اعتادت السنغال أن تكون واحدة من أكثر دول إفريقيا استقراراً، حيث شهدت ثلاث تحولات سياسية سلمية رئيسية منذ الاستقلال في عام 1960. حتى في عام 1962، على سبيل المثال، عندما كان سنجور في صراع مع رئيس الوزراء، مامادو ديا، على الرغم من أن الجيش كان يدعم سنجور بالفعل، إلّا أنه لوح بأن السياسيين يجب أن يحلوا المشكلة، وأن الجيش لن يتدخل. يعد النمو الاقتصادي في السنغال من بين أعلى المعدلات في إفريقيا بين عامي 2014 و 2018 ، حيث ظل أعلى من 5% سنوياً. بلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي 6.7% في عام 2016 و 5.3 % في عام 2019 ، و 6.3 % في عام 2017بالرغم من هذا يعيش 40 % من الشعب تحت خط الفقر. نخبة صغيرة فقط استفادت من هذا النمو الاقتصادي المرتفع. لكن في أعماق المجتمع، هناك تراكم للإحباط والغضب. ثم أدت جائحة COVID-19 ، مع القيود المفروضة على التجارة الصغيرة التي تشكل العمود الفقري للاقتصاد، إلى تضرر خدمات النقل والصادرات. الحكومة حاولت إنقاذ الأمور بما أسمته “إجراءات الاحتواء و “خطة التحفيز الاقتصادي الشاملة”. ولكن مع ذلك، كانت شبكات الأمان الاجتماعي بها ثقوب ضخمة لم تقدر على إنقاذ ملايين الأشخاص من الوقوع في براثن الفقر، لا سيما من القطاع غير الرسمي الكبير. في النهاية أدى الفقر المتوطن إلى دفع موجات من الهجرة، معظمها إلى فرنسا. كما أنها حددت حياة أجيال من السنغاليين الذين أصيبوا بالإحباط بسبب الافتقار إلى التقدم الاقتصادي والاجتماعي.
أسباب الحراك الجماهيري الطبقية والسياسية في السنغال
سياسياً:
بعد ما نالت السنغال استقلالها تم تأسيس نظام سياسي باستخدام موارد الاستعمار الفرنسي، وفي الواقع، موارد المذهبية الصوفية “الولوفية” غير الطائفية أيضاً، وهو نهج ثقافي متشعب من قبل الإستعمار ودولة الاستقلال مستند إلى شريحة طبقية قادرة على بناء قواعد قوة وتفاوض مع بعضها البعض من خلال نوع من العقد الاجتماعي. ولم يكن ذلك يعني أن السنغال كانت ديمقراطية بالكامل، لكنها كانت شبيهة بالمجتمع المفتوح تتناغم وتتواصل بداخله القبائل المختلفة، وإمكانية إيجاد حل لأكبر الأزمات. وأعتقد أن هذا هو ما جعل السنغال نوعاً من الاستثناء في غرب أفريقيا.
منذ أن صعد ماكي سال على رأس هرم السلطة وهو يحاول تفكيك هذا العقد، عندما بدأ للتو التخطيط لولاية ثالثة محتملة. بالأخص عندما اندلعت الاحتجاجات في جميع أنحاء السنغال بعد أن أعلن في 3 فبراير الماضي تأجيل الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة في 25 فبراير إلى أجل غير مسمى.
كان مبرر سال الصراعات الدائرة بين السلطة القضائية والسلطة التشريعية، ليعلن أن السنغال “لا تستطيع تحمل أزمة أخرى”، ودعا إلى “حوار وطني مفتوح لتهيئة الظروف لإجراء انتخابات حرة وشفافة وشاملة”. واقترح البقاء في السلطة حتى إجراء الانتخابات في موعد لا يتجاوز ديسمبر 2024، في محاولة غير دستورية للاستيلاء على السلطة.
