إن التراكم الاشتراكي في الصين هو إطار نظري ليس فقط للتاريخ الاقتصادي ولكن للتاريخ السياسي أيضاً؛ فنجده مُفسراً لكثير من الصراعات والأحداث السياسية في تلك الفترة.
كانت البداية قبل 1949 وتحديداً في الثلاثينيات عندما هرب الحزب الشيوعي الصيني إلى الجنوب (شيانغشي) من بطش الكومنتانج بقيادة شيانج كاي شيك حيث أدى اتّباع الحزب لتوصيات الكومنترن التي نصت على تحالف الشيوعيين مع القوميين (الكومنتانج) لاستكمال الثورة البرجوازية الوطنية إلى اضعاف موقف الحزب الشيوعي وتعرضه للملاحقة عندما مات صن يات سين وانقلب القوميون عليهم بعد تولي شيانج كاي شيك القيادة.
إن هجوم الكومنتانج لم يتوقف بعد هروب الشيوعيين فاستكمل القوميون هجومهم مما أجبر الحزب الشيوعي على الهروب غرباً وبدأت المسيرة الطويلة وكانت تلك اللحظة فارقة في تاريخ الحزب حيث بزغ نجم ماو تسي تونغ وبدأت المراجعات العملية والنظرية لسياسات الحزب السابقة وأخطائه التي أدت إلى محاصرة الحزب في الجنوب وأيضاً اكتسب الحزب خبرة جديدة من خلال التعامل مع الفلاحين والتفاعل معهم.
إن الخط الماوي في الحزب قد اكتسب زخماً كبيراً أثناء المسيرة الطويلة وأحدث الحزب بالفعل قطيعة مع الماضي بكل نظرياته وممارساته ورؤيته وإستراتيجيته الخاطئة. وبعد مرور سنة من التحرك في سهول وجبال غرب الصين استقر الحزب في الشمال، واتخذ من المنطقة الحدودية شنشي وقانسو ونينشغيا وعاصمتها “يانان” مركزاً للشيوعيين ولتطبيق الرؤى والاستراتيجيات الماوية الجديدة (اشتراكية يانان).
على عكس الشيوعيين التقليديين الذين اعتقدوا بأن الطبقة العاملة الصناعية هي الأكثر ثورية لأنها الطبقة الأكثر تطوراً ووعياً وتنظيماً؛ فمثلما ينتظم العمال بالآلاف في المصانع سينتظمون في الحراك الثوري للاستيلاء على سلطة الدولة، ولكن ماو رأى أن طبقة الفلاحين الفقراء والمعدمين (البلا أرض) هي الأكثر ثورية، ويرجع ذلك إلى كثرة عددهم. وتلك الرؤية عملية إلى حد كبير ولكن ماو طَعّم تلك الرؤية بمقولات نظرية؛ فالفلاحون هم الأكثر ثورية لأنهم الأكثر تعرضاً للاستغلال الإمبريالي. وكلما زاد الاستغلال قلت القدرة على احتمال صعاب الحياة، وبالتالي زادت احتمالية التمرد. كما أن الفلاحين الفقراء والمعدمين لا يمكن تقديم تنازلات لهم، لأنه ببساطة لا توجد طبقة ستتحمل قيمة تلك التنازلات. ولكن بالنسبة للعمال الصناعيين فإنه يمكن إغراؤهم وتشتيت وعيهم الطبقي من خلال التنازلات التي ستأتي على حساب الريف. ويجب أن نقول هنا أن رؤية ماو رؤية ماركسية تعتمد في الأساس على مقولة الصراع الطبقي، فماو لا يتجه من قريب أو من بعيد توجه النارودنيك الروس الذين قالوا إن الريف الروسي أقرب إلى الاشتراكية، لأن علاقات الإنتاج الرأسمالية لم تتخلل ذلك الريف بشكل كامل. ولكن على العكس فإن ماو يؤكد على أن الفلاحين أكثر ثورية، لأن العلاقات الرأسمالية هناك مكثفة ويتبع ذلك زيادة حدة الصراع الطبقي. ولكن وقفت أمام ماو معضلة تاريخية وهي أن المطلب الأساسي التاريخي للفلاحين هو الملكية الخاصة والتوزيع العادل للأرض الزراعية! وتزيد المعضلة تعقيداً مع توسيع دائرة التمثيل لتشمل الفلاحين المتوسطين، الذين حملوا ميولاً ونزعاتٍ رجعية، ولكن استطاع ماو حل تلك المعضلة، مع التشديد على الوعي الثوري ودوره المركزي في إشعال وإتمام الحركة الثورية. وبذلك رفض ماو التوجهات الماركسية الميكانيكية التي تقول إن الوعي مجرد شيء ملحق بالبنية التحتية المكونة من قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج. فيمكن أن يؤدي فلاح فقير يمتلك قطعة صغيرة من الأرض دوراً ثورياً أكبر من العامل الصناعي، وذلك في حالة امتلاك الفلاح الوعي الثوري أو الوعي البروليتاري (بدون أن يصبح بروليتاريا بالمعنى الدقيق للكلمة)، وعدم امتلاك العامل الصناعي له. ففي اللحظة الثورية يصبح الوعي هو العامل المهيمن. وترتبط تلك الفكرة الماوية بنظرية أخرى، وهي نظرية أولوية علاقات الإنتاج على قوى الإنتاج؛ فيمكن من وجهة نظر الماوية السعي نحو علاقات إنتاج أكثر تطوراً حتى لو كانت قوى الإنتاج متخلفة، أي أنه يمكن مثلاً السعي نحو علاقات الإنتاج الاشتراكية أو تطبيق مبدأ “لكلٍ حسب عمله” مع وجود قوى إنتاج متخلفة بل ويمكن التقدم إلى الشيوعية حتى. وسيتضح ذلك أكثر في مناقشتنا لمسار جمهورية الصين الشعبية وصراعات الحزب الداخلية، ولكن ما يهمنا الآن هو رؤية ماو التي تقول إن الفلاحين الذين عانوا من تردي كبير للغاية في مستوى تطور قوى الإنتاج يمكنهم السعي الثوري إلى علاقات الإنتاج الاشتراكية، وهذا ما حدث بالفعل في شنشي وقانسو ونينشغيا. وطبق ماو في ذلك الوقت نسخته الخاصة من الاشتراكية؛ تلك النسخة التي لم تتفق كلية مع نسخة الاتحاد السوفييتي، وهي النسخة التي ستظل حاضرة سواء نظرياً أو عملياً بشكل مُهيمِن في مسار جمهورية الصين من 1953 وحتى عام 1975. ويمكن تلخيص تلك السياسات في نقطتين؛ الأولى هي دمج العمل الزراعي مع الصناعة، فماو عندما أعطى لواء الثورة للفلاحين لم يقصد أبداً تمجيد تخلف قوى الإنتاج وتأخر الريف، بل كما ذكرنا فإن الفلاحين كونهم أكثر عرضة للاستغلال فإنهم أيضاً الأكثر سعياً للاشتراكية، والتي تحمل لهم آمال تطوير قوى إنتاجهم عن طريق نماء العمل الصناعي في الريف. والنقطة الثانية هي دمج العمل اليدوي بالعمل الفكري أو دمج العمل اليدوي بالتعليم؛ فما أثار حفيظة ماو هو مدى تقسيم العمل والتخصص في الاتحاد السوفييتي مما أسفر عن المزيد من اللا مساواة بين العمل الفكري والعمل اليدوي. فسعت السياسات الماوية مدفوعة بحديث ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي لتقليل تلك الاختلافات، فنشأت لدينا في يانان جامعات غير متخصصة تُعلِّم الطب والهندسة بجانب الزراعة والتصنيع والتدريب العسكري أيضاً.
