أساليب مبتكرة للمقاومة الفلسطينية في مرحلة الهرولة للتطبيع

كان خروج مصر من معادلة الصراع العربي – الصهيوني بشكل كامل عام 1978، بتوقيع الرئيس السادات معاهدة الصلح المنفرد مع “إسرائيل”، واندفاعه إلى حظيرة التبعية لأميركا، عاملاً رئيسياً في تغير الظروف الإقليمية لصالح العدو الصهيوني. وشهدت نهايات السبعينات وما تلاها تغيرات دولية في اتجاه هيمنة القطب الواحد الأميركي.

 وبدأت دول المعسكر الاشتراكي تتساقط تباعاً وصولاً إلى تفكك الاتحاد السوفييتي، الحليف الأقوى لحركة التحرر الوطني الفلسطينية، ولم يتبقَ من هذا المعسكر سوى الصين وفيتنام وكوبا، التي انشغلت في ظل هذه الظروف المعاكسة بتطوير أوضاعها الداخلية، ولم يكن بمقدورها التورط في صراعات خارجية تستنزفها وتعرقل مسيرتها الوطنية الاشتراكية..

وفي ظل هذه المتغيرات تزايدت معدلات التوسع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين. ووصلت الهجمة الإقليمية الدولية ضد المشروع الوطني الفلسطيني إلى ذروتها في الاجتياح الصهيوني للبنان في يونيو 1982.

ورغم أن العدو لم يحقق الأهداف الرئيسية لتلك الحرب، والمتعلقة بتصفية قوات المقاومة وفرض هيمنته الكاملة على بقية الدول العربية المحيطة به، إلَّا أن قوات المقاومة الفلسطينية وقياداتها اضطرت إلى الخروج من لبنان، وتوزعت بين عدد من البلدان العربية، لتخسر القاعدة الآمنة الثانية لها بعد خسارة قاعدتها الأولى في الأردن عقب أحداث أيلول الأسود، وعدم إمكانية وجود قاعدة آمنة لها في مصر المكبلة بمعاهدة كامب ديفيد.

واصطدمت العمليات المسلحة الفلسطينية في جنوب لبنان (التي بدأت تتقلص) مع محاولات شق طريق الحلول السياسية في أجواء غير مواتية على الساحتين الإقليمية والعالمية.

وفي ظل هذا المناخ المعاكس ابتكر الفلسطينيون أسلوباً جديداً للنضال الشعبي ضد الاحتلال الصهيوني، بمشاركة كافة أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، أطفال وشباب وشيوخ، نساء ورجال. وفاجأت انتفاضة الحجارة (الانتفاضة الشعبية الكبرى) في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1987 العالم كله، بدءاً بالمحتلين الصهاينة، ودفعت بالقضية الفلسطينية في مقدمة الاهتمامات الدولية، بعد محاولات تهميشها ووأدها من قبل العدو الأميركي والصهيوني وبعض الأنظمة العربية التابعة لهما. وأعادت الانتفاضة الاعتبار لحركة التحرر الوطني الفلسطينية، وحضورها على الساحة العالمية.

وفي المقابل سعت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها وتابعيها بكل الطرق لاحتواء نتائج هذه الانتفاضة، فعقد مؤتمر مدريد أواخر أكتوبر 1991، وتفجير نزاعات وانقسامات عربية – عربية. على إثر ذلك، تم اتفاق أوسلو في سبتمبر 1993، والذي تم برعاية أميركا، وخارج إطار الأمم المتحدة، متجاهلاً حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته، والمعروف باتفاق غزة وأريحا أولاً، الذي يمنح الفلسطينيين سلطة شكلية في المدينتين مقابل استمرار الاستيطان الإسرائيلي في غزة والضفة.

وفي أكتوبر 1994 تم توقيع معاهدة وادي عربة بين الأردن و”إسرائيل”، لتكون الدولة الصهيونية قد أمنت نفسها من الشرق (الأردن) والجنوب (مصر).

ولم يمضِ على اتفاق أوسلو سبع سنوات حتى بدأ مساره يتعثر، بحلول عام 2000، بعد فشل اجتماع كامب ديفيد في شهر يوليو من ذلك العام، بين ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وإيهود باراك رئيس وزراء “إسرائيل”، والرئيس الأميركي بيل كلينتون، حيث رفض عرفات الطرح الأميركي – الصهيوني بإقامة السلطة الفلسطينية على أجزاء من الضفة الغربية وغزة، كحكم ذاتي في إطار الاحتلال الصهيوني، مع بقاء المستوطنات في الضفة، وأصر على موقف منظمة التحرير الفلسطينية بإقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وإزالة المستوطنات.

