كيف عهدت أوروبا إلى أفريقيا بحراسة الحدود.. الاتحاد الأوروبي يُعسكِر حدود أفريقيا الداخلية ليكبح الهجرة مُهملاً حقوق الإنسان

(تقرير صحافي)

اندريا بوبوفيشى

الرسوم التوضيحية بواسطة مات روتا

ترجمة: يوسف شوقي

المصدر: IN THESE TIMES في يوليو 2023

عندما وصلت كورنيليا ايرنست مع وفدها إلى محطة روسو الحدودية في يوم حار من أيام فبراير [2023]، لم يشد انتباههم السوق الحرفي الصاخب ولا الدخان الكثيف من الشاحنات التي تنتظر العبور ولا الزواحف الملونة التي تتمايل في نهر السنغال، ولكن الحقيبة السوداء الرفيعة على الطاولة أمام رئيس المحطة، عندما فتح الموظف الحقيبة كاشفاً بفخر عن عشرات من الأسلاك مرتبة بشكل دقيق بجانب جهاز لوحي، امتلأت الغرفة بالشهقات.

إنه جهاز استخراج المعلومات الجنائية (UFED) قادر على استرجاع سجل المكالمات والصور وتتبع مواقع الجي بي اس ورسائل الواتساب من أي جوال صنعته شركة “سيليبرايت الإسرائيلية” المعروفة ببرامج اختراق الهواتف. يتم تسويق الـ UFED بشكل أساسي لهيئات تنفيذ القانون الدولية متضمنة الـ FBI لمكافحة الإرهاب وتهريب المخدرات. في السنوات الأخيرة اكتسب الجهاز سمعة سيئة بعد أن استخدمته بلدان كنيجيريا وغيرها من البلدان للاستيلاء على معلومات من هواتف المعارضين السياسيين ونشطاء حقوق الإنسان والصحافيين.

والآن وجد الـ UFED طريقه إلى حراس الحدود المتمركزين في المعبر بين روسو والسنغال وروسو وموريتانيا؛ مدينتان تحملان نفس الاسم تقعان على النهر المتعرج الذي يشق البلدين ويمثلان نقطة طريق هامة على المسار البري للهجرة إلى شمال أفريقيا. إن تلك التكنولوجيا في روسو لا تستخدم للإمساك بمهربي المخدرات أو المسلحين ولكن لتتبع سكان غرب أفريقيا المُشتبه في محاولتهم للهجرة إلى أوروبا. والـ UFED مجرد أداة واحدة في ترسانة أكبر من التكنولوجيات المتطورة المستخدمة لتنظيم الحركة في المنطقة والتي تعرفها ايرنست كلها بفضل تكنوقراط الاتحاد الأوروبي الذين تعمل معهم.

كعضو ألماني في البرلمان الأوروبي، تركت ايرنست بروكسل للشروع في مهمة كشف عن الحقائق في غرب أفريقيا مصحوبة بنظيرها الهولندي تينيك استريك وفريق من المساعدين. كأعضاء في الأحزاب اليسارية والخضراء في البرلمان، كانا ايرنست واستريك من ضمن الأقلية القلقة بأن سياسات الاتحاد الأوروبي للهجرة تهدد بتآكل مبادئ الاتحاد الأوروبي – بشكل خاص الاحترام المُعلن لحقوق الإنسان الأساسية داخل وخارج أوروبا.

إن محطة روسو كانت جزءاً من تلك السياسات، مستضيفة فرع أُفتُتِح مؤخراً من فروع الشعبة الوطنية لمحاربة الاتجار بالمهاجرين والممارسات المرتبطة بذلك (DNLT) وهي شراكة تنفيذية بين السنغال والاتحاد الأوروبي لتدريب وتجهيز شرطة الحدود السنغالية على أمل وقف الهجرة إلى أوروبا قبل حتى أن يقترب المهاجرون من الحدود. وبفضل أموال دافعي الضرائب في الاتحاد الأوروبي، قد أنشأت السنغال على الأقل تسعة مراكز حدودية وأربعة فروع DNLT إقليمية منذ العام 2018 مدعومة بتكنولوجيا مراقبة واختراق والتي بجانب الحقيبة السوداء تشتمل على كشف البصمات وبرامج التعرف على الوجوه والدرونز وسيرفارات رقمية ونظارات رؤية ليلية والكثير الكثير. ( قال متحدث المفوضية الأوروبية وهي الجهاز التنفيذي للاتحاد الأوروبي إن فروع الـ DNLT قد أنشأتها السنغال وقد مول الاتحاد الأوروبي فقط معداتهم وتدريبهم).

أعربت ايرنست عن قلقها من أن تلك الأدوات يمكنها انتهاك الحقوق الأساسية للناس المتنقلين. وقد ذكرت ان الموظفين السنغاليين بدوا “متحمسين للغاية اتجاه المعدات التي استلموها وكيف انها تساعد على تتبع البشر ومراقبتهم” مما أثار قلقها حول الكيفية التي يمكن أن تستخدم بها تلك التقنية.

أعرب ارنست وستريك عن قلقهما أيضاً من جراء سياسة جديدة مثيرة للجدل بدأت اللجنة في اتباعها منذ منتصف العام 2022: التفاوض مع السنغال وموريتانيا للسماح بنشر أفراد من وكالة حرس الحدود والسواحل التابعة للاتحاد الأوروبي “فرونتكس” للقيام بدوريات في البر والبحر في كلا البلدين لكبح الهجرة الأفريقية.

إن فرونتكس هي الوكالة الحكومية الأكثر استقبالاً للتمويل من الاتحاد الأوروبي بميزانية قاربت المليار دولار، على مدار الخمس سنوات الماضية قد غرقت في المفارقات بعد تحقيقات متكررة – من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والصحافيين والمنظمات غير الهادفة للربح- والتي كشفت ان الوكالة قد تعدت على سلامة وحقوق المهاجرين عبر المتوسط عن طريق مساعدة حرس الحدود الليبي المدعوم من الاتحاد الأوروبي في إرسال مئات الآلاف من المهاجرين ليتم احتجازهم في ليبيا تحت شروط ترقى إلى التعذيب والاستعباد الجنسي. في العام 2022 طُرد مدير الوكالة فابريك ليجيري بعد أن تراكمت الفضائح التي تضمنت ترحيل المهاجرين قبل أن يكون في استطاعتهم التقديم على اللجوء.