هذه هي الخطوط العريضة لفكر ماو تسي تونغ وان قارناها بمفهوم التراكم الاشتراكي سنجد ان الماوية تسعى أيضاً للتراكم ولكن ليس باستخدام أساليب رأسمالية بل اسلوب اشتراكي يعتمد في الأساس على الوعي الثوري للجماهير القادرة على الانتقال من نمط إنتاج إلى نمط أرقى بدون الحاجة تطوير في قوى الإنتاج سواء المستوى التكنولوجي أو مستوى معيشة الجماهير، ان اضفاء الصبغة الجماهيرية على الاقتصاد وادارته تَبعه اضفاء نفس الصبغة على السياسة والايديولوجيا بالطبع وسينعكس ذلك في طبيعة الخلافات والصراعات الحزبية التي دارت في الصين.
بعد نجاح حرب التحرير الشعبية وبداية مرحلة “الديمقراطية الجديدة” (1949- 1952) وهي مرحلة برجوازية تمت تحت اشراف الحزب الشيوعي لاستعادة النظام الاقتصادي بعد الحرب وانهاء التضخم والفوضى، في 1952 بدأت عملية الانتقال نحو الاشتراكية كما رآها الحزب والتي تمثلت في عملية تأميمات واسعة للصناعات ووضع خطط إنتاجية للتصنيع الثقيل ووضع خطة للانتقال من الملكية الفردية للرُقع الزراعية في الريف إلى الزراعة الجماعية ولكن بشكل متدرج، كان النموذج أمام أعين قيادات الحزب هو النموذج السوفييتى حيث تسود ملكية الدولة في المدينة والزراعة الجماعية في الريف وحيث يتم استغلال الريف لصالح الصناعة الثقيلة والتراكم في اطار التراكم الاشتراكي حتى لو لم يستخدم الحزب نفس المصطلح.
وتضمن تطبيق التراكم الاشتراكي استخدام أساليب رأسمالية أو بمعنى أدق نمط إنتاج رأسمالي وبشكل عام فإن الأساليب الرأسمالية التي تم تبنيها في عملية التراكم الاشتراكي احتاجت إلى فاعلين Agents أو شخوص تقوم بإدارة تلك الأساليب، وبالطبع قد اكتسب هؤلاء الفاعلون بعض الصفات الرأسمالية؛ الواضحة كالاستحواذ على فائض القيمة والسيطرة السياسية داخل المنشآت الاقتصادية واحتكار المعرفة. وسنشير إلى هؤلاء بمصطلح “شريحة التراكم الاشتراكي”، فهي مجرد شريحة وليست طبقة متكاملة الأركان لها مصالح موضوعية واحدة ولكنها شريحة وظيفية “تدير” التراكم الاشتراكي البدائي.
إن نمط الإنتاج الرأسمالي في الأساس يتكون من قوى إنتاج وعلاقات إنتاجية، والتي بدورها تتكون من علاقات الملكية الاستحواذية بجانب انفصال العمال عن أدوات الإنتاج؛ أي أن العامل مسلوبٌ من فائض قيمته ومسلوبٌ من تحكمه في أدوات الإنتاج، وبالنسبة للصين إبَّان التنمية الاشتراكية، فالشرطان متحققان ولكن لم توجد طبقة رأسمالية لتكون طرفاً في نمط الإنتاج، والفكرة هنا أنه ليس ضرورياً أن توجد طبقة رأسمالية لإحداث التراكم الرأسمالي أو لتطبيق نمط الإنتاج الرأسمالي؛ لأن مفهوم الطبقة في الأساس هو مفهوم ليس اقتصادياً فقط بل وسياسيا واجتماعيا أيضاً. لذلك يجب أن تتوافر الشروط السياسية لإقامة الطبقة الاجتماعية وهي أنه يجب على المصالح الاقتصادية للجماعة التي يراد لها أن تكون طبقة أن تتبلور بشكلٍ كافٍ حيث تنتقل بعد ذلك من البنية الاقتصادية إلى البنية السياسية، فيصبح للطبقة مصالح سياسية عن طريق تطوير قدرة الجماعة الاقتصادية على التحكم في الدولة والتأثير فيها لتجعل الدولة تعيد إنتاج الظروف الاقتصادية والسياسية لضمان المصالح طويلة الأمد للطبقة الجديدة؛ لذلك فإن استحواذ جماعة من الناس على فائض القيمة غير كاف لتحول تلك الجماعة إلى طبقة اجتماعية، وهذا كان الحال بالنسبة لشريحة التراكم الاشتراكي التي أشرفت وأدارت نمط الإنتاج الرأسمالي في الصين حينذاك. وحديث المفكر الماركسي البان أفريقى أمركال كابرال يثبت ذلك؛ فعند حديثه عن المجتمعات الإفريقية يقول إن عدم وجود تباين طبقي واضح في إفريقيا قديماً لا ينفي أن لتلك المجتمعات تاريخاً حيث نمط الإنتاج (والموجود في كل المجتمعات) هو الأساس، ويمكن أن يوجد بدون تباين طبقي واضح.
فعلى الرغم من استخدام أساليب رأسمالية واضحة لإحداث التراكم، فإن تلك الأساليب كانت تحت سيطرة الحزب والدولة وبالتالي فحتى لو أنتجت تلك الأساليب “شبه طبقة” فإنها ستكون تحت سيطرة الحزب أيضاً. ويوجد من ادعى وجود طبقة بيروقراطية في الصين، وهو مصطلح استخدم بكثافة أثناء الثورة الثقافية، وهو مصطلح إيديولوجي إلى حد كبير؛ لأنه يجسد عداء المثقفين والطلبة لأجهزة الدولة بدون التفرقة بين البيروقراطية العليا والوسطى، وادعاء المثقفين أن صراعهم مع الطبقة البيروقراطية المزعومة هو صراع طبقي ضد الرأسمالية هو ادعاء إيديولوجي لأن أغلب البيروقراطية التي عاداها المثقفون والطلبة كانت من ضمن الطبقة الوسطى التي انتمى إليها الطرفان؛ فيمكن القول إن الصراع المقصود كان داخل الطبقة الوسطى.
لم يسِر التراكم الاشتراكي دون معارضة تساوت معه، بل وفي بعض الأحيان فاقته في القوة، وشكلت الماوية رأس الحربة لمواجهته؛ فمن عام 1955 تبلور في الصين خطان أساسيان متصارعان مع بعضهما البعض؛ الأول هو الخط التقليدي للحزب الذي تبنى التراكم البدائي الاشتراكي تحت مجموعة مفاهيم نظرية ماركسية تقول إن تحقيق علاقات الإنتاج الاشتراكية ومن ثم الشيوعية لن يحدث إلّا بعد تحقيق قدر معين من تطور قوى الإنتاج، أي أن الأخيرة لها الأولوية. وهذه الرؤية تشاركتها أغلب القوى الشيوعية في العالم وخصوصاً القوى السوفييتية وهي تتوافق مع الخطوط العريضة لنظرية التراكم الاشتراكي البدائي. وكان هدف ذلك الخط هو التحديث المستمر، وتجسد ذلك سياسياً في سيطرة الحزب على عملية التحديث من خلال قيادته الطليعية للجماهير، ودفعهم لتأييد القرارات العقلانية التي يتخذها الحزب المنظم لينينياً عن طريق آلية المركزية الديمقراطية، بالإضافة إلى بقرطة الحزب والدولة. أي أن ذلك الخط لا يعطي للجماهير التي قامت بالثورة دوراً كبيراً في عملية الانتقال إلى الشيوعية أو مستويات أرقى من الاشتراكية.
