شكَّلت عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023 ضربة استراتيجية وعميقة للكيان الصهيوني وانهياراً في منظومته الأمنية والعسكرية، وأكدت مخاوفه التاريخية بتفاقم القلق والخطر الوجودي، إلّا أن المكانة الاستراتيجية لهذا الكيان ورغم اهتزازها لم تتراجع رغم الأخطار التي تهدده لأنها ارتبطت بالدور الوظيفي الذي يقوم به في منطقتنا وفي محيطها لحماية وخدمة المصالح الإمبريالية الأميركية والغربية، لذلك عندما تعرض هذا الكيان للخطر جاءت الأساطيل المدمرة وحاملات الطائرات واستنفرت كل القواعد العسكرية المنتشرة في أراضي وبحار ومحيطات المنطقة. وكذلك جاء رؤساء أميركا والغرب لدعمه وإسناده في مواجهة شعبنا وتصفية مقاومته، حماية لمشروعهم الاستعماري الصهيوني من الأخطار التي تهدده، فحسب استراتيجيتهم ما يهدد هذا الكيان يهدد بنفس الوقت المصالح الأميركية والغرب الإمبريالي ونفوذهم في المنطقة.
إن أبرز الأخطار الوجودية التي يواجهها الكيان الصهيوني تتمثل بالخطر الديموغرافي المتعلق بوجود ما يزيد عن نصف الشعب الفلسطيني على أرضه في فلسطين التاريخية الذي يفوق عدد اليهود والمهودين حيث بلغ التعداد اليوم في فلسطين التاريخية سبعة ملايين ومئتين وخمسين ألف فلسطيني مقابل سبعة ملايين ومئة ألف يهودي.
وخطر تنامي دور وقدرات فصائل المقاومة وخاصة المقاومة الفلسطينية واللبنانية وفي اليمن والعراق، وما تقدمه الجمهورية الإسلامية الإيرانية وسوريا من دعم وإسناد يشكل عمقاً حيوياً واستراتيجياً لكل المقاومين ضد العدوان الإمبريالي وخاصة الصهيو- أميركي.
إن رفض ومقاومة الشعوب العربية لوجود هذا الكيان يشكل خطراً آخر عليه، فهي تقف بالمرصاد لأي شكل من أشكال العلاقات معه، وتعمل على مقاطعته الشاملة ومقاومة كل المطبعين والمتعاونين معه بكل الطرق والوسائل والإمكانيات.
لذلك ترى الولايات المتحدة وتدرك بأن وجودها في المنطقة يتطلب تعزيز قواعدها العسكرية وأساطيلها الحربية باعتبار ذلك الأساس في رعاية وحماية المصالح والنفوذ الأميركي وأدواته في المنطقة، وحماية الكيان الصهيوني وتمكينه وإسناده ودعمه بلا حدود يأتي ضمن أولوياتها وذلك للحفاظ على مكانته ودوره الوظيفي كأحد أهم القواعد الأميركية في مواجهة حركات التحرر والتقدم والنهوض في المنطقة، وفي مواجهة الصين واستراتيجيتها “الحزام -الطريق” وتمدد نفوذها، ومواجهة الدور المتنامي لروسيا الاتحادية سياسياً وعسكرياً في المنطقة والعالم .
تعتبر أميركا وكل الغرب الإمبريالي وجود هذا الكيان في قلب الوطن العربي قضية استراتيجية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وخاصة الأهمية الجيو – سياسية للسيطرة والتحكم بمستقبل المنطقة والعالم عبر هذا الكيان. ومن أجل ذلك تسعى بكل السبل والوسائل لحمايته وتثبيته، فعملت بكل ثقلها لعقد وإبرام تسويات سياسية من أجل تحييد مصر أكبر دولة عربية عبر اتفاقية كامب ديفيد، وتحييد قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح عبر اتفاقية أوسلو، وأيضاً تحييد الأردن من خلال اتفاقات وادي عربة، ونجحوا في ذلك إلى حد كبير عبر توقيع الاتفاقيات والمعاهدات العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية… إلخ، ولكن الشعوب العربية وقواها الوطنية والتقدمية والحرة رفضت هذه الاتفاقيات وكذلك المعاهدات والتي كان آخرها اتفاقيات ابراهام التي انضم إليها عدد من الأنظمة العربية، كما دأبت على إنجاز عمليات تطبيع شامل بين بعض الأنظمة العربية والكيان الصهيوني التي كانت تجري بقوة دفع أميركية هائلة ولكنها توقفت بفعل عملية طوفان الأقصى وتنامي المقاومة الفلسطينية في الضفة وغزة وفي كل الأرض الفلسطينية بأشكالها النضالية المختلفة والمتنوعة.
إن مسارات ومآلات التسوية السياسية للصراع العربي – الصهيوني استندت بالأساس إلى فكرة الصهيوني جابوتنسكي “الجدار الحديدي” التي توفر الحماية الاستراتيجية للكيان الصهيوني لتأمين بقائه وديمومته، وجوهر فكرته تقوم على إخضاع دول المنطقة وتحييدها ثم التطبيع والاندماج الكامل معها ليكون الكيان الصهيوني مقبولاً سياسياً وحضارياً واقتصادياً وأمنياً… إلخ في المنطقة وبالتالي إحباط وإنهاء وتصفية كل من يطالب بفلسطين أو أي جزء منها، عندها حسب جابوتنسكي سيشعر الفلسطينيون ومن يؤيدهم باليأس والخذلان وهذا سيدفعهم للقبول والتسليم بما هو قائم وتنتهي القضية من الفكر والوجدان وتصبح مجرد ذكريات وحكايات تتوارثها الأجيال.
