شبح الإستعمار الترامبي ودفتر الشروط والشيكات 

-+=

لا يحتاج ترامب لتقديم مبررات للانقضاض على المنطقة ونهش فريسته، فالتحولات الحاصلة أعطته الفرصة والقوة والتفرد في التصرف والقرار وتوزيع الأدوار، كون المنطقة تعيش لحظة الصدمة وحالة من التفكك والإنكسار بعد مرحلة طويلة من الصمود والمقاومة والاستعصاء. ومرد ذلك أسباب كثيرة متشعبة، آخرها، الأخطاء في الحسابات والتقدير، والنواقص في الخطة التكتيكية لـ “محور المقاومة” لخوض المعركة ضد العدوان الصهيوني – الأميركي- الأطلسي الأخير على غزة ولبنان، والتردد الإيراني في إتخاذ القرارات الحاسمة في اللحظة المناسبة لحسابات تفاضلية، وكربجة مفاصل النظام السوري السابق، وانقسام الداخل الفلسطيني، وتواطؤ الرجعية العربية. وهي مجموعة عوامل متلازمة أفضت بنتائجها إلى تغيير في مسار اتجاه المعركة لمصلحة الأميركي والصهيوني، سيما بعد إنهيار النظام السوري السابق، وطرد إيران، وانسحاب روسيا. لتختلف المعادلة ولتصبح المقاومة مكشوفة ومطوقة في غزة ولبنان، وسوريا الجديدة رهينة الاحتلالات والإرهاب، بحيث وصلت المنطقة إلى فم وحش الاستعمار الأميركي وحان موعد الاستمتاع بوجبات وخيرات المنطقة.  

وفي الوقت الذي يعيد فيه كل طرف محلي وإقليمي ودولي حساباته، ويتحسس رقبته، ويهيئ دوره وموقعه للمرحلة القادمة، كان ترامب يرسم خارطة تسيّده على المنطقة والعالم ويوقع بقلمه العريض على قرارات عجائبية، تأزم المأزوم، وتضع العالم على فوهة حروب جمركية وتجارية أو كونية جديدة.  

وبينما غزة والضفة ولبنان وسوريا تتعرض لأشرس الإعتداءات الصهيونية الفاشية، والمنطقة تتخبط بانقساماتها وضعفها وفراغ بدائلها، وشعوبها تعيش حالة من الخوف والإحباط والترقب الحذر، سارعت نظم عربية وقوى سياسية محلية لوضع قدراتها ومواردها وأمنها في خدمة المشروع الاستعماري الأميركي – الصهيوني الجديد. في وقت، اقتنصت قوى إقليمية فرصتها لتوسيع دائرة نفوذها وسيطرتها في سوريا لحفظ حصتها من تركة النظام و”محور الممانعة” السابقين. وفيما فتح “بوتين” باب المفاوضات مع “ترامب” حول الحرب في أوكرانيا (رغم تعقيداتها)، سلكت “إيران” طريق المفاوضات مع “الإدارة الأميركية” حول الملف النووي والدور والسلاح بوساطة سلطنة عُمان.

هذه المستجدات دفعت “ترامب” للقيام بزيارة ذهبية لبعض دول الخليج وإعلان تتويجه ملكاً للاستعمار والاستثمار والصفقات التجارية و”الإبراهيمية”. وهذا ما أكده بتصريحاته عن عميق فخره واعتزازه بعظمة أميركا وقوتها وعلو كعبها في خوض الحرب والسلم، مكرساً أحادية السيطرة والقرار، ومعلناً نهاية لعبة التوازنات الدولية والإقليمية السابقة، وملوحاً بارتباط مصير كل بلد في المنطقة بمدى خضوعه والتزامه بالشروط الأميركية، وبنتائج فحوصات الولاء والتملق ودفع الأتاوات وصكوك التطبيع. أما تريليونات الدولارات التي حصدها خلال زيارته فتشكل منفذاً له تساعده في سد بعض العجز في الخزانة الأميركية، في وقت تغلق جميع منافذ المساعدات الإنسانية لشعب غزة.  