بينما كان لـ “فرونتيكس” لفترة طويلة وجود غير رسمي في السنغال وموريتانيا وست دول أخرى في غرب أفريقيا – عبر المساعدة في نقل معلومات الهجرة من البلدان المستضيفة إلى الاتحاد الأوروبي – فإن حرس فرونتكس لم يتمركزوا بشكل دائم خارج أوروبا من قبل، ولكن الآن يأمل الاتحاد الأوروبي في توسيع نطاق فرونتيكس إلى ما هو أبعد من حدوده، إلى الدول الأفريقية السيادية التي استعمرتها أوروباً يوماً ما، بدون وجود آليات إشراف للحماية ضد الانتهاكات، منذ البدء اقترح الاتحاد الأوروبي منح طاقم فرونتيكس الحصانة من الملاحقة القضائية في غرب أفريقيا.

بدى احتمال وجود مشاكل واضحاً. قبل سفرهم إلى روسو بيوم استمع ايرنست واستريك لتحذيرات واضحة من جماعات المجتمع المدني في داكار عاصمة السنغال. تقول فاتو فايي من مؤسسة روزا لوكسمبورغ وهي منظمة تقدمية غير ربحية “تشكل فرونتيكس خطراً على الكرامة الإنسانية والهوية الأفريقية” ويتفق معها ساليو ديوف مؤسس مجموعة دعم المهاجرين “بوزا فيي” قائلاً “إن فرونتكس تعمل على عسكرة البحر المتوسط” وانه لو تمركزت فرونتكس عند الحدود الأفريقية يقول “فقد انتهى الأمر”.

إن تلك البرامج هي جزء من استراتيجية أكبر ينتهجها الاتحاد الأوروبي بخصوص الهجرة فيما يعرف في الخطاب الأوروبي “بتصدير مسؤولية الحدود إلى الخارج”، تكمن الفكرة في الإسناد المتزايد لإدارة الحدود الأوروبية عبر الشراكة مع الحكومات الأفريقية وتوسيع نطاق التشريع الأوروبي بشكل عميق في البلدان التي يأتي منها مهاجرون كُثر. وتتعدد أوجه الاستراتيجية فتتضمن توزيع معدات مراقبة عالية التقنية وتدريبات الشرطة والبرامج التنموية – أو على الأقل الإيهام بها – والتي تدعي انها تعالج الأسباب الجذرية للهجرة.

في العام 2016 اعتبر الاتحاد الأوروبي السنغال واحدة من الدول الخمس ذات الأولوية والشريكة معها في معالجة مسألة الهجرة الأفريقية كونها مصدراً للهجرة ومحطة إنتقالية لها. وفي المجمل تلقت 26 دولة أفريقية “يوروهات” دافعي الضرائب التي تهدف إلى كبح الهجرة عبر أكثر من 400 مشروع، وبين 2015 و2021 استثمر الاتحاد الأوروبي 5.5 مليار دولار في تلك المشروعات حيث يأتي أكثر من 80% من التمويل من صناديق المساعدات التنموية والإنسانية. وفي السنغال فقط حسب تقرير مؤسسة هاينرش بول الألمانية استثمر الاتحاد الأوروبي 320 مليون دولار على الأقل منذ العام 2005.

تحمل هذه الاستثمارات مخاطر كبيرة، لأنه يبدو أن المفوضية الأوروبية لا تجري دائماً تقييمات بخصوص مقدار التأثير على حقوق الإنسان قبل إطلاق الاستثمارات على البلدان التي، كما لاحظ ستريك، غالباً ما تفتقر إلى الضمانات الديمقراطية لضمان عدم إساءة استخدام التكنولوجيا أو استراتيجيات الأمن. بل على العكس من ذلك، فإن مجموعة الجهود التي يبذلها الاتحاد الأوروبي في أفريقيا لمكافحة الهجرة ترقى إلى مستوى التجارب التكنو سياسية: إعداد الحكومات الاستبدادية بأدوات قمعية يمكن استخدامها ضد المهاجرين، وضد آخرين كُثر أيضاً.

يقول عثمان ديالو، الباحث في مكتب غرب أفريقيا التابع لمنظمة العفو الدولية: “إذا كانت الشرطة تمتلك هذه التكنولوجيا تحت تصرفها لتعقب المهاجرين، فليس هناك ما يضمن عدم استخدامها لاستهداف الآخرين، مثل المجتمع المدني أو النشطاء السياسيين”.

على مدار العام الماضي، قمت برحلات عبر المدن الحدودية في السنغال، وتحدثت مع عشرات الأشخاص ودققت في مئات الوثائق العامة والمسربة لاستنتاج تأثير استثمارات الاتحاد الأوروبي في مجال الهجرة في هذا البلد المهم. إن ما نشأ هو شبكة معقدة من المبادرات التي لا تفعل الكثير لمعالجة أسباب هجرة الناس – ولكنها تفعل الكثير لتقويض الحقوق الأساسية والسيادة الوطنية والاقتصادات المحلية في البلدان الأفريقية التي أصبحت مختبرات لتجريب سياسات الاتحاد الأوروبي.

يمكن إرجاع جنون الاتحاد الأوروبي لتقليص الهجرة إلى النصف إلى طفرة الهجرة في عام 2015، عندما وصل إلى شواطئ أوروبا أكثر من مليون  طالب لجوء من الشرق الأوسط وأفريقيا – فراراً من الصراع والعنف والفقر. كانت أزمة المهاجرين المزعومة سبباً في التحول نحو اليمين في أوروبا، حيث استغل الزعماء الشعبويون المخاوف لتأطيرها باعتبارها تهديداً أمنياً ووجودياً، الأمر الذي أدى إلى تقوية الأحزاب القومية الكارهة للأجانب.

لكن ذروة الهجرة من دول غرب أفريقيا مثل السنغال جاءت قبل عام 2015 بفترة طويلة: ففي عام 2006، وصل أكثر من 31700 مهاجر على متن قوارب إلى جزر الكناري، وهي منطقة اسبانية تبعد 60 ميلاً عن المغرب. وقد فاجأ هذا التدفق الحكومة الإسبانية، مما دفع إلى إطلاق عملية مشتركة مع وكالة فرونتكس، أُطلق عليها اسم “عملية هيرا”، للقيام بدوريات على الساحل الأفريقي واعتراض القوارب المتجهة نحو أوروبا.

