من بعد عملية السابع من أكتوبر 2023 ظهر الدور الأميركي في اليمن بصورته الواضحة عسكرياً بزعم حماية التجارة الدولية في البحر الأحمر، إلّا أن التدخلات الأميركية في اليمن سابقة لذلك بعقود، فالولايات المتحدة هي جزء من الحرب في اليمن 2015 ولاعب رئيس في سلطة الاستبداد والإفقار للجمهورية اليمنية الموحدة 1994- 2014، وتتحمل بصورة مباشرة، وغير مباشرة، جزءاً من معاناة الشعب اليمني وتخلف البلد وعدم استقراره.
لطالما كانت اليمن، وخصوصاً منذ العام 2000، خاضعة للهيمنة الأميركية عسكرياً وأمنياً تحت مظلة اتفاقيات “مكافحة الإرهاب”، وكان للولايات المتحدة قواعد عسكرية ومكاتب ومراكز تجسس في صنعاء ولحج وعدن وغيرها من المحافظات، وصولاً إلى الوقت الراهن فما زالت الولايات المتحدة مهيمنة عسكرياً وأمنياً على أجزاء من اليمن، وإن كان مركز الهيمنة انتقل من الشمال والغرب إلى الجنوب والشرق الواقع تحت سيطرة القوى الموالية للولايات المتحدة في إطار ما يسمى بمجلس القيادة الرئاسي والحكومة المعترف بها خارجياً.
رغم أن ملف “الإرهاب” هو البارز أميركياً في اليمن، إلّا أن أبعاداً أخرى حاضرة وهي غائبة عن التغطية الإعلامية النمطية للدور الأميركي في اليمن، وهذه الأبعاد هي الجيوبوليتيكية والبعد الاقتصادي – النفطي.
جيو- سياسياً، تطمع الولايات المتحدة بالسيطرة على السواحل اليمنية من سقطرى، وسواحل المهرة على المحيط الهندي والبحر العربي إلى الساحل الغربي في البحر الأحمر، وبينهما خليج عدن ومضيق باب المندب، ضمن حسابات امبريالية دولية وإقليمية، إلى جانب ذلك فإن الولايات المتحدة تطمع بنهب النفط اليمني، وطالما كانت أحد النهابين للنفط اليمني عبر شركة “هنت” وهي اليوم تطمع بالنفط والغاز في مأرب وشبوة وحضرموت والجوف.
قبل طوفان الأقصى شهدت السواحل اليمنية تحركات محمومة من قبل البحرية الأميركية، على طول الساحل اليمني في البحر الأحمر وخليج عدن والبحر العربي، كانت محطتها الأخيرة -وغير النهائية- ظهور صور وفد عسكري أميركي يلتقي بالسلطة المحلية في مديرية “بروم ميفع” -أغسطس 2022- في ساحل حضرموت المفتوح على البحر العربي والمحيط الهندي وفي منطقة قريبة من جزر عبد الكوري وأرخبيل سقطرى. ففي مطلع أغسطس 2023 بدأت تحركات أميركية جديدة في المحافظات اليمنية الجنوبية وساحل البحر الأحمر، وهي ضمن الاستراتيجية العامة في السيطرة على المناطق الاستراتيجية والمنابع النفطية في المنطقة.
تزامنت تلك التحركات العسكرية الأميركية مع أنشطة استعمارية أجنبية متعلقة بنهب النفط والغاز اليمنيين، ومع مواجهات فصائل ما يسمى مجلس القيادة الرئاسي الموالي لواشنطن على لعب دور حارس القطاعات النفطية، وهو ما يجري في شبوة حضرموت، والتنافس أيضاً على سواحل أبين.
كانت الولايات المتحدة الأميركية قد استبقت الهدنة في اليمن – 2 أبريل 2022-، بتشكيل تحالف بحري مهمته السيطرة على سواحل اليمن من البحر الأحمر حتى خليج عدن، تحت شعار “حماية الطرق البحرية”، وضمن شعار “مكافحة الإرهاب”.
واقعياً فإن سواحل اليمن هي ما تعطيه أهميته الاستراتيجية من الناحية الجغرافية، وهي في ذات الوقت (شبوة، حضرموت، الحديدة) تختزن ثروات نفطية، وهناك توجه لنزع هذا الموقع من اليمن، وقد تصاعد في العامين الماضيين (2022-2023) النشاط الأميركي بالموانئ والمحافظات الساحلية في اليمن، خصوصاً الجنوبية والشرقية، حيث قام سفير واشنطن، ستيفن فاغن، منذ تعيينه في يونيو 2022، بزيارة محافظة حضرموت الساحلية على بحر العرب، مرتين.
طوال السنوات الماضية 2015-2023 محافظات شبوة وحضرموت والمهرة تحولت بصورة مباشرة إلى قواعد مفتوحة لاستقبال قوات المارينز وعمليات إنزال القوات المظلية والقوات البرية التي أرسلتها الإدارة الأميركية تباعاً مع مجموعات من قوات مشاة البحرية التابعة للأسطول الخامس والمعدات العسكرية الخاصة بمجال الاستخبارات والتجسس، حيث تم إعادة انتشارها بصورة مستمرة في أكثر من نقطة تمركز وموقع عسكري سواءً بالقواعد العسكرية المستحدثة والموانئ والمطارات أو غيرها.
