المفكر الشهيد حسين مروة في ذكرى اغتياله الثامنة والثلاثين
ابنة الشهيد تكتب في ذكرى اغتيال أبيها
وضعَتْ أعمال كارل ماركس وفريدريك انجلز أسس المنهجية المادية الديالكتيكية لمفهوم العلوم وتطوّرها وارتباطها بالواقع الموضوعي وحاجات الإنتاج، مبرزة دور البراكسيس (الممارسة)، أيضاً، في حقل المعرفة وتطوّرها ونموّها، بذلك اشتملت الماركسية على مفهوم جديد ثوري للعلوم وللفلسفة انتقدت فيه المفهوم المثالي، والمفهوم المادي الميكانيكي لهما، في المنهجية نفسها أضاءَ لينين على جوانب من نظرية ماركس وانجلز حول نظرية المعرفة ومفهوم الديالكتيك وعلاقة الوعي بالمادة، ومفهوم البراكسيس وارتباطه بنظرية المعرفة والممارسة السياسية ونقده للفلسفة المثالية، النقد الذي يشكِّل، مع أعمال ماركس وانجلز، أسس نقد الفلسفة المثالية التي، بجميع تياراتها ومذاهبها، ومنها الوضعية Positivism بالطبع، تسعى إلى تأويل الاكتشافات العلميَّة لشن هجوم مضاد على النظرية الماركسية – اللينينية بهدف إنكار، بالوهم، علميتها.
في الذكرى الـ 101 لرحيل فلاديمير لينين (22 أبريل 1870 – 21 يناير 1924) قائد الثورة الاشتراكية ومؤسس أوَّل دولة اشتراكية نسلط الضوء على جانب من نقد لينين للتيار المثالي في الفلسفة، والمادي الميكانيكي، وذلك من خلال نقده للتأويل المثالي للاكتشافات العلميَّة ورأس حربته الوضعية وتأويلها لها في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لإبراز جانب مهم من نتاج لينين، ومحوري في النظرية الماركسية، أي جانب من نتاجه الفلسفي، وبالطبع لسنا هنا بصدد دراسة متكاملة تبرز نتاج لينين الفلسفي بالكامل فهذا موضوع دراسة شاملة لا يتسع المجال لها الآن وهنا.
أهميَّة كتاب “المادية والمذهب التجريبي النقدي” وموقعه في الدراسات الفلسفية
خاضَ لينين معركة فلسفية ضد المثالية ومحاولات استخدامها للاكتشافات العلميَّة، وفق تأويلها المثالي لها، لدحض الفلسفة الماركسية. في معركته الفلسفية أظهرَ لينين الارتباط المادي الديالكتيكي بين الفلسفة والسياسة، والخلفية السياسية للهجوم على الفلسفة الماركسية – اللينينية، والأبرز في ذلك يكمن في عمق اطلاعه على النتاج الفلسفي في تلك الحقبة التاريخية وردِّه الفلسفي العميق عليها. كتابات لينين الفلسفية موجودة في ثلاثة أعمال هي كتيب “من هم أصدقاء الشعب” الذي ميزَ فيه بين الديالكتيكي الماركسي والديالكتيك الهيغلي، إضافة إلى توسيع مفهوم الديالكتيك؛ وكتاب “المادية والمذهب التجريبي [الأمبيريقي] النقدي” Materialism and Empirio- Criticism الذي صدر في شهر أيَّار/ مايو العام 1909 وينطوي على نقاش فلسفي ممتع في عمقه وتماسكه ضد الفلسفة المثالية بمختلف تياراتها ومذاهبها، كما يتجلى فيه مفهوم الارتباط المادي الديالكتيكي بين الفلسفة والسياسة وما يدلل على ذلك حكاية تأليف هذا الكتاب الذي أتى ردَّاً على مفكرين بلاشفة أبرزهم الكسندر بوغدانوف دعوا لأفكار سياسية عدميَّة وفلسفة لا عقلانيَّة وهي آراء وضعية، آراء مارخ (النقدية الأمبيريقية)، التحريفية، فقد طلب الروائي الشهير مكسيم غوركي من لينين، مناقشة تلك الآراء الوضعية والرَّد عليها. لقد دعا بوغدانوف إلى تجديد الماركسية بناء على التغير الذي حصلَ في العلوم الفيزيائية وبالتالي قيام فلسفة للعلم جديدة “وقد كان يبدو لبوﻏدانوف أنّ ماخ وغيره من التّجريبيين النّقديين صاغوا الشروط الفلسفية للعلم الجديد كأدّق ما تكون الصياغة، فسعى هو إلى التّأليف بين مواقفهم الفلسفية وبين مبادئ المادّية التاريخيّة تأليفاً دعاه باسم ”الواحدية التّجريبيّة“ (Empirio- monisme): كصّيغة ماركسية للنقدية التجريبية” (بن سوسان جيرار، لابيكا جورج، معجم الماركسية النقدي، ترجمة جماعية، دار محمد علي للنشر، صفاقس، دار الفارابي، بيروت، ط.1، 2003. ص. 1315)، وعملوا على أن تكون هي الأساس الفلسفي للماركسية، بدلاً من المادية الديالكتيكية، هذا الطرح الفلسفي وما يحمله من خلفية سياسية انتقده لينين وأظهر أنه يُعيد أطروحات فلسفة القرن الثامن عشر الميكانيكية وتجريبية هيوم ولا أدريته، مظهراً البُعد الفلسفي للماركسية؛ أمَّا العمل الثالث الذي وضع فيه لينين طروحات فلسفية هو “دفاتر فلسفية” ولكنه عمل غير مكتمل.