طبقياً:
طوال فترة إدارة ماكي سال الذي جاء معبراً عن الكتلة المدنية الليبرالية أساء استغلال موارد الدولة العامة لإثراء نفسه وطبقته من خلال عمليات احتيال وفساد ظهرت على المشهد السياسي السنغالي، مثل قضية تسيير أموال صندوق فيروس كورونا. واتهام وزير السياحة “مام امباي انيانغ” باختلاس 29 مليار فرنك. إن الذي يحدث في السنغال ليس فقط إحتجاجاً على انقلاب دستوري، بل غضب اجتماعي واقتصادي في قلب الأزمة السياسية الحالية في السنغال. البلاد لديها واحد من أعلى نصيب للفرد من الناتج المحلي الإجمالي في أي دولة أفريقية ومعدل البطالة الذي يقل عن (4% ) هذا في حد ذاته أحد أدنى المعدلات في القارة الأفريقية. الفقر المستوطن، نقص الحماية الاجتماعية، التفاوتات الشاسعة في الثروة والتناقضات الحادة بين المناطق الريفية والحضرية، كلها ساهمت في الشعور بأن حكومة ماكي سال لا تستجيب لاحتياجات الطبقة العاملة فقط بل تواصل سياسات الخصخصة، والاقتراض من صندوق النقد الدولي والبنوك الفرنسية، لا تأبه بالشعب الذي يتدبر أموره بموارد محدودة للغاية ودون أن يجني الكثير من الفوائد من برامج إعادة الهيكلة النيوليبرالية.
لقد ذهبت جميع أموال التنمية في البلاد تقريباً إلى المدن مع تغيير طفيف في ميزانية المناطق الريفية. ومع ذلك، من حيث السياسة، فإن المدن هي مركز الزلزال. السكان مزدحمون، وشباب، وعاطلون عن العمل، وهناك القليل من البنية التحتية المتطورة في الأحياء التي يعيش فيها معظم الناس لأنه قد تم إهمال البنية التحتية العامة (غير المرتبطة بصناعة السياحة الريعية) التي تستثمر فيها فرنسا والولايات المتحدة الأميركية وأيضاً اليوم الصين أصبحت لاعباً فاعلاً، حيث تستثمر في مجالات شتى.
موقع المعارضة المدنية واليسار من الحراك
رفضت أحزاب المعارضة في البداية اتخاذ إجراءات ضد استيلاء سال على السلطة، ونظمت احتجاجات ضمت بضع عشرات فقط من الأشخاص، وسرعان ما فرقتها الشرطة. قال سياسي لم يذكر اسمه، وهو مقرب من ائتلاف، PASTEF-PDS لصحيفة لوموند في 7 فبراير الماضي “يجب أن نجد استراتيجيات جديدة ذات إجراءات متباينة في جميع أنحاء البلاد”. وقال البيروقراطيون النقابيون إنهم يفكرون في تنظيم إضراب عام، لكنهم لا يستطيعون الدعوة إليه. وقال شيخ ديوب من الاتحاد الوطني لعمال السنغال (CNTS) “إن النضال من أجل الحفاظ على عملية انتخابية تحترم الدستور مفروض علينا. إن خلق توازن للقوى لا يستبعد الإضراب العام، ولكن يجب أن نأخذ الوقت الكافي للذهاب إلى القواعد لتنظيم صفوفنا”.
ومع ذلك، اندلعت احتجاجات حاشدة في 9 فبراير الماضي في داكار وفي جميع أنحاء البلاد عن طريق دعوات عفوية من قبل الجماهير عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وشن نظام سال، الذي نظم موجة من الاعتقالات قبل الاحتجاجات، حملة قمع دموية أطلقت فيها قوات الأمن النار على شابين على الأقل وقتلتهما، فضلاً عن اعتقال عشرات الصحفيين. قطعت شبكات الانترنت، سحبت رخصة البث من محطة التلفزيون Walf TV بسبب تغطية الاحتجاجات وهذا هجوم رمزي للغاية لأن Walf TV تعتبر من أوائل مؤسسات الإعلام التلفزيونية التي فتحت أبوابها للأصوات المعارضة وتمهيد الطريق للتغيير السياسي في عامي 2000 و 2012.