كانت عملية هيرا، التي وصفتها منظمة ستيت ووتش غير الربحية المعنية بالحريات المدنية بأنها “غامضة وغير خاضعة للمساءلة”، بمثابة أول انتشار لفرونتكس (وإن كان مؤقتًا) خارج أراضي الاتحاد الأوروبي – وهي أول علامة على نقل مسؤولية إدارة الحدود الأوروبية إلى أفريقيا منذ نهاية الاستعمار في منتصف القرن العشرين، وبينما غادرت وكالة فرونتكس السنغال في عام 2018، لا يزال الحرس المدني الإسباني قائماً هناك حتى يومنا هذا، ويواصل القيام بدوريات على الساحل وحتى  فحص جوازات السفر في المطار لوقف الهجرة غير النظامية.

ومع ذلك، لم يعتمد البيروقراطيون في الاتحاد الأوروبي في بروكسل استراتيجية أكثر صرامة إلا بعد “أزمة المهاجرين” في عام 2015، من خلال تخصيص الأموال لوقف الهجرة من المنبع. فقد أنشأوا “الصندوق الائتماني للطوارئ التابع للاتحاد الأوروبي لتحقيق الاستقرار ومعالجة الأسباب الجذرية للهجرة غير الشرعية والنازحين في أفريقيا”، أو اختصاراً EUTF.

في حين أن الاسم يبدو خيّراً، فإن الـ EUTF هو المسؤول عن الحقيبة السوداء في محطة روسو الحدودية، والطائرات بدون طيار، ونظارات الرؤية الليلية. كما تم استخدام الصندوق أيضاً لإرسال بيروقراطيين ومستشارين أوروبيين عبر أفريقيا للضغط على الحكومات لصياغة سياسات جديدة للهجرة – وهي سياسات، كما أخبرني أحد مستشاري الـ EUTF مجهول الهوية، كثيراً ما يتم “استنساخها ونقلها من بلد إلى آخر” دون النظر إلى الظروف الفريدة التي يواجهها كل بلد على حدة.

وقالت فاتو فاي، باحثة الهجرة السنغالية، لإرنست وستريك: “الاتحاد الأوروبي يجبر السنغال على تبني سياسات لا علاقة لها بنا”.

لكن المساعدات الأوروبية تعتبر بمثابة حافز قوي، كما تقول ليوني جيجن، الباحثة في جامعة أمستردام والتي تدرس تأثير الاتحاد الأوروبي على إدارة الهجرة في السنغال. وتقول إن مثل هذه الأموال دفعت السنغال إلى إصلاح مؤسساتها وأطرها القانونية على غرار القواعد الأوروبية، مما أدى إلى إعادة إنتاج “سياسات أورو مركزية”  تشوه بل وتجرم الحراك الإقليمي. وتشير جيجن إلى أن كل ذلك يأتي متضمناً في الاقتراح الأساسي بأن “التحسين والحداثة” هي أشياء “يتم جلبها من الخارج” – وهو اقتراح يذكرنا بماضي السنغال الاستعماري.

قبل قرون من الزمان، كانت الحدود التي يتم تحصينها الآن بطلب من الاتحاد الأوروبي، قد رسمتها الإمبراطوريات الأوروبية التي كانت تتفاوض فيما بينها في اندفاعها لنهب الموارد الأفريقية. استولت ألمانيا على مساحات واسعة من غرب وشرق أفريقيا؛ وطالبت هولندا بحصتها في جنوب أفريقيا؛ استولى البريطانيون على حزام من الأرض يمتد من الشمال إلى الجنوب في الجزء الشرقي من القارة؛ وامتدت المستعمرات الفرنسية من المغرب إلى جمهورية الكونغو، بما في ذلك السنغال الحالية، التي حصلت على استقلالها قبل 63 عاماً فقط.

إن إسناد إدارة الحدود للدول التي تنشأ منها  الهجرة ليست ظاهرة فريدة من نوعها تماماً. لقد زودت الإدارات الرئاسية الثلاث الماضية في الولايات المتحدة المكسيك بملايين الدولارات لمنع اللاجئين من أميركا الوسطى والجنوبية من الوصول إلى الحدود الأميركية، وأعلنت إدارة الرئيس بايدن أنها ستبني مراكز إقليمية في أميركا اللاتينية حيث يمكن للأشخاص التقدم بطلب للحصول على اللجوء، مما يؤدي بشكل فعَّال إلى توسيع نطاق مراقبة الحدود الأميركية لآلاف الأميال خارج حدودها المادية.

لكن الجهود التي تبذلها أوروبا لنقل إدارة الحدود إلى أفريقيا هي إلى حد بعيد الأكثر طموحاً والأفضل تمويلاً بين التجارب في جميع أنحاء العالم.

وصلت إلى نقطة التفتيش المغبرة في قرية موسالا، على حدود السنغال مع مالي، ظُهر يوم شديد الحرارة في أوائل شهر مارس [2023]. وكنقطة عبور رئيسية، اصطفت عشرات الشاحنات والدراجات النارية في انتظار العبور. بعد أشهر من الجهود غير المثمرة للحصول على إذن من الحكومة للوصول إلى المراكز الحدودية مباشرة، كنت آمل أن يخبرني رئيس المحطة عن كيفية تأثير تمويل الاتحاد الأوروبي على عملهم. رفض الرئيس الخوض في التفاصيل، لكنه أكد أنهم تلقوا مؤخراً تدريباً ومعدات من الاتحاد الأوروبي، والتي يستخدمونها بانتظام. وكانت هناك شهادة دبلوم صغيرة وجائزة من التدريب، وكلاهما مزين بعلم الاتحاد الأوروبي، على مكتبه كدليل.

كما كان إنشاء وتجهيز المراكز الحدودية مثل موسالا عنصراً مهماً في شراكة الاتحاد الأوروبي مع المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة. إلى جانب تكنولوجيا المراقبة التي تتلقاها فروع DNLT، تم أيضاً تثبيت أنظمة تحليل بيانات الهجرة في كل مركز، إلى جانب أنظمة بصمات الأصابع البيومترية والتعرف على الوجوه. والهدف المعلن هو إنشاء ما يسميه الأوروبيين نظام IBM الأفريقي: الإدارة التكاملية للحدود. في بيان صدر عام 2017، أعلن منسق مشروع المنظمة الدولية للهجرة في السنغال بفخر أن ” IBM هي أكثر من مجرد مفهوم بسيط؛ إنها ثقافة”، وهو ما كان يعني به على ما يبدو تحولاً أيديولوجياً على مستوى القارة بالكامل نحو تبني منظور الاتحاد الأوروبي بشأن الهجرة.