أما عن الخط الثاني فهو الخط الجماهيري mass line الذي صاغه ماو من خلال “اشتراكية يانان”. إن ذلك الخط يعطي لواء القيادة للجماهير الشعبية ويتحول الحزب إلى تلميذ لدى الجماهير ليتعلم منها ويفهم المطالب الجماهيرية والاحتياجات والرؤى عن التحول الثوري ويقوم الحزب – عن طريق كوادره – بإعادة صياغة تلك الرؤى، ويرجعها مرة أخرى للجماهير لتصدق وتضيف عليها وهكذا، وهكذا تتشكل العلاقة الديالكتيكية بين الجماهير والحزب. وتقوم الجماهير المسلحة بالوعي الثوري بالقضاء على علاقات الإنتاج القديمة وإنشاء علاقات جديدة أرقى دون الحاجة إلى الوصول إلى درجة تطور معينة للقوى الإنتاجية ومن المفترض أن قوى الإنتاج المتخلفة ستنمو وتزدهر في سياق علاقات الإنتاج الراقية، أي أن الأولوية هنا لعلاقات الإنتاج. ويتجسد ذلك سياسياً من خلال الثورة الدائمة والمعاداة الشرسة للبيروقراطية ومحاولة تفكيك أي مركز قوة يتكون أثناء عملية بناء الدولة. وعلى الرغم من أن الخط الجماهيري هو الخط المحقق فعلاً لمفهوم الديمقراطية الاشتراكية، حيث تشترك الجماهير في إدارة الدولة والحزب، إلّا أن التاريخ أثبت أن الخط الأول هو الأصلح لقيادة الدولة والحزب، على الرغم من ان صراع الخطين وتناقضهم لم يكن صراعاً صفرياً بل نتجت عنه نتائج إيجابية تمثلت في الاجهاض المستمر لعملية تكوين نواة اوليجاركية داخل الحزب والدولة كما حدث في الاتحاد السوفييتى؛ فالصراع في الصين كان علنياً وجماهيرياً أبقى على كون الفئة الحاكمة مجرد شريحة وظيفية للتراكم دون ان تتحول إلى طبقة فالبيروقراطية لم يتوفر لها الوقت اللازم لبناء نفسها، واستهلكت الكثير من القوة في الصراع مع الخط الجماهيري.
وأول معركة بين الخطين كانت طفيفة إلى حد ما، ولم يكن هناك معاداة مباشرة بينهما، فكان الخط الماوي ما زال مهيمناً على الدولة هيمنة كاملة. وتجسد التعارض فيما يعرف بحملة الزراعة الجماعية؛ قررت الدولة تطبيق الزراعة الجماعية ولكن على مراحل، أما ماو فكان يريد التطبيق المباشر للزراعة الجماعية، قائلاً إن الجماهير تمتلك وعياً ثورياً بالدرجة المطلوبة لتنفيذها كما أن عملية التحول لعلاقات الإنتاج الاشتراكية تتم بسرعة كبيرة، وبناءً على ذلك لا داعٍ لتطوير قوى الإنتاج حتى يتسنى للشعب الصيني تطبيق الزراعة الجماعية. ونجح ماو في تمرير سياساته ولكن ليس بطريقة بيروقراطية تخضع للهيراركية الحزبية والديمقراطية المركزية، بل بطريقة شعبية وأيديولوجية هددت أو ساءلت السلطة الدولتية والحزبية المنفذة للتراكم البدائي الاشتراكي. وكانت الحركة الشعبية الأيديولوجية حينذاك، والتي أطلقها ماو بطريقة غير مباشرة، هي حركة “مائة زهرة” عام 1957.
وقبل مناقشة الحركة سنتناول كيفية تنفيذ الزراعة الجماعية في الريف الصيني. لو قارنّا بين حركة الزراعة الجماعية بين جمهورية الصين الشعبية والاتحاد السوفييتي، سنجد أنها في الأخير تمت العملية عبر إراقة مروعة للدماء وتهجير الفلاحين إلى سيبيريا، أما في الصين فلم يحدث إلّا النزر القليل من ذلك. سبب ذلك أن الحزب الشيوعي الصيني قد اكتسب قوته الثورية وصنع قطيعته مع هزائم الماضي، من خلال إعادة تشكيل ذاته داخل الريف الصيني. وكان الفلاحون عن طريق الحزب هم القوة المؤثرة التي غيرت مسار الصين، وانعكس ذلك في عدد الفلاحين في الحزب الشيوعي عام 1957 حيث بلغ عددهم 8 مليون و500 ألف عضو من أصل 12 مليون و720 ألف عضو. والعامل الأخير متعلق بالماوية والخط الجماهيري الذي استمر في العمل بعد 1949، وكان له الدور الكبير في حركة الزراعة الجماعية. فلو افترضنا – مثلاً – عدم وجود ذلك الخط، فبالتأكيد كان سيحدث الكثير من الاشتباكات أثناء تطبيق الزراعة الجماعية، حتى وإن لم تكن بعنف حالة الاتحاد السوفييتي.
لم يمرِّر ماو سياساته بشأن الزراعة الجماعية بشكل بيروقراطي بل بشكل شعبي، ولذلك استغل ماو الاعتراضات الشعبية والتمردات في المجتمع الصيني حينذاك وحوَّلها إلى حركة شعبية جماهيرية يستطيع من خلالها إضعاف السلطة البيروقراطية الحزبية وترويض شريحة التراكم الاشتراكي. هذا هو الحال منذ حملة الزراعة الجماعية وحتى الثورة الثقافية. ويلاحظ أن حركات التمرد التي حوَّلها ماو إلى حركات ثورية شعبية لم يكن شرطاً أن تكون تلك الحركات نابعة من البروليتاريا؛ فالتكوين الصيني بعد 1949 وُجِدت به طبقة وسطى جديدة كان لها الكثير من المطالب والاعتراضات على النظام الجديد، ولم تكن مجرد شريحة بل طبقة لها مصالح محددة، ولها من يمثلها من المفكرين الذين يصدرون مصالح تلك الطبقة على أساس أنها مصالح عامة universal تخص المجتمع بأكمله، أي أنها كانت طبقة فاعلة سياسياً. أما ماو فكان يصبغ على تلك الحركات صبغة أيديولوجية عن طريق إعطاء انطباع أن تلك الحركات تمتلك طابعاً بروليتارياً (بغض النظر عن أن تلك الحركات – سواء قبل توظيفها من قبل ماو أو بعد ذلك – لم تملك ذلك الطابع في الأغلب)، وصبغة نظرية تتمثل في الإسهام الماوي في نظرية الصراع الطبقي داخل المجتمع الاشتراكي؛ فمن المفترض أن ذلك المجتمع (المجتمع الاشتراكي المثالي، وليس مجتمع التراكم البدائي الاشتراكي الواقعي) لا توجد به طبقات اجتماعية، فكيف ستتم عملية الصراع الطبقي؟ يقول ماو إن الصراع الطبقي حينها يأخذ شكلاً أيديولوجياً يتجسد في الصراع بين البيروقراطية غير الواثقة في الجماهير الشعبية وفي قدرة الجماهير على إحداث تغيرات كيفية في علاقات الإنتاج بدون الحاجة إلى تطوير القوى الإنتاجية، وبين الجماهير الشعبية الثورية التي تسعى إلى التحول الراديكالي بغض النظر عن مدى تطور قوى الإنتاج.