في المحصلة السياسية لزيارة ترامب 

لم يأتِ ترامب إلى الخليج من أجل إجراء الصفقات وتعبئة دفتر الشيكات فحسب، فهذا مقدور عليه، إنما جاء لغرض تكريس هيمنته الاستعمارية، وفرض شروط أجندته السياسية. فاللقاء مع “الشرع” مثلاً، هو إعلان لشرعنة الإرهاب، وتثبيت إنتقال موقع ودور سوريا الجديدة إلى ضفة الإحتواء والتطبيع بعد ثبات طويل في ضفة الممانعة والتصدي. وتثبيت النفوذ التركي في سوريا، وتمكين دور السعودية بالتدخل في سوريا ولبنان. وتفعيل الإستثمارات السعودية – التركية المشتركة في سوريا عبر مشاريع تجارية وقنوات الطاقة وتصديرها وإستثمارها بالتعاون مع قطر، وتعزيز دور الإمارات كقناة تواصل بين “إسرائيل” وسوريا لتسريع عملية التطبيع. 

أما شروطه المعلنة للشرع فقد لخصتها مصادر البيت الأبيض بالتالي: 

  • الإسراع في إبرام إتفاق “أبراهام” مع الكيان الإسرائيلي. 
  • التضييق على الفصائل الفلسطينية وطرد القيادات.
  • منع تمدد تنظيم داعش وترحيلهم، وإدارة سجونهم تحت مسمى “مكافحة الإرهاب”. وهذا أمر متفق عليه بين الشرع وأردوغان، والأخير، تحضر مسبقاً لتشكيل محور لمكافحة الإرهاب يضم إلى جانب تركيا وسوريا والأردن والعراق لتثبيت نفوذه العسكري في سوريا. بالرغم من الانزعاج والقلق الإسرائيلي الذي قد يتغير في حال التوافق على أدوار النفوذ وتقاسم الحصص خلال المفاوضات التركية – الإسرائيلية في أذربيجان في حال تقدم عملية التطبيع مع سوريا. 
  • ترحيل الميليشيات الإرهابية الأجنبية المسلحة في سوريا (أي الميليشيات المرتزقة التي تشكل دعائم نظام الجولاني).   

هذه الشروط، سبقها، إعلان ترامب وقف العقوبات المفروضة على سوريا والتي تلقفها الشرع، وبدأ في تنفيذها عبر:

  • تهيئة الأجواء للمباشرة بعملية التطبيع.
  • بدء التضييق وإبعاد الفصائل الفلسطينية. 
  • التعاون مع التركي حول ملف تنظيم داعش وإدارة السجون. 
  • أما ملف إبعاد الجماعات الإرهابية الأجنبية وطردهم من سوريا فدونه عقبات كثيرة أمام “الشرع” الذي يرغب في منحهم الجنسية السورية وضم قسم منهم إلى وزارة الدفاع السورية الناشئة، لكن هذا الأمر يثير الشكوك والحذر من حقيقة دورهم في سوريا، أو حقيقة وظيفتهم ومهامهم المفترضة في دول الجوار، أو أفغانستان أو أي مكان أخر. طالما لم يتم تحديد أماكن ترحيلهم، أو مصير سلاحهم، أو محاسبتهم ومعاقبتهم على الجرائم الإرهابية وارتكاب المجازر الوحشية بحق المدنيين في الساحل السوري وفي أماكن مختلفة في سوريا.  

وإنْ كان قرار ترامب بوقف العقوبات الأميركية عن سوريا يعطي دفعة أمل للشعب السوري الذي عانى الكثير من هذه العقوبات، لكن من المبكر مناقشة الآليات التي سيعتمدها ترامب لرفع (إزالة) العقوبات بعد القرار الأخير المتعلق بتعليق العقوبات مدة  180 يوماً، أو المآلات التي ستذهب إليها الأوضاع الميدانية المقلقة سواء في الجنوب أو شمال الشرق أو الساحل السوري، في ظل الممارسات الإرهابية    وعمليات التصفية والقتل والخطف والسرقة دون حسيب أو رقيب، إلى جانب عدم التوصل إلى اتفاق جدي حول منطقة السويداء ومناطق سيطرة الأكراد (قسد). 