يُعد كتاب “المادية والمذهب التجريبي النقدي” أحد أهم الكتب التي يظهر فيها البُعد الفلسفي للماركسية وقدرتها على نقد الاتجاهات الفلسفية السائدة، شن فيه لينين هجومه على الأكاديميين ومفهومهم للفلسفة الذين جعلوها أداة في يد السلطة للدفاع عنها لشن هجوم على الفكر الثوري وتشويه الوعي تحت ذريعة النقاء الفلسفي، لذلك تعرَّضَ الكتاب للكثير من محاولات التشكيك بخلفيته الفلسفية بهدف تحنيط الفلسفة في برجها العاجي ومنع أن تكون الفلسفة أداة من أدوات النضال الثوري ضد الأيديولوجية البرجوازية المسيطرة وفلسفتها. وقد أبرزَ ألتوسير الخلفية الفلسفية لكتاب لينين من خلال إبرازه لمفهوم البراكسيس في كتابه “تأهيل إلى الفلسفة للذين ليسوا بفلاسفة” (ترجمة الياس شاكر، دار الفارابي، بيروت، ط1، 2017)، وما حمله مفهوم البراكسيس من تغيير لمفهوم الفلسفة وجعلها أداة من أدوات التغيير.
أهميَّة كتاب لينين “المادية والمذهب التجريبي النقدي” في الدراسات الفلسفية وأهمية الفلسفة الماركسية وجديدها الثوري، أبرزها العديد من المفكرين البارزين في عالمنا العربي، نذكر منهم، بحسب اطلاعنا، محمود أمين العالِم الذي يُعد كتابه “فلسفة المصادفة”، وهو بحث لنيل درجة علميَّة من جامعة القاهرة، أحد الكتب الرئيسة في اللغة العربية، لنقد الوضعية بمنهجية مادية علميَّة، فقد شكَّل كتاب لينين “المادية والمذهب التجريبي النقدي”، مادة رئيسة في تطوير أفكار محمود أمين العالِم وقلبها رأساً على عقب، بعد أن كانت تسيطر عليه الفلسفة المثالية التي حاول فيها تقويض الموضوعية العلميَّة، باعتراف العالِم في تمهيده لكتابه، وأنّ اطلاعه على كتاب لينين قاده إلى كتاب انجلز “ديالكتيك الطبيعة”، واعترف العالِم أن لهذين الكتابَيْن دورهما في تقويضه للفكر المثالي الذي كان يأخذ به. ويشير العالِم إلى مسألة مهمة تفضح مدى هيمنة الفكر المثالي على الصروح الأكاديمية وممارسة قمعه لأية محاولة لنقدها، هي أنه لم يستطع، في بحثه الأكاديمي، الإفصاح بالدور الذي لعبه كتاب لينين وكتاب انجلز في قلب أفكاره المثالية، لذلك يقول العالِم إنه استعان بمصطلح “تكميلية” في “الموضع الذي أردت أن أستخدم فيه كلمة ”الجدلية“. وكان هذا مخاطرة فكرية بغير شك. إذ أن ”التكميلية“ مصطلح معروف يختلف اختلافاً كبيراً عن ”الجدلية“، بل يتضمن مدلولاً مثالياً توفيقياً”. (العالِم، محمود أمين، فلسفة المصادفة بحث في الفلسفة العلمية يؤكد الأساس الموضوعي للمصادفة ويحدد دلالتها في الفيزياء الحديثة، مكتبة الأسرة، القاهرة مصر، لا. ط، 2003 ص.9). وأظهرَ د. هشام غصيب، بشكل رئيس في كتابه “جدل الوعي العلمي إشكالات الإنتاج الاجتماعي للمعرفة”، من خلال نقده للوضعية وما بعد الوضعية، أهميَّة موقع لينين في الدراسات الفلسفية وموقع كتابه “المادية والمذهب التجريبي النقدي” الذي في ضوءِ المنهجية المادية الديالكتيكية لنقد الوضعية، والفلسفة المثالية، وضعَ لينين، بتحديد د. هشام