وبعبارات أكثر عملية، يعني نظام IBM دمج قواعد البيانات السنغالية (التي تحتوي على بيانات بيومترية حساسة) مع بيانات من وكالات الشرطة الدولية (مثل الإنتربول واليوروبول)، مما يسمح للحكومات بمعرفة من عبر الحدود ومتى. ويحذر الخبراء من أن هذا الأمر يمكن أن يسهل عمليات الترحيل وغيرها من الانتهاكات بسهولة.

الاحتمال ليس مجرد تخمين. في عام 2022، قال عميل استخبارات إسباني سابق لصحيفة إسبانية EL Confidencial إن السلطات المحلية في مختلف البلدان الأفريقية “تستخدم التكنولوجيا التي توفرها إسبانيا لملاحقة وقمع جماعات المعارضة والناشطين والمواطنين الذين ينتقدون السلطة”، وأن الحكومة الإسبانية كانت تدرك ذلك جيداً.

ادعى متحدث باسم المفوضية الأوروبية أن “جميع المشاريع الأمنية التي يمولها الاتحاد الأوروبي تتضمن تدريباً يهدف إلى بناء القدرات في مجال حقوق الإنسان” وأن الكتلة تجري تقييمات بخصوص أثر المشاريع على حقوق الإنسان قبل وأثناء تنفيذ جميع هذه المشاريع. ولكن عندما طلبت عضو البرلمان الأوروبي الهولندية تينكي ستريك تقارير التقييم هذه في وقت سابق عام 2023، تلقت ردوداً رسمية من ثلاث إدارات منفصلة في المفوضية تقول إنها لا تملكها. وجاء في أحد الردود: “لا يوجد أي شرط تنظيمي للقيام بذلك”.

وفي السنغال، حيث تتعرض الحريات المدنية للخطر بشكل متزايد، يتفاقم خطر إساءة استخدام تكنولوجيا المراقبة. في عام 2021، قتلت قوات الأمن السنغالية 14 متظاهراً معارضاً للحكومة؛ ففي العامين الماضيين، سُجن العديد من السياسيين والصحافيين المعارضين السنغاليين لانتقادهم الحكومة، أو لإبلاغهم عن قضايا حساسة سياسياً أو “نشر أخبار كاذبة”. ويخشى الكثيرون أن الرئيس الحالي ماكي سال يعتزم في عام 2024 السعي لإعادة انتخابه لولاية ثالثة غير دستورية. وفي يونيو، حُكم على الخصم الرئيسي لسال بالسجن لمدة عامين بتهمة “إفساد الشباب” [الخصم هو عثمان سونكو مؤسس أكبر حزب معارضة في السنغال PASTEF]. أثار الحكم احتجاجات في جميع أنحاء البلاد خلفت 23 قتيلاً في الأيام القليلة الأولى، ودفعت الحكومة إلى قطع الانترنت. وأعلن سال أخيراً في يوليو أنه لن يسعى لإعادة انتخابه، مستعيدة البلاد استقرارها، ولكن دون تبديد المخاوف بين مواطنيها من أن حكومتهم أصبحت استبدادية على نحو متزايد. [جرت الانتخابات الرئاسية السنغالية بعد عدة تأجيلات في 24 مارس 2024 والنتائج تشير إلى فوز بشيرو فاي، الأمين العام السابق لحزب PASTEF والذي خاض الانتخابات بدلاً من عثمان سونكو بسبب التهمة القضائية التي وُجهت للأخير]. وفي هذا السياق، يشعر الكثيرون بالقلق من أن الأدوات التي تتلقاها البلاد من الاتحاد الأوروبي لن تؤدي إلا إلى تفاقم الأمور في الداخل، في حين أنها لن تفعل شيئاً لوقف الهجرة.

وبينما كنت على وشك التوقف عن محاولة التحدث مع الشرطة المحلية، وافق ضابط هجرة رفض كشف هويته في تامباكوندا، وهي مركز عبور آخر يقع بين الحدود المالية والغينية، على التحدث بشرط عدم الكشف عن هويته. تامباكوندا هي واحدة من أفقر مناطق السنغال ومصدر معظم الهجرة الخارجية. الجميع هناك، بما في ذلك الضابط، يعرفون شخصاً حاول المغادرة إلى أوروبا.

وقال الضابط من خلال مترجم بعد مغادرته مركزه: “لو لم أكن شرطياً، لكنت سأهاجر أيضاً”. وتابع أن استثمارات الاتحاد الأوروبي الحدودية “لم تفعل أي شيء”، مشيراً إلى أنه في اليوم التالي فقط، كانت مجموعة تعبر الحدود إلى مالي في طريقها إلى أوروبا.

منذ حصولها على الاستقلال في عام 1960، تم الترحيب بالسنغال باعتبارها منارة للديمقراطية والاستقرار، في حين عانى العديد من جيرانها من الصراعات السياسية والانقلابات. لكن أكثر من ثلث السكان يعيشون تحت خط الفقر، ويدفع نقص الفرص الكثيرين إلى الهجرة، خاصة إلى فرنسا وإسبانيا. واليوم، تشكل التحويلات المالية من الدياسبورا ما يقرب من 10% من الناتج المحلي الإجمالي في السنغال. باعتبارها الدولة الواقعة في أقصى غرب أفريقيا، يعبر العديد من سكان غرب إفريقيا أيضاً عبر السنغال فراراً من الصعوبات الاقتصادية وكذلك العنف من الفروع الإقليمية لتنظيم القاعدة وتنظيم داعش، مما أجبر ما يقرب من 4 ملايين شخص على مغادرة منازلهم.

قال لي الضابط: “لا يستطيع الاتحاد الأوروبي حل الأمور من خلال بناء الجدران وإنفاق الأموال فحسب”. “يمكنهم تمويل كل ما يريدون تمويله، لكنهم لن يوقفوا الهجرة بهذه الطريقة”. وقال إن الكثير من أموال الاتحاد الأوروبي التي أنفقت على الشرطة والحدود لم تحقق أكثر من شراء سيارات مكيفة جديدة لمسؤولي البلدات الحدودية.