وبهذا أصبح المثقفون بأسلحتهم الأيديولوجية وقيادتهم للمعركة الأيديولوجية يمثلون من وجهة نظرهم ونظر ماو تسي تونغ الطليعة البروليتارية المضادة للبيروقراطية. وبعد أن قدمنا الرؤية الأيديولوجية الماوية للصراع الطبقي في الصين، يجب أن نقول من وجهة نظر موضوعية أنه بالفعل كان هناك صراع طبقي في الصين إبَّان حقبة التنمية الاشتراكية، ويرجع ذلك إلى أن النظام في الصين في الواقع كان يسعى إلى التراكم البدائي الاشتراكي باستخدام أساليب رأسمالية. وعلى الرغم من عدم وجود طبقة برجوازية حينذاك، إلّا أن ذلك لا يمنع أبداً وجود استغلال رأسمالي للبروليتاريا بسبب استخدام أساليب رأسمالية لإحداث التراكم؛ فالصراع الطبقي كان بين البروليتاريا (المدينية والريفية) والأساليب الإنتاجية الرأسمالية أو نمط الإنتاج الرأسمالي، وقد أدرك ماو وجود ذلك الصراع على الرغم من أنه لم يقتنع بضرورته التاريخية (أو ضرورة مرحلة التراكم البدائي الاشتراكي)، وكانت الماوية مُمثَلة في الخط الجماهيري هي التعبير السياسي عن ذلك الصراع بوقوفها في موقف يتناقض مع موقف التراكم الاشتراكي البدائي وشريحته وهيراركيته البيروقراطية. وقد تداخل الصراع الطبقي بين البروليتاريا والأسلوب الرأسمالي مع الصراع بين الطبقة الوسطى (الشرائح غير الدولتية) وبين البيروقراطية الدولتية والحزبية (التي احتوت على شرائح من الطبقة الوسطى أيضاً ولكنها همشت شريحة المثقفين والطلبة إلى حد ما). إن ذلك التداخل قد ساهم في تشويه الصراع الطبقي في الصين على مدار حقبة التنمية الاشتراكية، بخلطه بين صراع البروليتاريا والأساليب الرأسمالية وصراع المثقفين والدولة. إن من أعطى حركة “مائة زهرة” اسمها هو ماو تسي تونغ، وكان هذا في اجتماع حزبي شهير حيث أطلق ماو شعاره الشهير: “لنعطي الفرصة لمائة زهرة لكي تتفتح، ومائة مدرسة لكي تتبارى”، ومن خلال رغبة المثقفين في ان يحصلوا على مكانة أكبر داخل الدولة استطاع ماو تحقيق هدفه في تمرير سياسات الزراعة الجماعية وقد حاولت أيضاً شريحة التراكم الاشتراكي استقطاب المثقفين ليؤيدوا سياساتهم. في النهاية كانت الكفة الرابحة هي كفة الماوية والخط الجماهيري واستعد ماو لتنفيذ خطة أكبر وهي القفزة الكبيرة للأمام.
سعى ماو -بعد أن أحكم السيطرة على قرار اللجنة المركزية- إلى عكس كل التوجهات الاقتصادية للتراكم الاشتراكي البدائي؛ فنجده أراد تطبيق الآتي:
الاهتمام بتطوير الصناعة الخفيفة وإدخال الريف في دائرة التصنيع، ويترتب على ذلك نظرياً زيادة نسبة التشغيل وانخفاض البطالة، لأن تلك الصناعة ذات عمالة كثيفة.
تطوير المناطق الداخلية وتخفيض حدة اللا مساواة بين الداخل والساحل.
تطوير الصناعة الصغيرة في الريف.
محاولة فك ارتباط المجتمعات المحلية بالمركز المديني البيروقراطي (سواء الدولة أو الحزب)؛ أي إعطاء استقلالية نسبية للمجتمعات وللكوميونات. وتعتبر تلك الخطوة هجمة مباشرة على البيروقراطية بل وهجمة على المبدأ اللينيني الحزبي المتعلق بالمركزية الديمقراطية.
التركيز على الحوافز الأخلاقية أو المعنوية بدلاً من الحوافز المادية؛ ففي نظام التراكم الاشتراكي كانت الحوافز المادية شيئاً هاماً لرفع وتيرة الإنتاج، وكان ذلك يتم تحت المسمى الاشتراكي “لكلٍ حسب عمله”؛ فكلما زادت كفاءة العامل وإنتاجه زادت حوافزه. ولكن ماو اعتقد أن تلك الحوافز تفسد العمال وتقوي الجانب الرأسمالي من الصراع الطبقي المتجسد في الصراع الأيديولوجي، ولذلك استبدلها ماو بالحوافز الأخلاقية كالتكريم وخلافه.
بعض تلك السياسات تم تطبيقها بالفعل والبعض الآخر لم يُطبق لمثاليته المفرطة وعلى أية حال فتلك السياسات الجديدة لم تلغ اجراءات أو أهداف التراكم الاشتراكي بل سارت جنبا إلى جنب معها بشكل متناقض في الريف مما أثقل كاهل الفلاحين؛ فالحصص من محاصيل غذائية وقطن وفحم …الخ التي كانت تلزم بها الدولة المشتركات الفلاحية لم تظل كما هي بل تضاعف حجمها عدة مرات وتم تخفيض أسعارها مما أدى إلى خفض أجور الفلاحين في المشتركات وبالإضافة إلى ذلك تم الزج بالفلاحين في مشاريع صناعية في الريف ومشاريع بناء طرق وسدود وقد اضطلع الرجال بأعمال البناء والصناعة أما النساء فاضطلعوا بالزراعة والأعمال والصناعات المنزلية والتي ساعدهن فيها النساء الكبيرات في السن. وبالتالي ازداد استغلال الريف في تلك المرحلة بهدف التراكم من جهة وبهدف تنفيذ السياسات الجديدة من جهة أخرى.
ومع الوقت زادت تناقضات القفزة الكبيرة للأمام مع استمرار وتيرتها السريعة وزيادة راديكاليتها، حتى وصلت تلك التناقضات إلى الدرجة الكيفية التي قضت بانتهاء القفزة؛ التناقض الأول تمثل في المفارقة بين السلطة المركزية في تحديد كميات المحاصيل ومعدل الإنتاج وبين استقلال الكوميونة لهذا كان استقلال الكوميونة المزعوم محصوراً فقط في الآلية والكيفية التي ستحقق من خلالها الكوميونة النتائج المطلوبة من قبل السلطة، وكان ذلك ملقى به على عاتق الكوادر الحزبية المسؤولة عن الكوميونات، كما أن استقلالية الكوميونة تمثلت أيضاً في التقارير التي أرسلها الكوادر إلى السلطة المركزية، ومن المفترض أن السلطة كانت تضع خططها والنتائج المنتظرة بناء على تلك التقارير. ويعزو الكثيرون فشل القفزة الكبيرة للأمام إلى كذب وتزوير الكوادر للتقارير، والذي أدى بدوره إلى ارتفاع سقف تطلعات السلطة. ولكن – في الواقع على الرغم من صحة ذلك – إلّا أنه حتى بدون التقارير المزورة للحقيقة والتي تحدثت عن إنجازات وأرقام ناجحة لم تكن موجودة في الواقع فإن السلطة الماوية على أية حال كانت مُضخِّمة من النتائج المنتظرة. ويرجع ذلك إلى خلط الأيديولوجيا الثورية بالتحليل الموضوعي والعلمي للواقع، كما أن الصراع داخل السلطة بين الماوية وشريحة التراكم الاشتراكي ضَغط على الجانب الماوي لكي يثبت نجاحه في وجه “الشريحة البيروقراطية”. وأدى هذا المزيج من السلطة المركزية والاستقلالية النسبية للكوميونات إلى العواقب الوخيمة للقفزة الكبيرة إلى الأمام من نقص كبير في الغذاء كأسوأ عاقبة حدثت. فالسلطة كانت منذ البداية مضخمة للتوقعات والكوادر الصغار كان منهم المتحمس والخائف من اتهامه بالنزعة التدريجية أو الإصلاحية والعزل من وظيفته (بغض النظر عن صحة تلك المخاوف) كل ذلك أدى إلى تزوير الحقائق وإخفاء التناقضات التي بالفعل كانت قد بدأت في الظهور.
ومن التناقضات الهامة في سياسات القفزة الكبيرة للأمام هو التركيز المتساوي والمكثف على كل من الزراعة والصناعة في نفس الآن، وكان المطلوب هو تحقيق أعلى إنتاجية بأفضل جودة في أقل وقت ممكن مما أدى إلى انهيار الإنتاج الزراعي.
أدت التناقضات إلى تهديد الأسس الضرورية للنظام الصيني، كتقليل الناتج الزراعي وتدهور الصناعة وانخفاض الأجور واعتراض الفلاحين. كل ذلك أدى إلى شلل في كثير من جوانب الحياة الصينية سواء في الريف أو المدينة وبالتالي فشلت السياسات الماوية وأيضاً تهددت أسس التراكم الاشتراكي، وأثار ذلك حفيظة شريحة التراكم الاشتراكي، ليس فقط لأن القفزة الكبيرة للأمام هددت مشروعهم ومكانتهم ولكن أيضاً لأن القفزة مثلت تهديداً وجودياً للحظة قيام جمهورية الصين الشعبية وخصوصاً بعدما حدث الانشقاق الكبير بين الصين والاتحاد السوفييتي.
