استمرت عشر سنوات، من العام 1968 إلى العام 1978 وهو العام الذي عادَ فيه إلى لبنان ومعه الجزء الأوَّل من موسوعته/ ملحمته الفلسفية، “النزعات المادية…” الذي ينقسم إلى قسمَيْن، القسم الأول بعنوان: ما قبل نشوء النظر الفلسفي؛ والقسم الثاني بعنوان: بذور التفكير الفلسفي. وفي العام 1978 صدر الجزء الثاني من “النزعات المادية…..” وهو جزء يتضمن القسم الثالث من ملحمته بعنوان المرحلة الفلسفية.
ومن الدراسات الأوّلى للتراث العربي – الإسلامي في ضوء المنهج المادي التاريخي، كتاب بندلي جوزي “من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام“، الذي قال حسين مروَّة في مقدمته التحليلية للكتاب إنه من الأعمال الرائدة في حقل الدراسات التراثية العربية – الإسلامية، مبدياً انتقادات على بعض استنتاجات وتحليلات بندلي جوزي، بالتحديد “محاولته إسقاط الفكر الاشتراكي؛ بمفاهيمه المعاصرة، على بعض الحركات الفكرية التي تناولها بالدرس”،(جوزي بندلي، من تاريخ الحركات الفكرية في الاسلام، ط2، سلسلة احياء التراث الثقافي الفلسطيني (4)، مطابع الكرمل الحديثة، 1981، ص. 3). ودراسة الراحل طيب تيزيني للتراث في كتابه “مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط” ومشروعه الفكري “من التراث إلى الثورة“. وكتاب الشهيد مهدي عامل “أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية” الذي انتقد فيه ندوة انعقدت في الكويت، شهر نيسان/ أبريل العام 1974 وكانت تحت عنوان: “أزمة التطور الحضاري في العالم العربي“.
استمرت رحلة انتماء حسين مروَّة إلى الحزب الشيوعي اللبناني، الذي انتخب منذ المؤتمر الثاني للحزب عام 1968، عضواً في لجنته المركزية حتى المؤتمر الخامس للحزب في العام 1987، إلى أن اغتيل في السابع عشر من شباط/ فبراير العام 1987 برصاص القوى الظلامية، في منزله في بيروت منطقة الرملة البيضاء، وكان يعمل على كتابة الجزء الثالث من موسوعته/ ملحمته الفلسفية “النزعات المادية في الفلسفة العربية- الإسلامية“، الذي أراد تخصيص هذا الجزء منه لدراسة “المرحلة المغربية من مراحل الفلسفة العربية – الإسلامية” وبالأخص دراسة ابن رشد الذي يُمثل، بحسب حسين مروَّة، ذروة نضوج الفلسفة العربية – الإسلامية، وقد خصه بدراسة، وضع فيها معالَم الجزء الثالث من “النزعات المادية…”، نشرتها مجلة “الطريق” بعنوان: محاولة قراءة ماركسية في “فصل المقال” لابن رشد. ديالكتيك العلاقة بين الديني والفلسفي. إعادة الاعتبار إلى الفلسفة لإعادة الاعتبار إلى قوى المجتمع العقلانية. (مجلة الطريق، بيروت، العدد الأول، شباط 1984). وعلى إثر اغتيال حسين مروَّة أُعلن السابع عشر من شهر شباط / فبراير من كل عام “يوم المثقف العربي“.
بحلول شهر نوفمبر 2024، وفي خضم الحرب الدائرة منذ أكتوبر 2023 في غزة والضفة والجنوب اللبناني بين قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية من جهة وقوات الاحتلال الصهيوني بمشاركة أميركا من جهة أخرى، يكون قد مضى 89 عاماً على المواجهات المسلحة الأولى للشعب الفلسطيني ضد التشكيلات الصهيونية المسلحة القادمة من مختلف بلدان العالم لاحتلال فلسطين وإقامة دولة دينية لليهود طبقاً للمشروع الاستعماري بقيادة بريطانيا، أقوى دولة استعمارية في تلك الفترة.
إن دراسة التاريخ بتناقضاته وتطوراته تساهم في تجنب الأخطاء وتطوير ما كان صحيحاً. فالأحداث التاريخية تبقى في ذاكرة المجتمعات. هذه الأحداث قد لا يُرى تأثيرها وقت حدوثها، لكن تضاف إلى جينات هذه المجتمعات ومفعولها يورَّث جيلاً بعد جيل. إذاً، من المهم أن يتم تدوين واستذكار التجارب، الإيجابية منها والسلبية، بين فترة وأخرى حتى تدُرس كيلا تنسى وتندثر وتفقد الأجيال القادمة الإحساس بمدى أهميتها وتأثيرها على حياتهم.
محاولة لتسليط بعض الضوء على جوانب مهمة من مسيرة الحزب تتعلق بما تميّز به نضال هذا الحزب الطليعي ودوره وخبراته وتجاربه المتنوعة، التي تشكّل له رصيداً نضالياً تاريخياً غنياً ويفترض أن تكون مصدر إلهام للمناضلين العرب.
ضمن حالة النهوض العامة، التي شهدتها الحركة الوطنية الديمقراطية الكويتية في النصف الأول من ستينات القرن العشرين، وامتداداً للمسار التاريخي الممتد منذ الخمسينات لنضال الحركة الطلابية الكويتية، تأسست في ديسمبر من العام 1964 المنظمتان الطلابيتان الديمقراطيتان: الاتحاد الوطني لطلبة الكويت والاتحاد المحلي لطلبة الكويت “الثانويين”.