وفي الوقت نفسه، تعاني الخدمات المقدمة للأشخاص المُرحَلين – مثل مرافق الحماية والاستقبال – من نقص حاد في التمويل. وبالعودة إلى معبر روسو الحدودي، يتم ترحيل المئات أسبوعياً من موريتانيا. يعمل مباي ديوب مع مجموعة من المتطوعين في مركز الصليب الأحمر على الجانب السنغالي من النهر لاستقبال المرحلين: رجال ونساء وأطفال، الذين يحملون أحياناً جروحاً في معصميهم بسبب الأصفاد أو بعد تعرضهم للضرب على أيدي الشرطة الموريتانية.

لكن ديوب يفتقر إلى الموارد اللازمة لمساعدتهم فعلياً.

يقول ديوب إن النهج بأكمله كان خاطئاً. “لدينا احتياجات إنسانية، وليس احتياجات أمنية”.

وقد حاول الاتحاد الأوروبي أيضاً اتباع نهج “العصا والجزرة” لتثبيط الهجرة، عبر تقديم المنح التجارية أو التدريب المهني لأولئك الذين يعودون أو لا يحاولون المغادرة. وخارج تامباكوندا، تنتشر عشرات اللوحات الإعلانية التي تعلن عن مشاريع الاتحاد الأوروبي على الطريق المؤدي إلى المدينة.

لكن المنح الفعلية لا تتطابق مع ما يعدون به، كما تشير بينتا لي البالغة من العمر 40 عاماً. تدير لي متجراً صغيراً في تامباكوندا، تبيع فيه العصائر المحلية وأدوات النظافة. وعلى الرغم من أنها أنهت دراستها الثانوية ودرست الحقوق في الكلية لمدة عام، إلا أن ارتفاع تكاليف المعيشة في داكار أجبرها في النهاية على ترك الدراسة والانتقال إلى المغرب للعثور على عمل. وعاشت بالدار البيضاء ومراكش سبع سنوات. وبعد أن مرضت، عادت إلى السنغال وافتتحت متجرها.

في عام 2022، تقدمت لي بطلب للحصول على منحة تُقدم للمشاريع الصغيرة، تهدف إلى حث السنغاليين المحليين على عدم الهجرة، من مكتب مبادرة منع الهجرة الممول من الاتحاد الأوروبي والمسمى BAOS، والذي افتتح داخل فرع تامباكوندا لوكالة التنمية الإقليمية السنغالية في ذلك العام. كان الطلب المقدم من لي هو بدء خدمة الطباعة والنسخ والتغليف في متجرها، الذي يقع في مكان مناسب بجوار مدرسة ابتدائية تحتاج إلى مثل هذه الخدمات.

تمت الموافقة على حصول لي على منحة تبلغ حوالي 850 دولاراً، أي ربع الميزانية التي طلبتها، ولكنها كانت متحمسة على الرغم من ذلك.  وبعد مرور عام على الموافقة، لم تر لي فرنكاً واحداً من هذا التمويل.

في السنغال بشكل عام، تلقت BAOS إجمالي 10 ملايين دولار من الاتحاد الأوروبي لتمويل هذه المنح. لكن فرع تامباكوندا حصل على 100 ألف دولار فقط، وفقاً لعبد العزيز تانديا، مدير المكتب المحلي لوكالة التنمية الإقليمية – وهو ما يكفي لتمويل 84 شركة فقط في منطقة يزيد عدد سكانها عن نصف مليون شخص، ولا يكفي المبلغ لتلبية احتياجاتهم.

وقال متحدث باسم المفوضية الأوروبية إن توزيع المنح بدأ أخيراً في أبريل الماضي، وتلقت لي طابعة وآلة تغليف، ولكن لم يكن لديها جهاز كمبيوتر لاستخدامهما. تقول لي: “من الجيد أن أحصل على هذا التمويل، لكن الانتظار لفترة طويلة يغير جميع خططي”.

يقر تانديا بأن BAOS لا يلبي الاحتياج. ويرجع ذلك جزئياً إلى البيروقراطية، كما يقول: يجب أن توافق داكار على جميع المشاريع، والوسطاء هم المنظمات غير الحكومية والوكالات الأجنبية، مما يعني أن السلطات المحلية والمستفيدين على حد سواء ليس لديهم سيطرة على الأموال التي يعرفون كيفية استخدامها بشكل أفضل. ولكن تانديا يقر أيضاً أنه مع افتقار العديد من المناطق خارج العاصمة إلى المياه النظيفة والكهرباء والمرافق الطبية، فإن المنح الصغيرة وحدها ليست كافية لمنع الناس من الهجرة.

يقول تانديا: “على المدى المتوسط ​​والطويل، هذه الاستثمارات ليس لها معنى”.

وتبدو فرص التدريب المهني التي يوفرها الاتحاد الأوروبي مفيدة بنفس القدر، كما توضح تجربة عمر دياو. الآن، أمضى دياو، البالغ من العمر 30 عاماً، ما لا يقل عن خمس سنوات في محاولة الوصول إلى أوروبا، عبر صحاري مالي والنيجر القاسية حتى وصل إلى الجزائر. ولكن بمجرد وصوله، تم ترحيله على الفور إلى النيجر، حيث لم تكن هناك خدمات استقبال؛ لقد تقطعت به السبل في الصحراء لأسابيع. وفي نهاية المطاف، أعادته المنظمة الدولية للهجرة إلى السنغال، وصنفت عودته على أنها “طوعية”.

عندما عاد إلى موطنه في تامباكوندا، قامت المنظمة الدولية للهجرة بتسجيل دياو في دورة تدريبية حول التسويق الرقمي، والتي كان من المفترض أن تستمر عدة أسابيع وأن تدر عليه راتباً قدره 50 دولاراً تقريباً. لكن دياو يقول إنه لم يتلق أبداً المبلغ الموعود به، وبقي أمامه تدريب لا فائدة منه تقريباً في موقفه، نظراً لقلة الطلب في تامباكوندا على التسويق الرقمي. وهو يدخر حالياً ليحاول مرة أخرى الهجرة إلى أوروبا.