على أية حال تجمعت شريحة التراكم الاشتراكي ممثلة في القادة الحزبيين الكبار ليسائلوا ماو حول فشل القفزة الذريع، واعترف ماو بالخطأ بشجاعة وتم التنازل عن الاستمرار في التجربة وقال ماو إن الصين لن تستطيع مناطحة الغرب وبناء اقتصاد اشتراكي قوي قبل مرور مائة عام (Jung and Chen 2019, 62)، وبهذا سَلّم ماو ظاهرياً بمنطلقات التراكم الاشتراكي.
وعادت مركزة الدولة وتحكمها في الكوميونات وعادت أيضاً الملكية الخاصة في الريف، ووصلت نسبة الأراضي المملوكة للأفراد نحو 18%، وتم فتح السوق الداخلي في الريف، وتمت إعادة تطبيق مبدأ “لكلٍ حسب عمله” مع التركيز على الحوافز المادية لتسريع وتيرة الإنتاج. أقيم هذا عن طريق إعادة تقوية للبيروقراطية في الدولة والحزب وتطبيق حرفي ومتماسك لأسس التنظيم اللينيني، عن طريق المركزية الديمقراطية والقيادة الطليعية للجماهير والسيطرة على الكوادر الحزبية الصغيرة والتقليل من استقلالها. وبالإضافة إلى ذلك زادت سلطة الكوادر المتوسطة مثل حكام المقاطعات والمدن واتبع هؤلاء أعضاء اللجنة المركزية للحزب ومكتبها السياسي. وتم إرجاع نشاط مفوضات التحكم والوزارات الاقتصادية. أي أنه تم التراجع في كل السياسات والتوجهات الثورية الجماهيرية الماوية واتجه الحزب إلى التماسك البيروقراطي والنزعة التكنوقراطية. وأصبح دينج شاو بينغ السكرتير العام للحزب وتولى لوي شوشي منصب نائب الرئيس ويعتبر هذان الاثنان هما المسؤولان عن الحقبة التي تلت القفزة الكبيرة للأمام حتى الثورة الثقافية.
أدت السياسات السابقة إلى زيادة الإنتاج الزراعي ليصل إلى 240 مليون طن عام 1965 والعودة إلى العمل في فرق صغيرة العدد داخل التعاونيات، وتقليل البطالة في المدينة (زيادة التشغيل بمعدل 7% بين 1963 إلى 1965)، وزيادة الإنتاج الصناعي 11% والإنتاجية بمعدل 5.5% بين هاتين السنتين. وبالطبع نتج عن ذلك نفس اللا مساواة التي ظهرت قبل القفزة الكبيرة للأمام مثل اللا مساواة بين العمل اليدوي والذهني وبين الريف والمدينة وبين المدراء والعمال. وكان النوع الأخير من اللا مساواة هو الأساس الذي قامت على أساسه الإضرابات العمالية في المدينة والذي استغلته الثورة الثقافية لتعطي معاني سياسية لتلك الإضرابات. بدأت الاعتراضات الماوية في الظهور عن طريق ما عرف بحركة التعليم الاشتراكية التي تحولت من خلالها الرؤية الماوية للصراع الدائر بين الماوية وشريحة التراكم الاشتراكي من صراع أيديولوجي إلى صراع طبقي واضح وصريح بين البرجوازية والبروليتاريا. هذا التحول هامٌ للغاية لأنه أعطى المبرر للثورة الثقافية للقيام بأفعالها الراديكالية تجاه الحزب والدولة؛ فعندما كان الصراع أيديولوجياً كانت توجد إمكانية أن ينحل الصراع عن طريق الحوار والنقاش الحزبي الحاد والتجربة والخطأ، أما عندما يكون الصراع طبقياً فإن الحل الوحيد لحل الصراع هو القيام بثورة مرة أخرى. ولعب لين بياو دورا محورياً في ذلك عن طريق تدخل الجيش في حملات التعليم الاشتراكية وتنظيم الميليشيات، وبالطبع لم تستقبل شريحة التراكم الاشتراكي ذلك بدون مقاومة فقد وُجِدت حملات مقاومة أيديولوجية ضد المفاهيم الماوية.
نستطيع القول إن الخط الجماهيري قد كتب نهايته بنفسه بعد اطلاق القفزة الكبيرة للأمام وفشلها، ولكن الماوية نفسها قد تغيرت كثيراً بعد فشل القفزة واعتراف ماو تسى تونج بأخطائه، ويمكننا القول إن الماوية اقتربت كثيراً من التراكم الاشتراكي البدائي بل تماثلت معه ولكن بعد ان أخذ الأخير صبغة ماوية وانحصر الصراع فيما بعد على السلطة السياسية المباشرة أكثر من كونه صراعاً بين خطين لإدارة الدولة.
بعد فشل القفزة تولى لو شوشى ودينج شاو بينج إدارة الدولة وقد تم تهميش ماو ليصبح رمزاً ايديولوجياً واقتصرت معارضته للسلطة على الجانب التعليمي أو الثقافي كما أردفنا وهنا أدرك ماو انه لن يعود مرة أخرى إلى سدة الحكم إلّا بعمل ثورة أو نزاع مسلح وبهذه الطريقة قامت الثورة الثقافية بكل تعقيداتها وحيثياتها لتقضي على سلطة دينج شاو بينج ولو شوشى وأعوانهم وصعود ماو مرة أخرى، ولم تستمر الثورة والفوضى التي صاحبتها إلّا لمدة عام واحد، بعد ذلك استقرت الأمور وعاد التراكم الاشتراكي مرة أخرى ولكن تلك المرة بقيادة ماو تسي تونج وشو انلاى.
سيطر الحزب على الريف وتم تقليل الرقع الخاصة إلى 5% فقط، وعادت مرة أخرى محاولات تطبيق وإدخال التصنيع في الريف وتلك المرة نجحت المحاولة؛ فقد نشأت الكثير من الشركات الصغيرة التي تهدف إلى إنتاج الأدوات والآلات والسماد وتطوير البذور وصناعة الأدوية وإنتاج السلع الكهربائية والغذائية (السلع الاستهلاكية)، بالإضافة إلى المراكز التكنولوجية في الريف. وفي نهاية الحقبة (1976) تحول نحو 20 مليون مزارع إلى عمال في شركات ريفية والتي كانت أول نواة لشركات المدن والقرى TVEs، التي كان لها الدور الكبير في نهضة الصين.
وبالنسبة للتعليم فقد حاول ماو تحقيق ما حلم به من تقليل الفرق أو اللا مساواة بين المدينة والريف، فقد تم افتتاح مؤسسات طبية في الريف لهدف إعطاء الريفيين مقررات دراسية عملية تتعلق بالتمريض والإسعافات الأولية بالإضافة إلى تخريج أطباء ريفيين، وأصبح لزاماً على الأطباء في المدينة قضاء جزء من حياتهم المهنية في الريف. وتم تخفيض المدة اللازمة لتخريج الأطباء من 6 إلى 3 سنوات لسد الفجوة في عدد الأطباء، وتم توجيه المناهج الدراسية نحو التركيز على الأمراض الشائعة والمشاكل الصحية المنتشرة بين الجماهير. وزاد عدد المدارس الابتدائية من 116 مليون مدرسة إلى 150 مليون مدرسة والمدارس الثانوية زادت من 15 مليون إلى 58 مليون مدرسة، وأصبح من شروط الالتحاق بالجامعات أن يؤدي الطالب مدة معينة في عمل منتج وأن يتعهد بالرجوع مرة أخرى لموطنه. وعلى الرغم من كل تلك الإصلاحات الفعالة فإن مستوى المعيشة في الريف لم يرتفع بشكل ملحوظ.