إذاً، فكرة التسوية السياسية جاءت في سياق الإخضاع والتسليم والقبول بالمصالح والهيمنة الأميركية أولاً، والكيان الصهيوني أحد أهم الركائز الأمنية التي توفر ذلك، فالتسوية بالنسبة للتحالف الصهيو- أميركي غير واردة إلّا بالقدر الذي يتعلق بتصفية الحقوق الفلسطينية وكل أشكال المقاومة للمشروع الامبريالي الصهيوني، وفي سبيل ذلك يحاولون التلاعب بالعقول تحت عناوين وذرائع “الممكن” وهو غير ممكن و”الواقعية” وهو طرح غير واقعي، إن الصراع مع العدو الصهيوني هو صراع وجودي ولا حلول وسط فيه، فإن كان بعض الفلسطينيين يقبلون بربع وطن فالعدو يعمل على ضم كل الأرض الفلسطينية وإبادة أو اقتلاع وتهجير من تبقى عليها من الفلسطينيين، وما هذا إلّا تجسيد لخطة “الحسم” الصهيونية القائمة على الضم، وتهويد القدس، وتدنيس المقدسات، يكفي وهماً وتضليلاً وتصوير العدو وكأنه يريد السلام ومن يعيق ذلك هم المتطرفون في طرفي الصراع.
وبالحديث عن السلام فإن المراجعة السياسية تثبت بأنه لا مجال ولا إمكانية لأي عملية سلام، وأيُّ سلام هذا الذي يدعونه؟!! وشعب فلسطين وخاصة في قطاع غزة ينزف دماً ويتقطع إرباً وأشلاء في طواحين ومقاصل حرب الإبادة والإجرام التي يقوم بها العدو الصهيوني العنصري والفاشي، وبالرغم من كل ذلك الإجرام يجب عدم التسليم بقدرة العدو الصهيوني على سحق الشعب الفلسطيني ومقاومته لا في غزة العزة المكلومة الصامدة ولا في أي مكان آخر على أرض فلسطين، فالصراع مع هذا العدو تاريخي وشامل ومفتوح، والطابع التناحري والوجودي للصراع مع الكيان الصهيوني يفرض على الكل الفلسطيني إنجاز وتعميق الوحدة الوطنية الفلسطينية على أساس برنامج سياسي واضح وخيار المقاومة بكل أشكالها وحشد كل الطاقات والإمكانيات من أجل تحقيق الأهداف الوطنية للشعب الفلسطيني.
بغض النظر عن نتائج هذا العدوان الإجرامي ومدى قدرته على تحقيق أهدافه، يبقى ثبات شعبنا هو الضمانة لصموده واستمرار مقاومته الباسلة، وتبقى الوحدة هي الأساس رغم هشاشة موقف القيادة الرسمية الفلسطينية على مستوى المنظمة والسلطة وعدم تقديمها أي مبادرة وإدارة ظهرها لكل الجهود الساعية لتعزيز الوحدة الوطنية وبلورة قيادة موحدة لإدارة المعركة ببعديها السياسي والميداني.
وما على قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إلّا أن ترتقي بدورها إلى مستوى الدم والتضحيات والبطولات الفلسطينية وهذا يفرض عليها أن تكون شريكة بالعمل على حشد كل الطاقات والإمكانيات لصيانة معاني ودلالات 7 أكتوبر، وقطع كل أشكال الصلة والاعتراف والتعاون والتنسيق مع هذا العدو النازي والمجرم لقطع الطريق أمام تحقيق الأهداف الصهيونية في نفي وجود الشعب الفلسطيني بكل الوسائل (قتل، وتهجير، إبادة، وسحق) لذلك فالوطنية الفلسطينية ومتطلبات النهوض بالمشروع الوطني الفلسطيني تفرض على جميع الفصائل والقوى أن يكونوا بمستوى هذه الأخطار والتحديات خاصة وأن العدو الصهيوني في حالة تآكل وضعف ويعيش عقدة الهزائم، وهذا ما يفسر دمويته وارتكابه هذا الحجم من الجرائم.
وهنا على الجميع تغليب المصالح الوطنية على المصالح الفئوية والضيقة، لنكن جميعاً موحدين وبمستوى التحديات وما أحوج الفلسطينيين إلى مبادرة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي تقدمت بها منذ أربعة أشهر والتي تدعو فيها إلى تشكيل قيادة طوارئ وطنية تتولى التصدي للمهام الراهنة والملحة، والتي تبدأ بدعم وصمود وثبات شعبنا وحماية المقاومة، ولا تنتهي بتبادل الأسرى (الكل مقابل الكل) والانسحاب من غزة إلى ما قبل السابع من أكتوبر وتقديم كل ما يلزم لإغاثة شعبنا والشروع بإعادة الإعمار.
نعم إن هذا العدوان من أبشع وأفظع الجرائم والحروب، وإن توقف لن ينتهي الصراع لأن طبيعة المرحلة التي يعيشها الشعب الفلسطيني هي مرحلة التحرر الوطني وأهدافها التحرير والعودة وفلسطين الديمقراطية على كامل التراب الوطني الفلسطيني.