غصيب، الأبيستمولوجيا المادية. الإقرار بأهميَّة كتاب “المادية والمذهب التجريبي النقدي” يعترف به د. محمد عابد الجابري، وهو غير ماركسي، الذي قال إنَّ ردَّ لينين على الوضعية وظاهراتية ماخ “في كتابه ”المادية والمذهب التجريبي النقدي“، هذا الكتاب الذي لم يظهر بعد عند السوفيات، في حدود علمنا، ما يوازيه اطلاعاً وقوة حجة”. (الجابري، محمد عابد، مدخل إلى فلسفة العلوم العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط3، 1994.ص.445).
نقد “المثالية الفيزيائية”
في هذه العجالة السريعة نقصر التركيز على قضية رئيسة انتقد فيها لينين المذهب الوضعي في تلك المرحلة التاريخية، أي “المثالية الفيزيائية”، والتيار المثالي في الفلسفة بمختلف مذاهبه واتجاهاته، التي تشكِّل، في الوقت نفسه، أسس المفهوم الماركسي – اللينيني لفلسفة العلم. لقد أدَّت الاكتشافات العلميَّة الحديثة إلى انهيار مبادئ الفيزياء القديمة وقوانينها، نتيجة لذلك ظهرَ في تلك الفترة التاريخية، ما عُرِفَ بـ “أزمة الفيزياء”، التي وجدَ فيها أرنست ماخ، وهنري بوانكاريه، وفيلهلم أوستفالد، وكارل بيرسون وغيرهم، فرصة لإلغاء السمَّة المادية للفيزياء بمعنى “نبذ الواقع الموضوعي القائم خارج الوعي، أي الاستعاضة عن المادية بالمثالية واللاعرفانية [اللاأدرية]”. (لينين، فلاديمير، المختارات، 10 مج، مج 4، ترجمة شاهين، الياس، دار التقدم، موسكو، لا ط، 1978، ص. 331)؛ أمَّا السبب الثاني، العام، لـ “أزمة” الفيزياء وانتشار “المثالية” الفيزيائية”، فهو اتساع دور الرياضيات في الفيزياء، مفيدة ممَّا تتمتع به من قدرة على معرفة قوانين الطبيعة والتنبؤ بها، إلّا أنّها قادت إلى الاهتمام بوصف المعطيات التجريبية، رياضياً، بدلاً من عكس العمليات الواقعيَّة، (علاقة الرياضيات بالتجربة حللها فريدريك انجلز في كتابه “انتي دوهرينغ“. القسم الأوَّل، “الفلسفة”، مبحث، “التصنيف – القَبْليَّة”). وبالتالي حصرت مهمة العلم في الوصف الموجز لمعطيات التجربة ونزعت عنه الصفة التفسيرية والاكتشاف، وهو موقف أكدَّه كارل بيرسون في كتابه قواعد العلم بقوله: “لا يظن أي أحد أن العلم يفسر أي شيء، كلنا ننظر إليه على أنه وصف موجز، كاقتصاد للفكر”؛ أمَّا أرنست ماخ فجعل مهمة العلم، في كتابه تحليل الحواس مقتصرة على اكتشاف نظام المحاكاة بين حواسنا التي تمكننا من التنبؤ بحواس مستقبلية. في هذا الاتجاه من التفكير وصلَ ماخ وأوستفالد إلى نفي وجود الذرات في الواقع الموضوعي. اتجاه كشف لينين خلفيته المثالية بقوله إنَّ “الاقتراب من عناصر متجانسة وبسيطة من عناصر المادة تجيز قوانين حركتها المعالجة الرياضية، يؤدي الى نسيان المادة من قبل الرياضيين. ”المادة تزول“ وتبقى المعادلات فقط. وفي المرحلة الجديدة من التطور، تظهر بطريقة جديدة (…)، الفكرة الكانطية القديمة القائلة ان العقل يملي القوانين على الطبيعة”. (لينين فلاديمير، مختارات، مج4، مصدر سابق، ص. 397).
