غزة اليوم هي التعبير المكثف عن فلسطين، التي تختزل مئة عام من الصراع وتضع العالم بأسره أمام حقائق الصراع، واستعادت بأشهرها العشر أصل وفصل الصراع، كأنها أيقظت التاريخ وأعادته إلى بدايته، أيقظت مئة عام من الإبادة. ثمّة مَن قال يوماً: لا شِعر نكتب بعد أوشفيتز! ربما اعتبره نهاية التاريخ، ربما ستجعل العالم لا يسمح لهتلر آخر أن يقترف مثيلاً لها، لذلك عندما وقعت مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا، اعتقدنا أنها الأبشع وعجزنا عن وصفها. هكذا هي سردية الإبادة، تلامس الفظاعة القصوى، كما وصفها “جان جينيه” في يومياته عن المجزرة الجماعية في صبرا وشاتيلا، أنها “النظرة اللامرئية”، ليس هروباً من رؤية الحقيقة، بل من فظاعة الصورة.
الإبادة الجماعية في غزة جعلت من مجزرة صبرا وشاتيلا مجرد بروفا للجريمة الأكبر، وربما مناورة من سلسلة مناورات بالرصاص الحي تمرين سيرتكبه القتلة ذاتهم في مخيمات ومدن ومستشفيات ومدارس غزة، بل يعيدنا إلى إيديولوجية التطهير العرقي، والتي تعتبر أن كل فلسطيني هو هدف عسكري، وكل رضيع هو عدو، وهذا ما تعلنه قوى اليمين الصهيوني الفاشي والديني العنصري وتمارسه كأسلوب حياة تجاه الشعب الفلسطيني.
الإبادة المتواصلة تستعيد شريط كل المذابح التي سبقت، وعلى مدى مئة عام، وقد ارتكبت العصابات الصهيونية المُسلّحة خلال النكبة الفلسطينية عام 1948، عشرات المجازر التي راح ضحيتها آلاف المدنيين الفلسطينيين “العُزّل” في مختلف القُرى والمُدن. وبحسب مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات (مقره بيروت)، فإن عدد المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في الفترة بين 1937 و 1948، زادت عن 75 مجزرة، راح ضحيتها أكثر من 5 آلاف شهيد فلسطيني، فضلاً عن إصابة الآلاف. قد تختلف المسميات ولكن القاسم المشترك بينها هو القاتل، طبيعة الكيان الصهيوني وحقيقة الممارسات الإجرامية التي لا تتوقف منذ عقود. وبينما يستمر القصف والتدمير والحرق والجوع والعطش والقتل في غزة، لا بد من النظر في الدروس التاريخية وفهم العدو وممارساته، والبحث في آليات المقاومة ومواجهة الإجرام الصهيوني.
مجزرة صبرا وشاتيلا كما غيرها هي صرخة مدوية تعلن عن بشاعة الوحش الصهيوني، نفذها بروح انتقامية همجية بإشراف جيش الصهيونية وعملاء ممن يعتبرون الصهيونية مثالاً يحتذى به في لبنان! وليس نموذجاً يحارب. وبين الأمس واليوم تتكشف ثقافة الإبادة إلى درجة دعوة وزير صهيوني بتصريح علني إلى إلقاء قنبلة نووية على غزة وإن هذا يعتبر بالنسبة له حلا ممكنا، بما لا تحتاج للجان تحقيق بل هي مذبحة معلنة ومستمرة وعلى الهواء مباشرة، ولكنها تحتاج لإدراك التالي:
أولاً: أنّ الفاعل في كل المجازر ليس فرداً بعينه بل المنظومة الصهيونية وعصاباتها وكيانها المجرم وملحقاته، كترجمة عملية للفكر الصهيوني العنصري كما عكسها بن غوريون بقوله: “إن وجود إسرائيل أهم من صورتها”. وهذا ما نلمسه اليوم في يوميات الإبادة في غزة، وعمليات القتل الممنهج لكل أشكال الحياة فيها.
ثانياً: الإبادة حلم صهيوني لم يكتمل، نتذكر ما سمي يومها بـ “مانيفستو النازي شارون” الذي كان قد صرَّح بكل وقاحة في العام 1982 عندما قال “دعوني أتكفل بهذا العمل القذر، صفوني بكل الصفات التي تخطر ببالكم، فما لا تستطيعون أن تفهموه هو أن العمل القذر للصهيونية لم يكتمل عام 1948 وبسبب خطئكم أنتم”. تماماً كما قال نتنياهو الذي سمّى معركته الهمجية على شعبنا في غزة أنها استكمال لحرب الاستقلال عام 1948.