الكيان السياسي الوحيد الذي يدعم الاحتجاجات هو “باستيف” الحزب المعارض الذي يمتلك قوام تنظيم ذي قاعدة جماهيرية ساحقة برئاسة عثمان سونكو، المعارض الشاب الذي تدعمه الأجيال الشابة والأوساط المهمشة التي تعاني من البطالة والفقر ونقص الحماية الاجتماعية التي جعلتهم يشعرون بالانفصال عن المؤسسة السياسية الحاكمة في البلاد. سونكو في مرحلة مبكرة من عمره انخرط في العمل النقابي الطلابي من خلال نضاله لإعفاء الطلاب الفقراء من رسوم التعليم الباهظة وتقديم وجبة طعام لكل طالب. وقد بدأ اهتمامه بالشأن العام يتجسد على أرض الواقع حينما أنشأ اتحاداً مستقلاً للوكلاء الضريبيين عام 2005، وهي الهيئة التي كشفت الكثير من التجاوزات المالية وسوء التسيير في الإدارة العمومية في السنغال. بعد سنوات من العمل في الإدارة العمومية وتأسيس نقابة للوكلاء الضريبيين والماليين وتسليط الضوء على الفساد المالي على مستوى الضرائب وتنفيذ الميزانية، أسس حزب “الوطنيون من أجل العمل” المعروف اختصاراً بـ “باستيف”، الذي أصبح في فترة وجيزة قبلة للفئات الهشة والضعيفة.
بعد أن ذاع سيط الحزب وتركيز خطابه على فساد الحكومة والبرلمانيين وعلى المستوى الخارجي كان يرى أن فرنسا هي الناهب الأول لثروات السنغال ويطالب بشراكة مثمرة والمزيد من السيادة الاقتصادية والنقدية، والخروج من الدائرة الاقتصادية لمنطقة الفرنك الأفريقي CAF كل هذه المواقف جعلت من عثمان خصماً ومحرجاً للسلطة، فقرر الرئيس ماكي سال تجريده من وظيفته بموجب مرسوم رئاسي. وفور تجريده من الوظيفة قرر خوض الانتخابات التشريعية على رأس لائحة حزبه فدخل البرلمان خلال انتخابات 2017 في 16 سبتمبر 2018 تقدم بملف ترشحه لانتخابات الرئاسة 2019، وخاض السباق وحل ثالثاً خلف الرئيس ماكي سال والسياسي إدريس سك بنسبة 15.67 % من أصوات الناخبين السنغاليين.
بعد تعيين إدريس سك رئيساً للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، صار جزءاً من النظام الحاكم بالتالي أصبح سونكو وحزبه في طليعة المعارضة. من وقتها تحاول السلطة بكل الطرق النيل منه بسبب جماهيريته المتصاعدة لدرجة تلفيق له تهمة( اغتصاب) كيدية لتشويه سمعته والنيل من مكانته. لم يهرب سونكو سلم نفسه للقضاء وأثناء محاكمته خرجت مظاهرات حاشدة في جميع أنحاء السنغال دعماً له… منذ اعتقال عثمان سونكو بدعوى إضرار بشخصيته ومحاكمته بشكل غير قانوني، هناك استمرار في المواجهة بين مؤيديه والنظام.
في نظر الجماهير، التي تراقب هذه الانتهاكات منذ سنوات، كان اعتقال سونكو بمثابة فتح الطريق لسال إلى الانتخابات دون معارضة وذلك في عام 2024 بالإضافة إلى ذلك، إطلاق سال عملية مراجعة دستورية أدت إلى الحديث عن أنه قد يرغب في تغيير الدستور للسماح له بتجاوز ولايته الحالية.