يبدو أن القليل من المشاريع المنوط بها كبح الهجرة في الاتحاد الأوروبي تستجيب لتحديات الواقع المحلي. لكن قول ذلك جهراً ينطوي على مخاطر كبيرة، كما يعرف الباحث في شؤون الهجرة بوبكر سيي أكثر من غيره.

ولد سيي في السنغال ولكنه يعيش الآن في إسبانيا، وهو مهاجر غادر ساحل العاج، حيث كان يعمل مدرساً للرياضيات، عندما اندلعت أعمال العنف بعد الانتخابات الرئاسية عام 2000. وبعد فترات إقامة قصيرة في فرنسا وإيطاليا، وصل إلى إسبانيا، حيث حصل في النهاية على الجنسية وأنشأ عائلة مع زوجته الإسبانية. لكن عدد القتلى الكبير الذي جاء مع موجة تدفق المهاجرين إلى جزر الكناري عام 2006 دفع سي إلى إنشاء منظمة، “آفاق بلا حدود”، للمساعدة في دمج المهاجرين الأفارقة في إسبانيا. واليوم، يجري سيي أبحاثاً ويدافع عن حقوق الأشخاص المتنقلين على نطاق أوسع، مع التركيز على أفريقيا والسنغال.

في عام 2019، حصل سيي على وثيقة تتضمن تفاصيل إنفاق الاتحاد الأوروبي على الهجرة في السنغال، وصُدم عندما عرف حجم الأموال التي تم استثمارها لوقف الهجرة، بينما يغرق الآلاف من طالبي اللجوء كل عام على طول بعض طرق الهجرة الأكثر فتكاً في العالم. وفي المقابلات الصحافية وفي المناسبات العامة، بدأ سيي يطالب السنغال بمزيد من الشفافية حول أين ذهبت مئات الملايين من الدولارات من تمويل الاتحاد الأوروبي، وقد وصف البرامج بأنها “فاشلة”.

في أوائل عام 2021، تم احتجاز سي في مطار داكار بتهمة “نشر أخبار كاذبة”. أمضى أسبوعين في السجن، وتدهورت صحته بسرعة تحت الضغط، وبلغت ذروتها بنوبة قلبية غير مميتة.

يقول سيي: “لقد كان الأمر غير إنساني، وكان مهيناً، وسبَّب لي مشاكل صحية أعاني منها حتى يومنا هذا”. “كل ما فعلته هو أني سألت: أين المال؟”

لم يكن سي مُخطئاً. من المعروف أن تمويل ملف الهجرة في الاتحاد الأوروبي غامض يصعب تتبعه. تتأخر طلبات حرية الوصول إلى المعلومات لعدة أشهر أو سنوات، في حين أن طلبات إجراء المقابلات مع بعثة الاتحاد الأوروبي في السنغال والمفوضية الأوروبية والسلطات السنغالية غالباً ما يتم رفضها أو تجاهلها، كما رأيت بنفسي. لم تستجب DNLT وشرطة الحدود ووزارة الداخلية ووزارة الخارجية والسنغاليين الذين يعيشون في الخارج – “وجميعها تلقت أموال ملف الهجرة من الاتحاد الأوروبي” – لطلبات المقابلة المتكررة بخصوص هذه القصة سواء تم تقديمها كتابياً، أو عبر الهاتف وشخصياً.

كما تفشل تقارير التقييم الخاصة بالاتحاد الأوروبي في تقديم رؤية كاملة لتأثير البرامج، ربما عمداً. العديد من المستشارين الذين عملوا على تقارير غير منشورة لتقييم أثر مشاريع الـ EUTF والذين تحدثوا دون الكشف عن هويتهم بسبب اتفاقيات عدم الإفصاح، حذروا من أنه لا يتم إبداء سوى القليل من الاهتمام للتأثيرات غير المتوقعة التي تحدثها بعض مشاريع الصندوق الائتماني الأوروبي EUTF.

ففي النيجر، على سبيل المثال، ساعد الاتحاد الأوروبي في صياغة قانون يجرم تقريباً كل التحركات في شمال البلاد، مما يجعل التنقل الإقليمي غير قانوني فعلياً. وفي حين انخفض عدد محاولات المرور غير النظامية على طرق هجرة محددة، فقد أدت هذه السياسة أيضاً إلى جعل جميع الطرق أكثر خطورة، وزيادة الأسعار التي يطلبها المهربون، وتجريم سائقي الحافلات المحلية وشركات النقل، مما أدى إلى فقدان الكثيرين وظائفهم بين عشية وضحاها.

إن عدم القدرة على تقييم هذا النوع من التأثير ينبع في الأساس من القيود المنهجية وقيود متعلقة بالموارد، ولكن أيضاً لأن الاتحاد الأوروبي لم يكلف نفسه عناء النظر.

وأوضح أحد المستشارين الذي يعمل مع إحدى شركات المراقبة والتقييم الممولة من الاتحاد الأوروبي الأمر بهذه الطريقة: “ما هو التأثير؟ ما هي العواقب غير المقصودة؟ ليس لدينا الوقت والمكان للإبلاغ عن ذلك. [نحن] نراقب المشاريع فقط من خلال التقارير الواردة من المنظمات المنفذة، لكن خدماتنا الاستشارية لا تقوم بتقييمات مستقلة”.

وقد أشار تقرير داخلي حصلت عليه إلى أن “عدداً قليلاً جداً من المشاريع قام بجمع البيانات اللازمة لتتبع التقدم المحرز نحو تحقيق الأهداف الشاملة للصندوق الائتماني الأوروبي EUTF (وهي تعزيز الاستقرار والحد من النزوح القسري والهجرة غير النظامية)”.

وقال أحد المستشارين إن هناك أيضاً شعوراً بأن التقارير الوردية فقط هي المُرحب بها: “إن مراقبتنا تشير ضمناً إلى أننا بحاجة إلى أن نكون إيجابيين بشأن المشاريع حتى نحصل على التمويل في المستقبل”.

في عام 2018، انتقدت محكمة المراجعين الأوروبية، وهي مؤسسة مستقلة تابعة للاتحاد الأوروبي، الصندوق الائتماني للاتحاد الأوروبي، قائلة أن عملية اختيار المشاريع كانت غير متسقة وغير واضحة. ووصفت دراسة، بتكليف من البرلمان الأوروبي، العملية بأنها “غامضة تماماً”.