ثالثاً: مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا والتي ارتكبت بالوكالة عنها ومهدت لها بإبادة مخيمات مثل تل الزعتر وجسر الباشا والنبطية والتي استهدفت الناجين من النكبة من أبناء المخيمات. فالدرس المستخلص هو أن العداء ليس لفصيل فلسطيني أو لفريق ما، إنما هو عداء للوجود الفيزيائي الفلسطيني، لأنه يشكل ذاكرة وجسد وبيئة المقاومة، فكلما عجز عن كسر الروح يسعى لفصلها عن الجسد، بالتطهير والترويع والإبادة.
وبمقاربة لحرب الإبادة على غزة شعبها ومقاومتها، إلَّا أننا مازلنا في قلبها، فهناك العديد من النتائج التي أفرزتها وأهمها:
1- لذا التاريخ لم يبدأ من 7 أكتوبر، بل بنشوء هذا الكيان عام 1948 وقبله من عمر المشروع الصهيوني الاستعماري وزرعه لكيان جاء من اللاوجود، لذلك يعتبر مجرد وجود أصحاب البلاد هو تهديد وجودي، وأن حربه معهم حرب وجودية.
2- فشل في نزع فلسطين عن الفلسطينيين أو تجريد الفلسطيني من إنسانيته وعروبته، وتتجلى اليوم في محاولاته لتحييد جبهات الإسناد وخاصة جبهة المقاومة في لبنان، ودلالة المساندة اليمنية، عروبة الصراع في جبهة تتصاعد، تخترق الصمت والعجز الرسمي العربي.
3- إعادة طرح طبيعة العلاقة بين الكيان الصهيوني والمنظومة الاستعمارية العالمية كشريك يشكل المصلحة الأساسية للمنظومة الإمبريالية العالمية.
4- حتى اللحظة لا يستطيع العدو أن يوقف الإبادة، ارتباطاً بالنتائج والمعطيات والمسارات الحالية. وكذلك لا يستطيع الاستمرار فيها في نفس الوتيرة والمسارات القائمة.
5- إن برنامج الحكومة الفاشية هو حسم الصراع، ولكن الإبادة الوحشية التي يدينها أحرار العالم تعيد تأجيج الصراع وعلى نحو أشد وأقسى وكأن الأمور عادت إلى البداية.
إذن ما السبيل؟
هناك فرضية تدفع الصهيوني إلى إعادة ترتيب مسرح العمليات في المنطقة، بالشكل الذي يتيح له تكملة مشروع الإبادة ضد شعب فلسطين ومقاومتها من خلال الأوراق التالية:
الأولى: اندفاعة صهيو/ أميركية لتفكيك ساحات الإسناد والمواجهة وتحييدها وبشكل خاص جبهة لبنان وسحب ورقة إسناد غزة من “حزب الله”.
الثانية: ضرب منظومة الانسجام القائم والمتلاحم بين كل أطراف جبهة المقاومة ليس فقط على الصعيد الميداني ولكن أيضاً على الصعيد السياسي والاستراتيجي وضرب كل نقاط اللقاء مع الجانب الإيراني من خلال استدراجها إلى الحرب بشكل مباشر.
الثالثة: حرف الصراع عن جوهره الأساسي، كان واضحاً من خلال خطاب المجرم نتنياهو في الكونغرس الأميركي، التركيز الشديد على إيران ودورها بالمنطقة وإنها سبب كل المشاكل في المنطقة ويدعو إلى “ائتلاف عربي صهيوني في وجه إيران ومحور المقاومة”. وإن أميركا وإسرائيل عندما يكونان معاً فهم وحلفاؤهم “منتصرون” وإنه يدافع عن أميركا ويحرض على إيران التي ترفع شعار “الموت لأمريكا”.
الرابعة: توريط الأميركي في المنطقة وبشكل استراتيجي من خلال البوابة الإيرانية، وبشكل خاص بعد إنجاز ما يسمى “التحالف الإبراهيمي” ضد ما يدعونه الخطر الإيراني.
لعل اختيار طهران وقبلها الضاحية الجنوبية لاغتيال قادة المقاومة والتي كان آخرها القائد الشهيد إسماعيل هنية في هذه الفترة وفي ظل المأزق الذي يعيشه قادة الإرهاب الصهيوني، له دلالة أخرى، أن هذا الاغتيال لم يكن عبثياً، لا بالزمان ولا بالمكان. اغتيال هنية لما يمثله من مكانة ورمزية لا تقتصر على جانب معنوي فقط، وإنما ما يمثله كشخصية سياسية جامعة وقاسم مشترك داخل حركة حماس ويحظى باحترام شعبي.
تهدف لدق إسفين الشك والخلاف والفرقة ما بين إيران وحماس، وإيران والمقاومة عموماً، وإثارة أجواء التأويل والتحليل وكيف حدث ولماذا، وبدأ الخيال يرسم سيناريوهات بوليسية للحدث، ثم الرد وكيف ينبغي وما يكون ومستوى الرد وهكذا دواليك.