لينين والمفهوم المادي الديالكتيكي لعمليات الطبيعة
تحليل لينين للاكتشافات الفيزيائية الحديثة انطلق من إبرازه للجانب الديالكتيكي لعمليات الطبيعة، حيث ركزَ في نقده لـ”المثالية الفيزيائية” على مسألة فلسفية في غاية الأهميَّة هي نقد الفهم الميكانيكي وحيد الجانب لتلك الاكتشافات، الذي قادَ إلى نفي مبادئ الفيزياء الكلاسيكية نفياً، ميكانيكياً؛ وإلى الوقوع في ما يُسمَّى نسبيَّة معارفنا. مذهب في المعرفة نقده لينين، وأعطى، في الوقت نفسه، المعنى الديالكتيكي لنسبيَّة معارفنا، بتأكيده أن التفكير يستطيع “ان يعطينا وهو يعطينا الحقيقة المطلقة التي تتكون من مجمل الحقائق النسبية. وكل درجة في تطور العلم تضيف ذرات جديدة الى مجمل الحقيقة المطلقة هذه، ولكن حدود حقيقة كل موضوعة علمية هي حدود نسبية لأنها تتسع تارة وتضيق طوراً جراء نمو المعرفة اللاحق”. (لينين فلاديمير، مختارات، مج4، مصدر سابق، ص. ص 168-169).
ومن المسائل التي استخدمها أتباع “المثالية” الفيزيائية” في هجومهم على المادية، مسألة إعلان الفيزيائيين “زوال المادة” وإرجاعهم المادة إلى الكهرباء، مسألة وجدوا فيها فرصة لإنكار الوجود الموضوعي للمادة. موقف انتقده لينين بتحديده أنه عندما يقول الفيزيائيون إنَّ ”المادة تزول“ “فإنهم يريدون ان يقولوا بذلك ان علم الطبيعيات حصر حتى الآن جميع بحوثه للعالم الفيزيائي في المفاهيم الأخيرة الثلاثة: المادة، الكهرباء، الاثير؛ أما الآن، فيبقى الاخيران فقط. لأنه يمكن حصر المادة في الكهرباء“. (المصدر نفسه، ص 334. مراجعة الملاحظة رقم 78، ص. ص 492-493). إذن، يوضح لينين أنَّ العلم قد توصل إلى اكتشاف أشكال جديدة للمادة وحركتها وليس إنكار الوجود الموضوعي للمادة، وبالتالي لا يوجد تناقض ميكانيكي بين المادة والوعي، إذ إنَّ الخاصية “الوحيدة للمادة، التي تربط المادية الفلسفية بالاعتراف بها انما هي خاصة [خاصية] أن تكون واقعية موضوعية، أن توجد خارج وعينا”. (لينين فلاديمير، المختارات مج 4، مصدر سابق، ص 335). كما سعى أصحاب الفكر المثالي إلى استخدام اكتشاف الالكترون لتأكيد “زوال المادة” انتقده لينين انطلاقاً من أن “الالكترون لا ينضب، مثله مثل الذرة، والطبيعة لا متناهية، ولكنها توجد إلى ما لا نهاية؛ وان هذا الاعتراف القاطع الوحيد، والمطلق الوحيد بوجودها خارج وعي الانسان واحساسه هو الذي يميز المادية الديالكتيكية عن اللاعرفانية [اللا أدرية] النسبية وعن المثالية”. (المصدر نفسه، ص337).