ظهرت حضرموت كمحطة أولى تم تكثيف التحركات الميدانية فيها وعسكرتها أميركياً بصورة مباشرة ومتصاعدة منها زيارة وفد أميركي مكون من المبعوث الخاص” ليندر كينغ” ومعه جنرالات من العسكريين وخبراء استخبارات يتبعون “سي آي إيه”.
هذه المحافظات تشكل أهميّة كبيرة جغرافياً واستراتيجياً وكونها ضمن الخريطة النفطية لليمن، فمن المهم بالنسبة لأميركا إحكام القبضة الأمنية عليها وبالتالي تأمين عمليات النهب المنظم للنفط، كما يجري في شمال وشمال شرق سوريا، في محافظات دير الزور والحسكة والرقة حيث توجد أكبر حقول النفط والغاز في سوريا، وتتواجد القوات الأميركية هناك بالتعاون مع الزعامات المحلية، وقوات سوريا الديمقراطية (الكردية) المطالبة بالحكم الذاتي.
في الثالث من مارس 2023، وصل قائد الأسطول الأميركي الخامس إلى اليمن برفقة وفد مرافق له بصحبة السفير الأميركي، التقوا بقائد خفر السواحل وممثلي الحكومة اليمنية الموالية للولايات المتحدة في محافظة المهرة، لمناقشة ما أسموه جهود الأمن البحري الإقليمي والفرص المستقبلية لتعميق التعاون البحري الثنائي والمتعدد الأطراف.
أواخر شهر يونيو 2023 التقى السفير الأميركي والملحق العسكري “مارك وايتمان” بوزير الدفاع في حكومة عدن الموالية للولايات المتحدة، محسن الداعري ناقش خلالها، بحسب الخبر الرسمي، “سبل تقوية الشراكة الأمنية الثنائية”. أضافت سفارة واشنطن أن “فاغن أثنى على الجهود التي يبذلها الجيش اليمني لمكافحة تهريب المواد غير المشروعة ذات المنشأ الإيراني إلى اليمن”، دون مزيد من التفاصيل.
أميركا وحضرموت
في إطار هذه التحركات الأميركية فهي تدعم نزعات انفصالية أو حكم ذاتي في الحد الأدنى، ففي 17 يونيو 2023 قال نائب السفير الأميركي الأسبق، لدى اليمن، نبيل خوري “إن تقسيم اليمن ممكن، ولكن ليس على أساس جنوب وشمال (…) فمحافظة حضرموت لها رأي آخر، وليس هناك تفاهمات في جنوب اليمن بشأن ذلك”.
ليس لكلام خوري إلزامية وصفة رسمية، إلّا أنه ما زال يُعبر عن طريقة تفكير الولايات المتحدة إزاء اليمن؛ فالولايات المتحدة لا تهتم بعودة جنوب اليمن لما قبل وحدة عام 90، بل تركز بشكل أكبر على اجتزاء حضرموت من اليمن عموماً، لأهميتها النفطية والساحلية، والأطماع في قاعدة عسكرية في ساحل “بروم ميفع”.
تمثل حضرموت أهمية خاصة للولايات المتحدة، جيو – سياسياً وجيو – اقتصادياً، بحكم موقعها في بحر العرب المفتوح على المحيط الهندي، ولما تختزنه من النفط. ففي تشرين الأول أكتوبر 2021 انتشرت قوات الغزو الأميركية المتواجدة في مطار الريان في مدينة الغيضة بمدرّعات وكلاب بوليسية وسيارات لوجستية. وهناك دراسات أميركية لإمكانية بناء قاعدة عسكرية استعمارية في سواحل “بروم ميفع” لتعزيز وجودهم الاستعماري في البحر العربي. وعملياً تملك الولايات المتحدة الأميركية قاعدة عسكرية في مطار الريان بمحافظة حضرموت إلى جانب قوات “التحالف العربي” – تحدثت مصادر إعلامية عن اخلائها-، وكذلك قاعدة عسكرية في مطار الغيضة في محافظة حضرموت.
ختاماً:
التدخل العسكري الأميركي في اليمن سابق لطوفان الأقصى، بل سابق حتى لحرب 2015، وليس استجابة لما تعتبره واشنطن تهديداً للتجارة العالمية، والولايات المتحدة الأميركية اليوم هي الفاعل السياسي الأبرز وداعم رئيس لحكومة العليمي، وليس لها مصلحة في السلام في اليمن، وحتى مع احتمالات توقيع اتفاق هدنة في اليمن وتجاوز البلد مرحلة الحرب والحصار، ستظل التدخلات الأميركية لأنها مبنية على مصالح استراتيجية وليست نتيجة عرضية للأزمة اليمنية.
وما لا شك فيه أن الصدام اليمني – الأميركي الراهن، الذي ذروته في البحر الأحمر، وكذلك تصنيف صنعاء الأخير باعتبار الولايات المتحدة إلى جانب بريطانيا دولتين معاديتين لليمن هو ما سيحدد مستقبل الوجود الأميركي في اليمن الذي بدأ عدوانياً وامبريالياً منذ خمسينيات القرن الماضي.