لذلك لن تتفق دعوات وقف الحرب، في ظل العقلية الاستئصالية التي تتحكم بالكيان الصهيوني، لقتل أكبر عدد ممكن ومن مختلف الأعمار.
ولا يغيب عن الذهن أن كل ذلك ينسجم مع السعي وتمهيد وترتيب المسرح لزج الجمهورية الإسلامية في إيران مباشرة في الحرب. واستدراجها شيئاً فشيئاً إلى المواجهة الكبرى، والذي يستدعي التدخل الإمبريالي في هذه المواجهة. وعندها وحسب رغباته سيضمن أن يكون ذلك حبل النجاة من فشل أهداف الإبادة للوطنية والهوية والفكرة والمقاومة الفلسطينية.
وعليه فإن عملية الاغتيال هذه قد لا تكون نهاية العمليات ضد إيران. قد يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، كما يقول بعض قادتهم علينا ضرب الرأس وليس الأذرع.
لكن ماذا تريد الولايات المتحدة؟
الأميركي وبشكل رئيسي واستراتيجي يريد أن يعيد الاعتبار للكيان الصهيوني بعد زلزال السابع من أكتوبر، الذي هز أركانه وقوته وهيبته. لذلك الأميركي قد يختلف مع الحكومة الصهيونية، حول مسارات الحرب، وخفض التصعيد ووقف النار حالياً، فهو يقبل بالانسحاب والتبادل، لأنه يعتبر ما تحقق هو غطاء كافي لتحقيق نصر سياسي فيما يسمى “اليوم التالي”. أي أنه لا يريد للكيان أن ينهزم. كونه أحد أهم مصالحها الاستراتيجية الذي يكسبها فرصة الإطباق الاستراتيجي على المنطقة.
بالهولوكوست العصري ينفذ بغطاء دولي، وأصبح ماركة مسجلة لنازيي العصر من الدولة الصهيونية جيشاً ومليشيات رسمية وبرعاية دولية استعمارية، والذي يفضحها جدعون ليفي في مقالته الأخيرة في جريدة “هآرتس” يقول “هم سبط آخر، سبط يهوذا، ونحن من إسرائيل، وأكفنا نظيفة. لكن “سديه تيمان” هو الجيش؛ واستخدام الفلسطينيين دروعاً بشرية هو الجيش؛ والاغتيالات هي الجيش؛ و40 ألف قتيل هو الجيش؛ وخراب غزة سببه الجيش؛ الحواجز المتوحشة في الضفة هي الجيش؛ وقتل التوأمين ذوي الثلاثة أيام مع أمهما وجدّتهما، في أثناء قيام الأب بإصدار وثيقة ولادة لهما سببه الجيش؛ ازدياد استخدام المسيّرات في القتل في الضفة هو الجيش؛ الطائرات والمدافع والمدرعات والجرافات والكلاب هو الجيش”. ومن فمك أدينك، يقرر “ان الجيش الذي يدافع عن إسرائيل هو الرأس الحقيقي للجريمة”.
وحان الوقت لنفكر أن انتشار الأمراض في غزة ليس نتيجة مؤسفة للعدوان، بل هو خيار سياسي مدروس. وقد طرح القادة الصهاينة هذه الفكرة بالفعل. ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، صرح جنرال متقاعد بأن انتشار الأمراض القاتلة في غزة “سيقرب النصر”. إنها الحرب البيولوجية القذرة تبعاً لمصلحة كيانه العنصري وحلفه الفاشي الصهيوني المجنون وشركائه الإمبرياليين.
لكن ما يحبط الأعداء أنها ضحية إيجابية مقاتلة متمردة، تخوض معركة وجود بكل تفاصيلها وهذه ليست كلمة عابرة، ولا تقال فقط بل تترجم ولا يمكن ترجمتها الصحيحة إلَّا بالبرنامج الضروري بـ “المقاومة” بكل أبعادها التاريخية والأخلاقية والإنسانية والقانونية والثورية، وعي حق مشروع، وضرورة حيوية في ظل هذا العدوان المستمر، وهي تعبير عن الإرادة الفلسطينية والعربية وقياس للقيم الإنسانية.
لأنهم شعب الجذور الأصلاني، والأقوى من الإبادة الاستعمارية، التي ينطبق عليها ما كتبه غبريال غارسيا ماركيز في روايته” مئة عام من العزلة” ووصف الكيانات العابرة مثل مدينة السراب التي ستذروها الرياح، ستهزم لأن ليس لها تاريخ لذلك لن يكون لها مستقبل، فكتب (كل ما هو مكتوب فيها لا يمكن أن يتكرر منذ الأزل إلى الأبد؛ لأن السلالات المحكومة بمئة عام من العزلة، ليست لها فرصة أخرى على الأرض).