وبالنسبة للصناعة نشأ نظام إدارة ثلاثي للمصانع (الجنود والكوادر والعمال) وتولى الكوادر مهام إنتاجية وإدارية معاً، وتم إشراك العمال في الإدارة أيضاً. وتم رفض النزعة التكنوقراطية السابقة التي حثت على وجوب امتلاك الخبرة الوظيفية لتقلد المناصب، وتم استبدالها بالنزوع إلى خدمة الجماهير والتضحية من أجلهم كقيمٍ يجب أن يتحلى الكوادر بها (Bettelheim 1974, 16). وألغيت قوانين ولوائح العمل التي وضعتها الإدارة القديمة وتم استبدالها بقواعد أكثر تجاوباً لمطالب ومصالح العمال وللتأكيد على مبادرتهم باتخاذ القرارات الهامة في المنشآت الصناعية. وتم السعي نحو إلغاء الامتيازات المادية والمنح والفروق الكبيرة في الأجر. وفرض الحزب سيطرته على اللجان الثورية، ولم تحدث فروقٌ كبيرةٌ بخصوص مستوى معيشة العمال وأجورهم، ولكن قلت الإضرابات والاحتجاجات بشكل ملحوظ.
كما ذكرنا سابقاً مال ماو إلى مفاهيم التراكم الاشتراكي واعترف بأن التكوين الاجتماعي الصيني يحتاج إلى التطوير حتى ينتقل إلى الاشتراكية، هذا بالطبع لم يعجب بعض الماويين ومن قاموا بالثورة الثقافية، فمن جانب عنى ذلك التراجع بالنسبة لهم استسلاماً للطبقة الرأسمالية والبيروقراطية (كما أسموها). ومن جانب آخر هدد التراجع مصالحهم السياسية، فلين بياو مثلا ًكان يستعد لأن يكون خليفة لماو تسي تونغ ونفس الأمر يسير على عصابة الأربعة وشين بودا وبالتالي نشأت الكثير من الصراعات داخل الدولة والحزب، وحاول الماويون احتكار ماو وخلق صورة أيديولوجية عنه تخدم أغراضهم.
حاول ماو تسي تونغ ومعه شاو إنلاي إعادة بناء الحزب وإصلاح الفساد بداخله وصد هجمات عصابة الأربعة (يرجح أن ماو هو الذي أطلق عليهم هذا المسمى عندما نصحهم بألّا يتصرفوا كعصابة).
وكان ماو وشاو انلاى هما من اقترحا مفهوم “التعايش السلمي” الذي يعني أنه يمكن لنظامين مختلفين أن يتعايشا بدون نزاعات عن طريق إقامة الاحترام المتبادل وهكذا تمت إقامة العلاقة الاقتصادية والسياسية بين الصين والولايات المتحدة في عهد ماو تسي تونغ ونشأ ما يعرف بحلف بكين – طوكيو- واشنطن في مواجهة حلف موسكو – برلين- بون. ترسخ هذا التحالف بعد تأكيد الرئيس الأميركي نيكسون على توقف الولايات المتحدة عن دعم استقلال تايوان، على الرغم من استمرار تجارة السلاح معها. وبهذا تشكل ما عُرِف بالمثلث الاستراتيجي الذي شمل الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والصين على الرغم من الأخيرة كانت متأخرة اقتصادياً قياساً على الاثنين الأولين (Muhlhahn 2019, 495).
وبعد الكثير من المناورات السياسية هُزِمت عصابة الأربعة وربحت في النهاية شريحة التراكم الاشتراكي. وكان من المفترض أن شاو إنلاي كان سيخلف ماو تسي تونغ بعدما وافته المنية، ولكن شاو أيضاً قد توُفي، سرعان ما تولى “هوا جو فينج” رئاسة الحزب ومعه دينج شاو بينغ وتم القضاء المبرم على الماوية الراديكالية وخطها الجماهيري.
ويتولى دينج شاو بينج سلطة الحزب وتبدأ مرحلة الاصلاح والانفتاح عام 1978 والتي نعتبرها خلافاً لكثير من الآراء استكمالاً لما سبق من حيث الأهداف القومية في سبيل نهضة الأمة الصينية من حيث التركيز على التصنيع الثقيل والتقدم التكنولوجي ورَفع مستوى المعيشة لعموم الشعب والتحرر من التبعية والاعتمادية على الخارج، باتباع التراكم الاشتراكي ولكن بأساليب مختلفة عما سبق أهمها الاستثمار الأجنبي وعدم الاعتماد بشكل رئيسي على استغلال الريف بل ومحاولة تجديد الريف وتحديثه ورفع مستوى المعيشة فيه واصلاح آثار الاستغلال التي لحقت به في حقبة التنمية الاشتراكية.
بالطبع تحتوي الحقبة التي تلت سياسات الاصلاح والانفتاح على كثير من المنعطفات وخصوصاً مع مجيء الرئيس هو جينتاو وبعده شي جين بينج وحملة القضاء على الفقر المدقع والتي هدفت بشكل رئيسي إلى رفع مستوى المعيشة في الريف الصيني، ويمكننا تلخيص أهداف سياسات الاصلاح والانفتاح في ثلاثة مفاتيح (Lo and Zhang 2011, 38):
التوسع الصناعي، فالتوسع الصناعي في الحقبة السابقة لم يفِ بالغرض؛ فلم يقدم التصنيع درجة التطور اللازمة للنهوض بالمجتمع الصيني وحمايته عسكرياً وتعزيز الطلب والاستهلاك المحلي.
التحول من الصناعات ذات العمالة الكثيفة إلى الصناعات ذات رأس المال الكثيف.
التحول من اقتصاد يهدف إلى الاستهلاك إلى اقتصاد يهدف إلى الاستثمار.
الصين إلى أين؟
نستطيع ان نلخص ما سبق حول حقيقة تكوين الصين الاجتماعي وانفصال دولته عن رأس المال وعدم خضوعها له، ونستعين هنا بنظرية نيكوس بولانتزاس عن الدولة البرجوازية التي تقول إن الدولة تعكس وتكثف كل التناقضات في المجتمعات الطبقية وتمثل أرضية لتلك الصراعات والاستراتيجيات المختلفة (Jessop 1985, 61). هكذا ينتقد بولانتزاس نظرية الدولة الماركسية الكلاسيكية التي تقول إن الدولة هي أداة في يد البرجوازية، فيخبرنا أن الدولة لها استقلالية نسبية وتحاول تمثيل العمال ورأس المال في نفس الوقت، وأن سياسات الدولة هي نتاج استراتيجيات متناقضة تمثل شرائح وطبقات اجتماعية متصارعة ولكن في النهاية فإن الدولة ليست مجرد مساحة سلبية، بل إنها توجه تلك الصراعات لتصب في مصلحة رأس المال على المدى الطويل. على أية حال كان يصف بولانتزاس الدولة البرجوازية (أو الدولة التي سلكت مسلك الرأسمالية الغربية)، ولكننا يمكننا تطبيق نفس المفهوم (بشكل مُعدَّل) على دولة الصين.
فالدولة الصينية منذ 1949 حتى الآن تحاول إتمام أهداف معينة وهي: تطوير قوى الإنتاج الصناعية والتكامل بين القطاع الزراعي والصناعي ومحاولة إدارة الصراع مع الإمبريالية الغربية (Amin 2013, 20)، وقد اتخذت الصين عدة مسارات لتحقيق تلك الأهداف التي لم تتغير كثيراً؛ ففي البداية اتخذت الصين مسارَ التنمية الاشتراكية كما ذكرنا، ثم بعد ذلك اتجهت إلى ما يمكن أن نسميه الانفتاح المنضبط، أو كما يُسمى رسمياً باشتراكية السوق عبر السيطرة على القمم العليا للاقتصاد والمجتمع فيما يشبه “السياسة الاقتصادية الجديدة” التي أقرها لينين في عشرينيات القرن الماضي في اطار التراكم الاشتراكي البدائي.