الخطر الصهيوني الدائم  

لقد انفتحت شراهة “نتنياهو” العداونية التوسعية بعد التحولات في سوريا فسعى لقلب الطاولة في غزة ولبنان على الاتفاقات، ودفع الأمور إلى أقصاها للخروج من مأزقه السياسي وتحقيق أهدافه العدوانية في إقامة “إسرائيل الكبرى”، لتكريس معادلته الجديدة في المنطقة كشريك في مغانم مشروع “الشرق الأوسط الجديد”. فمن توسيع اعتداءاته اليومية على غزة، واستئنافه لحرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهديد باجتياح غزة، وإحداث المزيد من القتل والقصف والتدمير إلى إلغاء اتفاق 1701 من جانبه، واستمرار احتلاله للتلال الخمس في الجنوب، و الاعتداءات والاغتيالات اليومية على لبنان، ومنع أهالي بعض القرى الأمامية من العودة لمنازلهم وأراضيهم، إلى التوسع بالتوغل في الجنوب السوري واحتلاله للمرتفعات وجبل الشيخ، وانخراطه المباشر في تجييش العوامل الطائفية والمذهبية بحجة حماية الأقليات في سوريا.

لكن، “تجري الرياح بما لا تشتهي السفن”، فنتنياهو بالرغم من فاشية عدوانه، فإن أزمته الداخلية تتعمق أكثر، وزادها تأزماً: تجاوز “ترامب” له في قرار المفاوضات مع إيران، كما تجاهله زيارة “إسرائيل” أثناء جولته في الخليج، ومباركته لأردوغان ونفوذه في سوريا. هذا عدا، عن استمرار فشل تحقيق مشروعه في غزة، وإفشال خطته في السويداء، وقلقه الشديد من المقاومة وسلاحها في لبنان وفي اليمن. 

لكن، كل هذا لا يعني انفضاض الشراكة الاستراتيجية الأميركية – الصهيونية، أو تغير في وظيفة الكيان الصهيوني الاستعمارية في المنطقة، بل ينم عن تبدل في أسلوب “ترامب” التكتيكي المختلف لحلحلة القضايا الحساسة الساخنة في المنطقة، ومعالجتها بأسلوب يتوافق وشعاراته وحساباته لتحقيق أكبر قدر من الأرباح بأقل المعارك والخسائر الممكنة، لفرض سلام الاستبداد، والسيطرة على مقدرات الشرق الأوسط الجديد. لذلك، يلعب ترامب الدور المباشر في هندسة الأدوار وإدارة الصفقات والحسابات، فيأخذ حصة القيصر، ويوازن بين طموحات نتنياهو التوسعية وحزامه الأمني والتطبيع وسرقة المياه وتطويق لبنان والأردن من جهة، وبين طموحات أردوغان ودوره في إسقاط النظام السوري السابق لتثبيت مواقعه وقواعده ونفوذه العسكري والسياسي ومساعدته في حل القضية الكردية من جهة ثانية.

هذه المشهدية لا تعني أن المنطقة ذاهبة إلى مرحلة الاستقرار والإنتعاش والسلام، بل تعني أن مخاطر الإمبريالية الفاشية أكبر، وتحديات المواجهة أصعب وأشمل. فلا سلام وتنمية مع الإمبريالية والصهيونية. ولا أمان واستقرار بالهزيمة والاستسلام. فالمحتل الصهيوني يمارس فاشيته أكثر في تدمير وحصار غزة وقتل أطفالها وشعبها، وما إعلان “ترامب” بتحويل غزة إلى مشروع استثماري تجاري إلا تأكيداً للمهللين والخائفين والضعفاء على الأهداف الاستراتيجية لشراكة العدوان على غزة والضفة، والتخطيط للقضاء على المقاومة وتهجير الفلسطينيين وتصفية القضية والحقوق الوطنية التاريخية المشروعة. وفي توحش هذا العدو باعتداءاته اليومية على لبنان، وعمليات القتل والقصف والترهيب التي تطال المدنيين، واستمراره في إحتلال بعض التلال في الجنوب، بضوء أخضر أميركي مترافقة مع التهديدات المتلاحقة للمبعوثة الأميركية “اورتاغوس” للدولة اللبنانية والمقاومة، والإيعاز لمن يهمه الأمر بمنع إطلاق ورشة الإعمار قبل نزع سلاح “حزب الله”، والسلاح الفلسطيني في المخيمات، وترسيم الحدود البرية مع سوريا، وفتح باب التطبيع مع العدو؛ أما سوريا الجولاني فباتت منزوعة السلاح ومتعددة الاحتلالات ومترامية الأطراف ومشرعة أمام كل مناخات التطرف والإرهاب والصراع الطائفي والمذهبي التي تهدد موقع ودور سوريا الوطني التاريخي، وتهدد وحدة الشعب والوطن.  