نقد المفهوم المثالي للتضاد بين الوعي والمادة
بناءً على الاكتشافات العمليَّة الجديدة في تلك الحقبة التاريخية برزت محاولات متعددة لحل مشكليَّة التضاد بين الوعي والمادة، من تلك المحاولات ما عُرِفَ بالمذهب الطاقوي الذي أسسه أوستفالد حيث أرجعَ التضاد بين الوعي والمادة إلى مبدأ من خارجهما، هو الطاقة، أي الحركة من دون مادة، بهدف الوصول إلى فصل الفكر عن الواقع (المادة). هنا طَرحَ لينين سؤاله على المذهب الطاقوي: بما أن الطاقة مقياس للحركة، وبما أن العالَم حركة فما الذي يتحرك في هذه الحال؟. كما طَرحَ السؤال التالي: “هل الطاقة مادية؟ أيجري تحول الطاقة خارج وعيي، بصورة مستقلة عن الانسان والانسانية، ام ان هذا مجرد افكار، رموز، علامات اصطلاحية [مواضعة convention] (…)، وعلى هذا السؤال بالذات كسرت الفلسفة ”الطاقية“ رقبتها” (المصدر نفسه، ص 348). وقد أتاحَ تعريف لينين الواسع للمادة وضع أسس النقد لـ “المثالية الفيزيائية” بمختلف تياراتها، انطلاقاً من أنه “يفتح سبيلاً للتوفيق بين المذهب المادي ونتائج الفيزياء الحديثة فالجوهر لا يتلاشى، وإنما ينفرط بناؤه الى اجزاء أخرى أصغر منه كهارب وأيونات. والكهرب لا يفنى، وإنما يتحول الى طاقة. وذلك أن المادة والطاقة عند الماديين الجدليين صنوان لا يكون أحدهما بدون الآخر، ولا منفصلا عنه (…). وهكذا تبدو الطاقة والساحة [المجال] ضرباً من المادية بالمعنى العام إلى جانب المادة بالمعنى الخاص” (اليافي عبد الكريم، تقدم العلم، مطبعة جامعة دمشق، لا. ط، 1964. ص. ص. 245-246).
نقد نفي السببيَّة الموضوعية والوجود الموضوعي للزمان والمكان
في مبحث “السببيَّة والضرورة” نقدَ لينين نفي السببيَّة الموضوعية، حيث أنكرَ ماخ السبب والمسبّب في الطبيعة وقال: إنَّ لا وجود لأية ضرورة في العالَم الفيزيائي سوى الضرورة المنطقية؛ أي العادة، وهو مفهوم قال به هيوم يعكس فيه الذاتية؛ على هذا الأساس استخلص بوانكاريه قوانين الطبيعة، بما فيها القانون القائل إن للمكان ثلاثة أبعاد –، من “الملاءمة” وأخذه بمفهوم البساطة؛ أمَّا كارل بيرسون فاعتبر أن قوانين العلم هي نتاجات العقل البشري أكثر بكثير ممَّا هي وقائع العالَم الخارجي، وأن الضرورة تعود إلى عالَم المفاهيم وليس إلى عالَم المدركات؛ في الخط المثالي نفسه اعتبر بوانكاريه أن “الواقع الوحيد الذي يمكن وصفه بأنه موضوعي هو العلاقات بين الأشياء، التي ينتج عنها الانسجام الكلي (…). وكل ما ليس بفكرة هو عدم محض لأننا لا نستطيع التفكير إلّا في الفكرة”. (نص بوانكاريه مأخوذ من كتاب: الجابري محمد عابد، مدخل إلى فلسفة العلوم….، مرجع سابق ص. 459. وهو بعنوان “القيمة الموضوعية للعلم”، النص المترجم موجود في قسم النصوص من كتاب الجابري). آراء نقدها لينين بتحديده أن الاختلاف بين المادية والمثالية لا يعود إلى الدقة في وصف العلاقات السببيَّة أو التعبير عنها بمعادلات رياضية دقيقة، بل في مصدر معرفتنا أهو من الفكر أم من الواقع، وأن الصلة بين السبَّب والمسبّب ليست ميكانيكية بل ديالكتيكية، هنا أعادَ لينين، في هجومه المضاد على التأويل الوضعي للاكتشافات العلميَّة (والفلسفة المثالية)، التذكير بتحليل انجلز للسببيَّة، في كتابه “انتي دوهرينغ” بأن “السبب والمسبَّب هما تصوران لا يتسمان بأهمية مأخوذين بذاتيهما، الا شرط تطبيقهما على كل حالة بمفردها؛ ولكن ما ان نبحث هذه الحالة بمفردها في صلتها المشتركة مع الكل العالمي بمجمله، حتى يتلاقى هذان التصوران ويتشابكان في تصور التفاعل الشامل الذي تتبادل فيه الاسباب والمسببَّات اماكنها باستمرار”. (لينين فلاديمير، المختارات مج 4، مصدر سابق، ص. 196).