واعتبرت “إسرائيل” أنها قدمت في هذه المباحثات أقصى ما يمكنها تقديمه، وألقت بمسؤولية فشل المباحثات على ياسر عرفات، ووافقتها الإدارة الأميركية على ذلك.

وعلى الجانب الفلسطيني ووجه مسار مدريد أوسلو مطلع التسعينات برفض من منظمات داخل منظمة التحرير الفلسطينية، خاصة الجبهتين الشعبية والديمقراطية، وتشكلت كتلة معارضة داخل المنظمة، وفي نفس الوقت كانت قد نشأت حركة حماس (حركة المقاومة الإسلامية) في عام 1985، وانتهجت حماس خطاً معارضاً لمسار مدريد – أوسلو، ورأت أميركا و”إسرائيل” في ذلك مصلحة لهما بتعزيز الانقسامات الفلسطينية.

وبدأ الإعداد للإطاحة بعرفات واستبداله بآخرين من قيادات فتح، خاصة وأن العام 2000 شهد انتفاضة الحجارة الفلسطينية الثانية، التي خطط لها نفس مخطط الانتفاضة الأولى، خليل الوزير “أبو جهاد” القائد العسكري لحركة فتح.

واتهمت “إسرائيل” ياسر عرفات بالتحريض على أعمال العنف من طرف خفي، وأحياناً في العلن، لا سيما شعاره الذي كان يرفعه للمطالبة بالقدس الشرقية (على القدس رايحين شهداء بالملايين). 

وعلى الرغم من تمتع عرفات بشعبية واسعة لدى الفلسطينيين سيما في عقد الثمانينات عقب الحرب على لبنان وأثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى، إلَّا أن شعبية عرفات قد تدنت أثناء رئاسته للسلطة حيث وجهت للسلطة وبعض أقطابها انتقادات تتعلق بالفساد وسوء الإدارة الأمنية والمالية والمدنية والمؤسساتية في إدارة شؤون الفلسطينيين داخل أراضي السلطة. وفي المقابل، بدأت شعبية حركة حماس تتصاعد في تلك الفترة خصوصاً في قطاع غزة، بسبب شعور الكثير من الفلسطينيين بالإحباط مما وصلت إليه أوضاعهم الأمنية والمعيشية من سوء.

بعد مباحثات كامب ديفيد وطابا بدأت الدوائر الأميركية وأوساط من الحكومة “الإسرائيلية” وبعض السياسيين “الإسرائيليين” القول إن ياسر عرفات لم يعد يعتد به، وأنه لا جدوى من التفاوض معه، وفي هذه الأثناء تمت عدة عمليات فدائية أسفرت عن مقتل كثير من “الإسرائيليين”.

في هذه الأجواء قامت “إسرائيل” بمنع عرفات من مغادرة رام الله، ولذلك لم يحضر مؤتمر القمة العربية في بيروت في 26 مارس 2002 خشية ألا يسمح له بالعودة إذا غادر الأراضي الفلسطينية. وفي 29 مارس من نفس السنة حاصرته القوات “الإسرائيلية” داخل مقره في رام الله مع 480 من مرافقيه ورجال الشرطة الفلسطينية. وبدأت اقتحامات الجيش “الإسرائيلي” لمدن الضفة وإطلاق النار من الجيش والمستوطنين على الفلسطينيين. وتعرض عرفات من قبل الإدارة الأميركية و”إسرائيل” لحملة لإقصائه عن السلطة أو إبعاده عن مركز القرار فيها، وفي يوم 24 مايو 2002 طلب الرئيس الأميركي جورج بوش تشكيل قيادة فلسطينية جديدة.

وفي يوم الثلاثاء 12 أكتوبر 2004 ظهرت أولى علامات التدهور الشديد لصحة ياسر عرفات، وتدهورت حالته الصحية تدهوراً سريعاً في نهاية أكتوبر 2004، فتم نقله بطائرة مروحية إلى الأردن، ثم أقلته طائرة أخرى إلى مستشفى بيرسي العسكري في فرنسا في 29 أكتوبر، وظل بها حتى تم الإعلان الرسمي عن وفاته من قبل السلطة الفلسطينية في 11 نوفمبر 2004. 