تقول عضو البرلمان الأوروبي كورنيليا إرنست: “للأسف، الرقابة البرلمانية محدودة للغاية، وهي مشكلة كبيرة عندما يتعلق الأمر بالمساءلة”. “حتى باعتبارك شخصاً مطلعاً جداً على سياسات الاتحاد الأوروبي، يكاد يكون من المستحيل فهم أين تذهب الأموال بالضبط ولأي غرض”.

وفي إحدى الحالات، يجري الآن التحقيق مع مشروع صندوق الاتحاد الأوروبي لإنشاء وحدات شرطة حدود نخبوية في ستة بلدان في غرب أفريقيا، بهدف محاربة الجماعات الجهادية والاتجار بالبشر، بتهمة الاحتيال بعد اختلاس أكثر من 13 مليون دولار.

في عام 2020، أثار مشروعان آخران للصندوق الائتماني الأوروبي، يهدفان إلى تحديث السجلات المدنية في السنغال وساحل العاج، قلقاً عاماً كبيراً بعد الكشف عن أنهما يهدفان إلى إنشاء قواعد بيانات بيومترية وطنية؛ ويخشى نشطاء الدفاع عن الخصوصية أن تقوم المشاريع بجمع وتخزين بصمات الأصابع وصور الوجه لمواطني البلدين. عندما طلبت إيليا سياتيتسا، وهي تعمل في منظمة الخصوصية الدولية، وثائق من المفوضية الأوروبية، اكتشفت أن المفوضية لم تقم بإجراء أي تقييم لتأثير هذه المشاريع على حقوق الإنسان – وهو إغفال صادم، بالنظر إلى حجم المشاريع وحقيقة أنه لا توجد دولة أوروبية تحتفظ بقواعد بيانات بهذا المستوى المتطور من المعلومات البيومترية.

وزعم متحدث باسم المفوضية أن الصندوق الائتماني للاتحاد الأوروبي EUTF لم يمول مطلقاً السجل المدني البيومتري وأن المشاريع في السنغال وساحل العاج كانت تقتصر دائماً على رقمنة المستندات ومنع الاحتيال. لكن وثائق الاتحاد الأوروبي التي حصلت عليها سياتيتسا توضح البعد البيومتري في مرحلة تعريف الشخصية، وتحدد الهدف المتمثل في إنشاء “قاعدة بيانات تحديد هوية بيومترية للسكان، مرتبطة بنظام موثوق للأحوال المدنية”.

واستنتجت سياتيتسا في وقت لاحق أن الغرض الحقيقي لكلا المشروعين يبدو أنه تسهيل ترحيل المهاجرين الأفارقة من أوروبا؛ نصت الوثائق المتعلقة بمبادرة ساحل العاج صراحةً على أنه سيتم استخدام قاعدة البيانات لتحديد هوية الإيفواريين المقيمين بشكل غير قانوني في أوروبا وإعادتهم، حيث أوضحت إحداها أن هدف المشروع هو تسهيل “التعرف على الأشخاص الذين هم مواطنون إيفواريون حقيقيون وتنظيم عودتهم بشكل أكثر سهولة”

عندما علم الناشط السنغالي في مجال الخصوصية شيخ فال بقاعدة البيانات المقترحة لبلاده في عام 2021، تواصل مع هيئة خصوصية البيانات في البلاد، والتي كان ينبغي، بموجب القانون، أن توافق على مثل هذا المشروع. وعلم فال أنه لم يتم إبلاغ المكتب بالمشروع إلا بعد ان وافقت الحكومة عليه بالفعل.

في نوفمبر العام 2021، قدمت سياتيتسا شكوى إلى أمين المظالم في الاتحاد الأوروبي، والذي، بعد تحقيق مستقل حكم في ديسمبر الماضي بأن المفوضية فشلت في النظر في التأثير السلبي المحتمل على حقوق الخصوصية الذي يمكن أن يحدثه هذا المشروع وغيره من مشاريع الهجرة التي يمولها الاتحاد الأوروبي في أفريقيا.

استناداً إلى المحادثات مع عدة مصادر والتفاصيل الداخلية التي حصلت عليها من اللجنة التوجيهية للمشروع، يبدو أن المشروع قد ألغى منذ ذلك الحين مكونه البيومتري. لكن سياتيتسا تقول إن هذه القضية توضح كيف يمكن استخدام التقنيات المحظورة في أوروبا كتجارب في أفريقيا.

في أواخر فبراير [2023]، في اليوم التالي لزيارتهما لمعبر روسو الحدودي، قاد السيارة أعضاء البرلمان الأوروبي كورنيليا إرنست وتينيكي ستريك لمدة ساعتين جنوب غرب البلاد للقاء مجموعة من قادة المجتمع المحلي في مدينة سانت لويس الساحلية. على الأرجح تم تسميتها على اسم قديس القرن الثالث عشر الملك الفرنسي لويس التاسع، كانت المدينة ذات يوم عاصمة إمبراطورية فرنسا في غرب أفريقيا. واليوم، أصبحت هذه المدينة مركز الجدل الدائر حول الهجرة في السنغال.

وفي قاعة اجتماعات بأحد الفنادق المحلية، اجتمع وفد الاتحاد الأوروبي بقيادة إرنست وستريك أمام قادة مجتمع الصيد المحلي للحديث عن نشر قوات فرونتكس وديناميكيات الهجرة في المنطقة. على جانب واحد جلس أعضاء البرلمان الأوروبي ومساعديهم؛ من ناحية أخرى، السكان المحليين. على الحائط خلف التجمع السنغالي، عُلقت لوحة لمستعمر أبيض يرتدي خوذة من اللباد يجلس في قارب على نهر سنغالي، ويلقي محاضرة على الرجلين الأفريقيين اللذين يقومان بالتجديف. وكانت المفارقة صارخة، والجو متوتراً.

لعشرات الأجيال، اعتمد الاقتصاد المحلي لسانت لويس على المحيط. ويمثل الصَيد من الاصطياد الحرفي 95% من السوق الوطنية وجوهر النظام الغذائي المحلي. يعتمد الصيادون والنساء الذين يقومون بتجهيز الصيد للبيع وبناة القوارب والرسامين والموزعين المحليين على صيد الأسماك كما هو معتاد في السنغال منذ مئات السنين. لكن اتفاق عام 2014 بين الاتحاد الأوروبي وحكومة السنغال، الذي يسمح للسفن الأوروبية بالصيد قبالة ساحل غرب أفريقيا، قد أدى إلى استنفاذ خيرات المنطقة وهدد بانهيار اقتصادها.