نقد مفهوم المعرفة المطلقة المثالي وإنكار الوجود الموضوعي للمادة
في نقده للمعرفة المطلقة، بهدف الهجوم على المادية باسم النسبيَّة، نفى ماخ الوجود الموضوعي للزمان والمكان بقوله: إنَّ الزمان والمكان لا يوجدان إلّا في ذهن الإنسان، (هذا الشكل من النفي يعرف بالمذهب الذاتي)، وطالبَ بالبحث عن الالكترونات خارج المكان الواقعي. تصدى لينين لهذا النقد بتأكيده أن “تغير التصورات البشرية عن المكان والزمان قلما يدحض الواقع الموضوعي لهذا وذلك، مثلما تغير المعارف العلمية عن بنية واشكال حركة المادة لا يدحض الواقعية الموضوعية للعالم الخارجي” (لينين فلاديمير، المختارات مج 4، مصدر سابق، ص. 222). وانتقد أيضاً مفهوم بوانكاريه للزمان والمكان الذي اعتبر انهما مفهومان نسبيان ليصل إلى أن ليس الطبيعة هي التي تعطينا مفهوم الزمان ومفهوم المكان بل نحن الذين نعطي الطبيعة إياهما بناء على مفهومه للملاءمة والبساطة، هذا الرأي انتقده لينين بتحديده أنه على المذاهب الفلسفية أن تحدِّد ما هو الأوّلي الطبيعة أم الوعي. وقد بيَّن لينين الفرق الرئيس بين المادية والمثالية، وفقاً للمنهجية المادية الديالكتيكية، بأنه “يتجسد في اعتبار احساس الانسان، ادراكه، تصوره، وعيه على العموم صورة عن الواقع الموضوعي. فان العالم هو حركة هذا الواقع الموضوعي الذي يعكسه وعينا. وحركة التصورات، والمدركات، والخ… تناسبها حركة المادة خارجاً عني. ان مفهوم المادية لا يعبّر عن شيء عدا الواقع الموضوعي المعطى لنا في الاحساس. ولهذا يعني فصل الحركة عن المادة فصل التفكير عن العالم الموضوعي، فصل احساساتي عن العالم الخارجي، أي الانتقال الى جانب المثالية”. (المصدر نفسه، ص. 343).
يتضح من خلال ما تقدم تمييز لينين بين مادية ميكانيكية ميتافيزيقية من ناحية، ومادية ديالكتيكية نقيضة لها من ناحية ثانية، انطلاقاً من نقد انجلز للميكانيكية الميتافيزيقية، فقد ميزَ لينين المادية الديالكتيكية بأنها تؤكد الطابع النسبي لكل معرفة علميَّة وتؤكد “انعدام الحدور [الحدود] المطلقة في الطبيعة، على تحول المادة المتحركة من حالة الى أخرى، متنافية معها” (المصدر نفسه، ص. 336)، وأنه “مهما كان انعدام اية كتلة عند الالكترون عدا الكتلة الكهرمغناطيسية ”غريباً“، ومهما كان اقتصار القوانين الميكانيكية للحركة على ميدان ظاهرات الطبيعة وحدها، وخضوع هذه القوانين لقوانين اعمق هي قوانين الظاهرات الكهرمغناطيسية، الخ..، غير عادي، فان كل هذا هو مجرد تأكيد آخر على صحة المادية الديالكتيكية” (المصدر نفسه، ص. 336).