في المرحلة الأولى مثلت الدولة الصينية وحزبها طبقة البروليتاريا الصناعية ومصالحها بالإضافة إلى مصالح الفلاحين إلى حد ما، ولم يكن هناك تمثيلٌ لمصلحة أي طبقة لها طابع برجوازي، لأنه من جهة كما ذكرنا لم تتبلور تلك الطبقة إلّا بعد تنفيذ سياسات “الإصلاح والانفتاح” ومن الجهة الأخرى حاربت دولة الصين نفسها أية محاولة لتبلور تلك الطبقة، وتمثل ذلك في إعلان ماو للثورة الثقافية والهجوم على قيادات شريحة التراكم الاشتراكي. ولكن من الملاحظ أن الصين فشلت في إتمام مهامها الأساسية عن طريق المُضي في مسار التنمية الاشتراكية، فاتخذت طريقاً آخر وهو طريق مختلط، غير معهود، خاص بظروف التكوين الصيني يضم عناصر رأسمالية قوية، خالقاً بدوره طبقة برجوازية داخلية، ومتعاوناً أو متصارعاً مع الرأسمالية العالمية. نستطيع القول إن دولة الصين وحزبها قد انتقلت من تمثيل العمال والفلاحين فقط إلى تمثيل الطبقة البرجوازية والطبقة الوسطى أيضاً، فالدولة الصينية -على المدى القصير والمباشر- نجد أنها تتشابه مع مفهوم بولانتزاس عن الدولة في إدارتها للصراعات قصيرة المدى التي تنشب بين الطبقات المختلفة مثل الإضرابات التي تحدثنا عنها.
والسؤال هنا ماذا عن المدى الأهم؟! مَن ستمثل الصين على المدى الطويل؟ في البداية يجب أن نؤكد على أن دولة الصين لن يمكنها تمثيل مصالح كل الأطراف على المدى الطويل، وهذا لا يختص بالصين فقط؛ فمصالح الطبقات متناقضة في جوهرها، المصالح الوحيدة التي يمكن أن تتوافق مع بعضها البعض بشكل مستقر نسبياً ولأطول فترة ممكنة هي مصالح الطبقة البرجوازية والطبقة الوسطى.
بالنسبة للطبيعة التمثيلية لدولة الصين على المدى الطويل فلا نستطيع أن نجزم بشأنها؛ يتجه البعض نحو التأكيد على أن التمثيل سيكون من نصيب البرجوازية، ولكن توجد الكثير من الصعوبات لإثبات ذلك مثل أن الصين ما زالت تحتفظ بالملكية الجماعية للأرض، فما يميز الرأسمالية ذات المسار الغربي هو عملية إدخال الأرض في عمليات العرض والطلب. لقد كانت أمام الصين الفرصة الذهبية للتحول نحو الرأسمالية النيوليبرالية في الثمانينات والتسعينات حيث سنحت وأيدت الظروف الخارجية المتوجهة نحو النيوليبرالية ذلك، كما أن الوضع الداخلي كان سيسمح بذلك بعد القضاء على الثورة الثقافية ونشوب مظاهرات 1989 ذات الطابع الليبرالي ولكن من الواضح أن الدولة الصينية أدركت مبكراً أن المسار الغربي لن يحقق لها أهدافها الوطنية المرجوة؛ تلك الأهداف التي نشأت من أجلها التنمية الاشتراكية ومن أجلها أيضاً تحولت الصين إلى الانفتاح المنضبط في إطار التراكم الاشتراكي. والبعض يفترض أن الدولة الصينية تريد أن تتحول إلى المسار النيوليبرالي الغربي ولكن بالتدريج، لتتجنب الصعوبات التي مرت بها روسيا ودول أوروبا الشرقية. ولكن سنلاحظ أن الصين تبتعد يوماً بعد يوم عن المسار الغربي، فبالنسبة للمسألة الزراعية نجد أنه تم تغيير نظام مسؤولية المنزل Household Responsibility system الذي تم الشروع فيه منذ بداية الانفتاح إلى قانون التعاونيات الزراعية المختصة في 2007 الذي يقر بالشخصية الاعتبارية القانونية للتعاونيات الزراعية (مادة رقم 4) وحماية الدولة لها (مادة رقم 6). وتزداد سيطرة الدولة الصينية على الجوانب الأساسية في الاقتصاد بالإضافة إلى تدخلها في الحياة الاجتماعية مثل القضاء على الفقر المُدْقِع وتوسيع شبكة الرعاية الصحية ووضعها لخطط قومية خمسية وعقدية لتحقيق أهداف قومية كُبرى.
تحاول الدولة الصينية دائماً الظهور والتصرف بناء على الحياد والقانون، بعكس الدول الغربية المركزية التي – برغم وجود القانون- إلّا أنها تؤيد السياسات الداعمة لمصلحة البرجوازية بشكل مباشر أحياناً وخصوصاً بعد انهيار دولة الرفاه الاجتماعي في الغرب ونلاحظ ذلك في الآتي:
لو قارنا احتجاجات مصنع Yue Yuen التي نشبت لأسباب تتعلق بنظام التعاقد بالاحتجاجات التي قامت في فرنسا لنفس السبب، سنجد أن رد فعل الدولة الصينية تجاه الاحتجاجات كان أكثر موالاة للعمال، وهذا لأنها تؤدي عملها كضابط للصراع الطبقي؛ أما الدولة الفرنسية فنجدها قد تعنتت وأحدثت بعض التغييرات الطفيفة التي لم تؤثر على القرارات الصادرة بشأن نظام التعاقد، هذا لأن الدولة الفرنسية دولة برجوازية تمثل مصالح رأس المال على المدى الطويل.
لو كانت الدولة الصينية مثل الدول الغربية لكان ظهر فيها نظام النقابوية الأوروبية European Corporatism وهو نظام ثلاثي يجمع بين الاتحاد النقابي ورب العمل والدولة في أن للتشاور (Cheng 2020, 700). أما في الصين ففي الأغلب تشاور الدولة كل من رأس المال والعمال منفصلين عن بعضهما البعض. وهذا يؤكد حديثنا السابق عن الدولة الصينية كونها ضابطاً للصراع الطبقي.
هذا بالنسبة للافتراض القائل بأن الدولة الصينية ستؤيد مصالح البرجوازية على المدى الطويل ولكن ماذا عن العكس؟ فهل يمكن أن تمثل الدولة الصينية مصالح الطبقات الشعبية على المدى الطويل؟
يقول الحزب الشيوعي إن الصين في عملية تطور تاريخية تُبنى من خلالها الاشتراكية. بدأت تلك العملية في منتصف القرن العشرين، وستمتد إلى منتصف القرن الحادي والعشرين، بالتالي تسمى تلك الحقبة بالمرحلة الأولى من بناء الاشتراكية (Xi Jinping 2014, 50, 62, 115, 219)، وتتكرر في خطابات الحزب دائماً أحاديث عن الاشتراكية وبنائها وقيمها.. الخ، المشكلة هنا ليست في السؤال عن كيفية التحول للاشتراكية ولكن السؤال الأهم ما هو شكل وبنية الاشتراكية التي تتحدث عنها الدولة الصينية. هل وصف تلك الاشتراكية بأنها ذات سمات صينية يكفي؟ ما هي تلك السمات بالضبط وكيف سيكون تأثيرها على شكل الاشتراكية القادم؟ وما هي الخطوات العملية والخطة الزمنية المصاحبة لتلك الخطوات للتحول نحو الاشتراكية؟ وكيف ستتحد الاشتراكية الصينية مع الاشتراكية العالمية، فهل لدى الصين رؤية نظرية وعملية للتحول العالمي نحو الاشتراكية؟ وكيف ستكون ملامح اشتراكية القرن الحادي والعشرين؟ من الواضح أن الدولة الصينية لم تضع خطوات عملية للتحول.