منذ أن ألقت القوارب الصناعية الأوروبية شباكها الأولى، اضطر الصيادون المحليون في سانت لويس إلى الابتعاد أكثر فأكثر عن الشاطئ. والآن، بينما تتنافس سفن الصيد الصينية أيضاً في مياههم، فالصيادون المحليون يسافرون بانتظام لمسافة 60 ميلًا في البحر.

وهناك أيضاً منصة جديدة للغاز تابعة لشركة بريتيش بتروليوم قرب الساحل، والتي أغرت الزعماء الأوروبيين كوسيلة لتقليل الاعتماد على الطاقة الروسية، ولكنها تمثل أيضاً منطقة أخرى لا يستطيع الصيادون السنغاليون الذهاب إليها. ويقول السكان المحليون إن خفر السواحل، الذي كان يقوم في المقام الأول بمهام البحث والإنقاذ للصيادين المنكوبين، يركزون الآن على حراسة المنصة الأجنبية.

وقال مصطفى دينج، الأمين العام للاتحاد الوطني للصيد البحري، إن “الناس الذين يكسبون المال من استغلال الغاز، سيكون ذلك على حساب دماء الصيادين”.

ومع تدهور الوضع، فقد العديد من السكان المحليين مصدر دخلهم الوحيد واضطروا إلى التفكير في الهجرة كبديل.

وبعد عدة ساعات من الشكاوى الساخنة، اعترفت ستريك بهذه المفارقة، التي أصبحت واضحة بشكل مؤلم. وقالت: “من الواضح للغاية أن السياسة التجارية للاتحاد الأوروبي واتفاقية الصيد الخاصة به تؤدي إلى الهجرة نحو أوروبا”.

في الشهر التالي لعودة إرنست وستريك من السنغال، عقدت لجنة حقوق الإنسان التابعة للبرلمان الأوروبي جلسة استماع حول تأثير سياسة الهجرة في الاتحاد الأوروبي على حقوق الإنسان في غرب أفريقيا. أعرب سيري سال، من بوزا فاي، إلى جانب باحث في هيومن رايتس ووتش يعمل في موريتانيا وموظف في منظمة غير حكومية من مالي، عن مخاوفهم من أن سياسات الاتحاد الأوروبي في المنطقة لا تعالج الاحتياجات المحلية بل تقوض السيادة وحقوق الإنسان.

وتجاهل ممثلو المفوضية هذه الشكاوى، فضلاً عن دعوة ستريك لإنشاء نظام مراقبة لتعليق مشاركة الاتحاد الأوروبي في حالة انتهاك حقوق الإنسان. وقال أحد الممثلين إنه ليست هناك حاجة لتقييم حقوق الإنسان، وهو ما يبدو وكأنه سيلقي خبراً مهما، لأن حكومة السنغال أشارت إلى أنها ليست منفتحة أمام دخول فرونتكس.

وفي قاعة الاستماع وفي السنغال، جلبت الأخبار شعوراً بالارتياح. واعتبرت ستريك ذلك علامة على أن “الاتحاد الأوروبي يفقد نفوذه في السنغال بسبب الإحباط إزاء العلاقة غير المتكافئة”.

لكن هذا الارتياح لا ينبغي أن يدوم. ورغم أن انتشار وكالة فرونتكس قد تم حظره (على الأقل مؤقتاً) في السنغال، إلا أنها تبدو في طريقها إلى موريتانيا، ومن المحتمل أن تكون في بلدان أخرى قريباً. وقد التزمت المفوضية الأوروبية بتمويل الشراكات الدولية في أفريقيا حتى عام 2027 على الأقل، بما في ذلك من خلال صندوق آخر تم إطلاقه مؤخراً، وهو أداة الجوار والتنمية والتعاون الدولي، والذي يخصص ما يقرب من 9 مليارات دولار لمشاريع تعتبر في الأساس مشاريع لمكافحة الهجرة في جميع أنحاء العالم.

كل هذا يعني أن واحدة من أغنى المناطق على وجه الأرض سوف تستمر في إعادة توجيه مساعدات التنمية المطلوبة بشدة نحو وقف تدفق المهاجرين، بحجة معالجة الأسباب الجذرية للهجرة. ولكن كما توضح تجربة السنغال، فإن الأسباب الجذرية الحقيقية ــ تلك التي تخدم المصالح الأوروبية ــ موجودة وباقية.

تم دعم هذه المقالة من قبل معهد ليونارد سي جودمان للصحافة الاستقصائية. ساهم مادي كامارا في هذا التقرير. قامت هانا بولوس وإيفون أورتيز بتدقيق الحقائق.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

العدوان الصهيوني على لبنان: الأهداف والمواجهة

في هذه المعركة المفتوحة، والطويلة، وبغض النظر عن مساراتها، ومراحلها، تترابط مسائل التحرر الوطني والتحرر الاجتماعي ومواجهة السيطرة الإمبريالية وربيبتها الصهيونية، فلنكن على مستوى التحدّي.

متضامنون مع الصحافية هبة أبو طه

دفاعاً عن حرية الصحافة وما تعرضت له الزميلة الصحافية هبة أبو طه في الأردن، من تضييق وتعسف، أصدرت ٢٤ منصة إعلامية حول العالم بياناً تضامنياً

العدو الصهيوني يتعمد قتل الصحافيين واستهداف مقرات المؤسسات الإعلامية

منذ عام ونيف والعدو الصهيوني يشن حربه العدوانية، بدعم أميركي، على قطاع غزة ويمعن بالاستهداف المباشر للصحافيين وتعمد قتلهم أثناء قيامهم بواجبهم، ويستهدف، بشكل مباشر، مقرات المؤسسات الإعلامية، بهدف ترهيب الكلمة التي تكشف الإجرام الصهيوني

«تقدُّم» تدين استهداف العدو لمكتب قناة الميادين في بيروت وتدعو إلى الإستمرار في كشف الجرائم الصهيونية المدعومة أميركياً في غزة ولبنان

يستمر العدو الصهيوني في تعمده استهداف الصحافيين ومكاتب الإعلام وذلك لإرهاب الكلمة التي تنقل حقيقة مجازره وإجرامه ضد المدنيين في قطاع غزة المقاوم وفي لبنان.