في نقده هذا أظهرَ لينين كيف انحرفت الفيزياء نحو المثالية لأنها لا تعرف الديالكتيك، فقد انتقدَ فيزيائيو المادية الميتافيزيقية، ميكانيكيتها وحيدة الجانب، هنا يضيء لينين على نقد انجلز للمادية الميكانيكية الميتافيزيقية، ويميزه عن النقد الوضعي والهيومي (المثالي) للمادية الميكانيكية الميتافيزيقية، حيث بنقدهم لها وانكارهم لثبات العناصر وخواصها انزلقوا إلى إنكار المادة، إنكار واقعيَّة العالَم الفيزيائي، وبإنكارهم الطابع المطلق للقوانين الأساسية انزلقوا إلى إنكار كل سنة موضوعية في الطبيعة، انزلقوا إلى إعلان “قانون الطبيعة اصطلاحاً [مواضعة] صرفاً، ”تحديداً للتوقع“، ”ضرورة منطقية“(…). وبما انهم اصروا على طابع معارفنا التقريبي، النسبي، فقد انزلقوا الى انكار الموضوع المستقل عن المعرفة، والذي تعكسه هذه المعرفة بصورة صادقة تقريباً، بصورة صحيحة نسبياً”. (المصدر نفسه، ص337). في تحديد لينين للمادية الديالكتيكية ومفهوم علاقة الذات بالواقع ووجود الواقع الموضوعي يتضح معنى “ما أسماه لينين المادية الإبستيمولوجية، أعني الإقرار بأن هناك عالماً موضوعياً مستقلاً عن الذاتية الإنسانية أو أي ذاتية أخرى تتخيلها الفلسفة، وأن العلم يسعى الى معرفة بنى هذا العالم وسيروراته وعلاقاته من دون فرض تصور مسبق عنها”. (غصيب هشام، جدل الوعي العلمي إشكالات الإنتاج الاجتماعي للمعرفة، ط 1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمّان الأردن، 1992، ص. 145).
وفي ضوء المنهجية المادية العلمية التي انتقد فيها المثالية وتأويلها للاكتشافات العلمية لنفي الوجود الموضوعي للمادة انتقد لينين سعي ما يسمى “الخط الثالث” للجمع بين المذهب النقدي التجريبي (الامبيريقي) والماركسيّة، وقد خصص له الفصل السادس من كتابه “المادية والمذهب التجريبي النقدي”، بتأكيده في خاتمته أن تلك المحاولة لا يمكن أن تتم إلّا في حال “الجهل المطبق بصدد ماهية المادية الفلسفية على العموم وبصدد ماهية طريقة ماركس وانجلس الديالكتيكية”(المصدر نفسه، ص. 460).
يتضح في جانب ممّا تقدم من نقد لينين مسألة فلسفية محورية في نتاجه الفلسفي نُعيد التذكير بها بشكل مكثف وهي مفهوم لينين للعلاقة المادية الديالكتيكية بين المادة والوعي، وتحديده لمفهوم أسبقية المادة على الوعي، والتضاد بينهما، وذلك انطلاقاً من مفهوم العلاقة المادية الديالكتيكية بين الأضداد ووحدتهما، فالتضاد بين المادة والوعي لا ينفصل في وحدتهما حتى وإنْ افترضنا أسبقية المادة على الوعي، لأن الفهم الميكانيكي للتعارض بينهما والقول بالأسبقية الميكانيكية للمادة على الوعي يؤدي إلى الثنائية Dualism الميكانيكية التي انتقدها لينين بتركيزه على العلاقة المادية الديالكتيكية بين المادة والوعي، هنا يكمن عصب نقده للمذاهب المثالية وللمادية الميكانيكية.
فلاديمير لينين صاحب المقولة الشهيرة “لا نظرية ثورية من دون ممارسة سياسية ثورية” وضع الأسس الفلسفية لتلك المقولة – البوصلة والعلاقة المادية الديالكتيكية بينهما، وجعل الفلسفة أداة من أدوات النضال الثوري، في هذه الإضاءَة السريعة على جانب من نتاج لينين الفلسفي، تتضح منهجيته المادية العلمية في كشف ليس الخلفية الأيديولوجية للفلسفة المثالية فقط، بل وإنتاج البديل الثوري النقدي والنقضي لها.
ليتحد كل الكادحين بأيدهم وأدمغتهم، على امتداد أرض الإنسان، في النضال ضد النظام الرأسمالي الإمبريالي والاحتلال لتجذير النضال الوطني التحرري المقاوم انطلاقاً من الشعار اللينيني “يا عمال العالم وأيتها الشعوب المضطهدة اتحدوا”.
ابنة الشهيد تكتب في ذكرى اغتيال أبيها
قصة الشهيد مؤسس الحزب الشيوعي العراقي: يوسف سلمان يوسف
رسالة لأهالي غزة من أرشيف المفكر الشهيد حسين مروة في عام 1957 بعنوان:” تحية إلى أهل غزة”
عندما اتضح أنّ قائمة “نواب الشعب” ستحرز نجاحاً مرجحاً في المعركة الانتخابية، استعدت السلطة لتزوير الانتخابات، بهدف ضمان غالبية المجلس إلى جانبها…