يتضح لنا أن الحديث عن أي اشتراكية في الصين لهو حديث لم يحن أوانه بعد، هذا لأنه لا توجد اشتراكية بدون المشاركة الفعالة للجماهير، تلك الجماهير التي تم تنحيتها عن المشهد السياسي واقتصار فاعليتها على الخوض في الصراعات الاقتصادية Economic-corporate، فلا توجد اشتراكية عن طريق “ثورة من الأعلى” كما يقول غرامشي، فالثورة من الأعلى تناسب أكثر الدول الرأسمالية لأن تلك الدول نخبوية بطبعها. كما أنه لا توجد رؤية اشتراكية حقيقية تصاغ من أعلى فالرؤية الاشتراكية تكتمل عن طريق صراع الجماهير وكفاحهم وربطهم للممارسة بالنظرية. الخلاصة أنه بدون المشاركة الثورية للجماهير في بناء المستقبل وإشراكهم في ذلك “سياسياً” لا يمكننا الحديث عن أية اشتراكية، حتى لو كانت لتلك الاشتراكية رؤية واضحة. هذا بالإضافة إلى انتشار رأس المال الأجنبي واستئثار القطاع الخاص بالعمالة مما يعرضهم لمزيد من الاستغلال، مما يجعل من الصعب الحديث عن الاشتراكية. ولكن يجب أن نذكر هنا أن الحكومة الصينية تمنع بشدة أية ممارسات احتكارية وقصة شركة “علي بابا” وصاحبها جاك ما تشهد على ذلك مع العلم أن الشركة تصنف من أكبر الشركات في العالم.
ولكن من الأمور التي يجب أن نلتفت لها أن المبدأ الذي أقرته الثورة الشعبية في الصين وهو الملكية الجماعية للأرض ما زال باقياً تحت مسمى ملكية الدولة أو الحكومة المحلية، ذلك المبدأ لا يجب أن نستهين بدوره في الحفاظ على حقوق العمال، حيث لعب ذلك المبدأ دوراً هاماً في زيادة قوة العمال التفاوضية إبان أزمة 2008، ولكن يجب أن يشارك الفلاحون في ضمان ذلك المبدأ لأنهم هم وحدهم القادرون على ضمان حقوقهم وتأمين الطريق نحو الاشتراكية (Amin 2011, 117).
لم تعُد الصين كما كانت عليه في السنين الأولى من تطبيق الإصلاحات من حيث الخريطة الطبقية، فقد تكونت بالفعل طبقة رأسمالية داخل الصين بالإضافة إلى الطبقة الوسطى، والسؤال هنا ما الاتجاه الذي ستتجهه الصين لو حدثت أزمة أخرى كأزمة منتصف التسعينات؟
إن مستقبل النظام الصيني والطبيعة التمثيلية للدولة الصينية تتوقف على عدة عوامل داخلية وخارجية من الواضح أنها لم تنضج بما فيه الكفاية للإجابة عن ذلك التساؤل.
من المتوقع ثبات النظام الصيني على ما هو عليه لمدة طويلة نسبياً، فالطبقة العاملة ليست منظمة بما يكفي لكي تفرض أي حلول تصب في مصلحتها كما أن الكتلة المؤيدة للرأسمالية في الصين ليست أقوى من السلطة حالياً، كما أن رأس المال الخاص في الصين لا ينتج في الأساس دورات التراكم الرأسمالي بل يشترك في ديمومتها فقط كما يقول الاقتصادي البرازيلي إلياس جابور (China and the Left Conference 2021). أما عن السلطة فهي تعلم جيداً أن النظام العالمي الرأسمالي لا يقف على أقدام ثابتة الآن، فهي لن تأخذ الكثير إن اتبعت مثلاً روشتات البنك الدولي، بالإضافة إلى التبعات الاجتماعية المدمرة لذلك، كما أن الأيديولوجيا الاشتراكية الصينية ومظاهرها ما زال لها دورٌ كبيرٌ في الحفاظ على السيادة الوطنية الصينية بشكل أيديولوجي وسياسي (Dirlik 1989, 40) بالإضافة إلى تميزها الاقتصادي.
كل ذلك يجعلنا نتيقن أن النظام الصيني سيستمر طويلاً على هذا الشكل، ربما مدة أطول من استمرار النسخة الحالية من النظام العالمي الرأسمالي. ولكن هذا لا يعني أن النظام الصيني سينعم بالاستقرار إلى الأبد، بل إن التطور السريع في الصين متمثلاً في رفع مستوى معيشة وتطلعات الطبقات الشعبية، وفي نفس الوقت زيادة أرباح البرجوازية المنضبطة وزيادة أطماعها غير المنضبطة، يدفع الدولة الصينية والنظام ككل إلى الاختيار الصعب.
المصادر:
* الأغلبية العُظمى من الحجج في هذا المقال مأخوذة من كتاب “مسيرة الصين الطويلة: أفكار وأطروحات حول الصين ومستقبلها”، دار كُتُبنا للنشر والتوزيع، 2022، القاهرة، لنفس مؤلف المقال ويحتوي الكتاب على تفاصيل تاريخية أكثر ومناقشة مفصلة للحجج.
سمير أمين الصعود الناجح للصين 2013، Samir Amin Blogspot.
Amin, Samir, 2005, China, Market Socialism, and U.S. Hegemony. Review (Fernand Braudel Center), 28(3), 259-279.
Amin, Samir, 2011, Ending the Crisis of Capitalism or Ending Capitalism?, Translated by Victoria Bawtree, Pambazuka press.
Amin, Samir, 2013, China 2013, Monthly Review.
Appel, Tiago Nasser, 2014, Just How Capitalist is China?, Brazilian Journal of Political Economy, Vol. 34, no. 4 (137), pp.656-669.
Bettelheim, Charles, 1974, Cultural Revolution and Industrial Organization in China: Changes in the Management and Division of Labor, translated by Alfred Ehrenfeld, NY and London: Monthly Review Press, prepared for the Internet by David J. Romagnolo in 2000.
Burdekin, Richard, C.K., 1989, Preobrazhensky’s Theory of Primitive Socialist Accumulation, Journal of Contemporary Asia. 19:3, 297-307.
Cheng, S-K, 2020, Primitive Socialist Accumulation in China: An Alternative View on the Anomalies of Chinese “Capitalism”, Review of Radical Political Economics. 2020; 52(4): 693-715.
China and the left conference 2021, hosted by Qiao collective, held in People’s Forum in NYC, “Political Economies of Chinese Socialism” Panel.
China and the left conference 2021, panel 1, hosted by Qiao collective, held in People’s Forum in NYC.
إن صلب أزمة بشارة مع الطوفان أن صوت الأكاديميا والتنظير الحبيس في الصالونات الثقافية ودفات الكتب يدخل في امتحان حقيقي ما إن تقع المعركة، وفي هذا الامتحان برزت هشاشة منظور بشارة ولتذهب كل الجهود والموارد التي عمل عبرها في تقديم أطروحته.
علاقة الفكر بالواقع، وعلاقة الأسبقية بينهما، والبراكسيس قضايا تُشكل أحد المباحث الرئيسة في النظرية الماركسية – اللينينية التي أدخلت من خلالها جديدها في الفلسفة النفيي لمفهومها المثالي والمادي الميكانيكي في آن معاً. فالفكر (الوعي) غير منفصل عن الواقع وتناقضاته وهي علاقة توجب تمييز مفهومها، ولتحديد تلك العلاقة هناك ضرورة، منهجية، لتحديد كيفية ارتباط الفكر بالواقع وبالبراكسيس ودورهم في التغيير.
نظام تعليمي لا يملك المواطن القدرة العقلية والإرادة المعنوية التي تساعده على اكتساب المهارات لقراءة وفهم واقعه للوصول إلى حقيقة وجوهر ما يدور حوله من ظواهر وأحداث. ولا يهتم برغبات التلميذ ولا يلبي حاجاته ولا يطور القدرات التي تمكن التلميذ من الخلق والابتكار والإبداع أو تملكه مهارات التحليل والتركيب والقبول والرفض والرؤى النقدية.