اليسار:
أغلب الأحزاب المتصدرة المشهد السياسي في السنغال تؤمن بالحريات العامة والفردية بشكل ليبرالي للأسف هناك تراجع لليسار والأحزاب المفترض أنها تمثل طموحات الطبقة العاملة والمهمشين والفقراء بسبب الفراغ الهائل الذي وجد نتيجة لأزمة الحزب الاشتراكي (PS) الحزب الذي حكم السنغال لمدة 40 عاماً بقيادة ليوبولد سيدار سنغور، أول رئيس للسنغال منذ الاستقلال في عام 1960 ، وخليفته المختار عبدو ضيوف، الذي أصبح رئيساً في عام 1981 كان الناس متحدين وراء هذا الحزب بسبب التاريخ المناهض للاستعمار. برغم ان الاسم اشتراكي لكنه حكم البلاد على أسس رأسمالية فقد ساهم في ظهور نخبة سوداء جديدة مقيدة اليدين والقدمين بالإمبريالية الفرنسية. قادت التفاوتات الاقتصادية بشكل متزايد، خاصة بين مناطق السنغال (المدينة – الريف)، أدت هذه السياسات إلى معارضة تدريجية لإدارات الحزب الاشتراكي أثناء فترة سنغور وبعد ذلك ضيوف. بالأخص بعد تنفيذ برنامج التكيف الاقتصادي الهيكلي خلال الثمانينيات، مما أدى إلى انخفاض هائل في مستويات المعيشة.
نتيجة لتزايد الاستياء هزم تحالف من أحزاب المعارضة السنغالية، برئاسة عبد الله واد وحزبه الاشتراكي السنغالي (PDS) ، الحزب الاشتراكي الحاكم في الجولة الثانية من الانتخابات في عام 2000. ولكن كما هو الحال مع الحزب الاشتراكي الكبير ، لم يكن هناك أي شيء “اشتراكي” في نظام التوزيع العام ، واستمر بشكل فعال في نفس البرنامج المؤيد للرأسمالية مثل أسلافه، مما أدى في النهاية إلى الإطاحة به في عام 2012.
في عام 2012 انضم جميع أعضاء الحزب الاشتراكي (PS) إلى ائتلاف ماكي سال، وكمكافأة لهم، تم تعيين رئيس الحزب تانور دينغ رئيساً للمفوضية العليا للحكم المحلي. كما حصل اثنان من حاشيته على وظائف حكومية: أميناتا مبينج ندياي ( وزير الثروة الحيوانية ، ثم وزير الثروة السمكية)، وسيرين مباي ثيام (وزيرة التعليم ، ثم وزيرة المياه والصرف الصحي).
وازدادت الأمور سوءاً عندما صرح الحزب الاشتراكي بالامتناع عن تقديم مرشح في الانتخابات الرئاسية لعام 2019. وقال قادة الحزب إن القرار يرجع إلى استمرار تحالفه مع حزب الأغلبية. لقد أرست هذه القرارات الأساس للزوال الكامل للحزب. على مدى السنوات القليلة الماضية ، كان الحزب الاشتراكي عضواً فعلياً في الائتلاف الحاكم برئاسة بينو بوك ياكار. هناك عدد من الحركات والأحزاب الاشتراكية الصغيرة لكنها غير مؤثرة بالمرة وتعاني العديد من الأزمات التنظيمية والنظرية التي تجعلها منفصلة عن الجماهير.
في هذا السياق يجب فهم أن الجماهير ترى في عثمان سونكو معبراً عن طموحاتهم بسبب أن لديه انحيازات واضحة لمن هم في أسفل السلم الاجتماعي عكس الأحزاب اليسارية في البلاد وقد أكد في إحدى مقابلاته الصحفية المشهورة بأن” أثرياء الساسة تأتي ثرواتهم من اختلاس الأموال العامة”. مع مثل هذه التصريحات كان يعطي صوتاً للتفاوتات الاقتصادية العميقة والمخاوف بشأن مستوى المعيشة لكن هل سوف يكون عنده القدرة على ترجمة هذه الأقوال إلى أفعال على شكل برنامج يجد مخرجاً بعيداً عن الحلول النيوليبرالية الجاهزة التي تعمق أزمات الرأسمالية ليس في السنغال فقط لكن فى جميع أنحاء القارة الأفريقية، وهذا ما يكمن في قلب الانفجار الحالي. الجماهير السنغالية وصلت إلى حد كره المؤسسة السياسية والاقتصادية بأسرها ، مع مؤيديها الإمبرياليين في باريس والعالم. مع الانخفاض الحاد في مستويات المعيشة تشعر أن كل شيء ينزلق من بين أيديهم.