وبوفاة عرفات وحلول الرئيس محمود عباس محله في قيادة فتح ومنظمة التحرير ورئاسة السلطة الفلسطينية، ازدادت الانقسامات داخل المنظمة.

 وبدأت حماس تسيطر على قطاع غزة.

وخلال تلك السنوات لم تتوقف “إسرائيل” عن مذابحها ضد الشعب الفلسطيني، وبعد انتخابه رئيساً لوزراء “إسرائيل” مطلع العام 2001، قام شارون بحملة قمع دموية ضد الشعب الفلسطيني، وأعاد جيش الاحتلال الصهيوني السيطرة على مناطق الحكم الذاتي في الضفة.

ورغم التصدي البطولي للمقاتلين الفلسطينيين هناك، إلَّا أنهم كانوا يقاتلون بأسلحة خفيفة جيشاً مدججاً بالسلاح شن حرباً إجرامية ضد المقاتلين والمدنيين معاً، لتبدأ حرب الإبادة المستمرة عبر الحكومات الصهيونية المتعاقبة حتى اليوم.

وفي قطاع غزة.. قرر شارون في 12 سبتمبر 2005 إخلاء المستوطنات والحضور العسكري الصهيوني المباشر، وتكررت عمليات هجوم الجيش الصهيوني على غزة بعد ذلك عدة مرات، في ديسمبر 2008، ويناير 2009، ونوفمبر 2012، وهي السنوات التي شهدت ثورات في تونس ومصر وسوريا واليمن، لعب فيها “الإخوان المسلمون”، ومنظمات إسلامية عديدة مثل داعش (الدولة الإسلامية في العراق والشام) وغيرها، والتي أنشأتها ودعمتها أميركا وحلف الناتو، أدواراً برعاية أميركية لحرف تلك الثورات عن مسارها وتفكيك دول المنطقة واستنزاف جيوشها، لصالح هيمنة “إسرائيل”، وهي السنوات التي تلاها الطرح الأميركي – الصهيوني لمشروع الشرق الأوسط الاستراتيجي، ثم التحالف الإبراهيمي، بهدف حرف الصراع التحرري الوطني ضد الكيان الصهيوني وأميركا، إلى صراع طائفي. 

وبدأت بعض الدول العربية الهرولة لتوقيع اتفاقيات تطبيع علني – بعد التطبيع السري- مع العدو الصهيوني، حتى جاء طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر عام 2023، والذي يعتبر الكثيرون أنه، وما تبعه من حرب إبادة وتطهير عرقي شنها العدو الصهيوني ضد الفلسطينيين، سيشكل حداً فاصلاً بين ما سبقه وما يليه، خاصة على الوضع الداخلي للشعب الفلسطيني ومقاومته بكافة فصائلها، وعلى الشعوب العربية التي أصبح مكشوفاً لها ولكل شعوب العالم، كافة التفاصيل والمواقف، بما أحدثته من فرز واضح بين الاحتلال وداعميه والمتواطئين أو العاجزين أمامه وبين قوى التحرر الوطني الفلسطيني التي حظيت على مدار العام الماضي بتعاطف شعبي غير مسبوق من شعوب العالم أجمع..

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

انتخابات ٢٥ يناير ١٩٦٧ المزوّرة

عندما اتضح أنّ قائمة “نواب الشعب” ستحرز نجاحاً مرجحاً في المعركة الانتخابية، استعدت السلطة لتزوير الانتخابات، بهدف ضمان غالبية المجلس إلى جانبها…

الثورة الجزائرية الخالدة ” نبراساً لمقاومة الاستعمار والظلم”

كان صدى الثورة الجزائرية في الفاتح من نوفمبر عام 1954 يدوي في كل مكان من هذا العالم ضد الظلم والاستبداد الاستعماري، لاسيما أن هناك العديد من الشعوب ما زالت تحت نير الاستعمار الغربي، الذي كان يعم مناطق كثيرة في العالم، خاصة المستعمرات الفرنسية على وجه التحديد في إفريقيا، حيث أن الثورة الجزائرية أشعلت لهيب العنف الثوري ضد المستعمر كخيار مبدئي واستراتيجي للحصول على الاستقلال الكامل والحرية

[zeno_font_resizer]