وما يزيد في هشاشة وخطورة الوضع مضي النظام البرجوازي اللبناني وسلطته الراهنة في تكريس نهج التبعية وتوزيع المحاصصات الطبقية والطائفية وانتشار الفساد، وهذا يزيد في تمزيق الوحدة الوطنية، ويقوض نضالات الشعب اللبناني وإنتصاراته الوطنية المحققة بفعل صموده ومقاومته وتوقه لإرساء قواعد لنظام وطني ديمقراطي مقاوم؛ أما سوريا فقد دخلت مع قيام نظام الحكم الجديد في نفق مجهول، وفي مرحلة تجاذبات داخلية وشروط إقليمية ودولية معادية لقيام دولة وطنية ديمقراطية عربية موحدة ومستقلة. وبالتالي، فإن بصيص النور والأمل مرهونان بتشكيل إطار أو جبهة سياسية وشعبية وطنية وديمقراطية تكون على قدر نضالات الشعب السوري وتضحياته وطموحاته وأهدافه في الحرية والديمقراطية والأمن والاستقرار والوحدة والعدالة الاجتماعية، وفي بناء الدولة الوطنية الديمقراطية. 

وإنْ شكلت غزة عنواناً للصمود والمقاومة والثبات والكرامة، لكن استمرار الإنقسام الداخلي الفلسطيني، وغياب المرجعية السياسية الوطنية الجامعة، والخلافات على مواقع الحكم والسلطة تؤثر سلباً على تعزيز جبهة الصمود والمقاومة ومواجهة تحديات المرحلة المصيرية بعد التحولات المفصلية في المنطقة. 

المقاومة الوطنية خيار وقرار 

إنَّ مسار الصراع الوطني والطبقي في المنطقة عسير وخطير، وأمام اليسار وقوى التحرر والديمقراطية امتحان فكري وسياسي وتنظيمي، ومراجعة للتخلص من الفئوية والرمادية والتشرذم، وبناء أواصر الثقة مع الفئات الكادحة، وإطلاق ورشة عمل لتوحيد الصفوف وتنظيمها، وإرساء قاعدة وطنية وقومية لبناء إطار لجبهة مقاومة وطنية وشعبية عربية كخيار وقرار، تشكل القلب النابض لمشروع حركة تحرر وطني عربية جذرية وشاملة، لمواجهة خطر مشروع الاستعمار الإمبريالي الصهيوني الفاشي الجديد، من أجل التحرر الوطني والاجتماعي، والتخلص من التبعية والتطبيع والاستغلال الطبقي والطائفي والعرقي والإثني، وتكريس الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والإنسانية. وفي المقدمة حقنا في المقاومة لتحرير فلسطين وإنهاء الاحتلال الصهيوني والعودة وإقامة الدولة الوطنية الديمقراطية وعاصمتها القدس.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

لا مجد في الحرب

تُستقى حكمة المعركة الحقيقية من فنادق الخمس نجوم حيث تُعقَد صفقات السلاح، ومن الغرف المغلقة حيث تتفاوض النخب عبر الحدود لتسوية الأمور لمصلحتها.

عربدة العدو الصهيوني في المياه العربية

في هذا الوضع الخطير الذي يهدد الأمن المائي والقومي العربي لا بد من طرح استراتيجية مائية عربية واضحة تضع كافة الشعوب العربية والقوى الوطنية والتقدمية والقوى الحيَّة في العالم أمام مسؤولياتها للدفاع عن الموارد المائية العربية وتقف صفاً واحداً بوجه هذه العربدة الصهيونية.