صدر عن منشورات ” تكوين” كتاب “رغبة ما بعد الرأسمالية المحاضرات الأخيرة” للكاتب مارك فيشر، حررها وقدم لها مات كوهون. ترجمة نوال العلي.
كلمة غلاف رغبة ما بعد الرأسمالية
قبل عطلةِ عيد الميلاد لعام 2016، أعطى مارك فيشر طلابه في جامعة “غولدسميثز” المحاضرة الخامسة من بين خمس عشرة محاضرةٍ قررها بنفسه. لم يتوقع أحد أن تكون الخامسة هي الأخيرة، فقد انقطع مسار المساق الدراسي على نحوٍ مأساويٍ حين وضع المدوّن والمنظّر البريطاني (1968-2017) حداً لحياته تاركاً كتابه “شيوعية حبوب الهلوسة” جنيناً لم يكتمل.
يضمّ هذا الكتاب تلك المحاضرات الأخيرة، التي بدأها فيشر بالتساؤل حول معنى “ما بعد الرأسمالية”، واستمر بتتبع العلاقةِ بين الرغبة والرأسمالية، متوقفاً عند فرويد وماركوزه ولوكاتش وليوتار. نسمع صوت فيشر يائساً تارةً، وباحثاً عن الأملِ تارة، يستعيد إرث الثقافة المضادة من السبعينيات، ويفكّر في شبحِ عالمٍ كان يُمكن أن يكون حراً.
فُرغت المحاضرات كما هي، نسمع ضحك فيشر، مقاطعة طلابه، زحزحة المقاعد، فتح الباب، ليعيش القارئ الأجواء الواقعية للمساق الذي أثار أسئلةً نظريةً وتاريخيةً إشكاليةً تخصّ عصرنا الحالي.
(المترجمة)
مقدمة
لا مزيد من صباحات الإثنين البائسة
(مات كوهون)
معرض الفظاعة
في مقدمة كتابه الذي لم يكتمل، «شيوعية حبوب الهلوسة» (1)، فاجأ الراحل مارك فيشر – المعروف بعشقه لموسيقى ما بعد البانك، والجانغل، ومجموعة من موسيقيي البوب التجريبيين- أصدقاءه ومعجبيه على حدّ سواء بالكتابة على نحو إيجابي حول الثقافة المضادة التي سادت في الستينيات والسبعينيات.
كان فيشر في السابق ناقداً لاذعاً بشأن إرث الثقافة المضادة، فقد أعلن مثلاً ذات مرة على مدونته المعروفة بـ «كيه – بانك»، أن الـ «هيبيز» ظاهرة ذكورية تنتمي إلى «الطبقة الوسطى» يمكن تعريفها بـ «الطفولية المُتعيّة»(1). بالنسبة إليه فإن خاصية القذارة الهيبية: «الملابس المهلهلة، والمظهر الأشعث المهمل، والحديث الفاشي المضطرب تحت تأثير حبوب المخدر، كشفت ازدراءهم للحسيّة»(2)، بالنسبة لمارك فيشر لم تكن هناك جريمة أكبر. كان الـ «هيبيز»، كما لو أنهم محاصرون في سيناريو من صنعهم، سيناريو من نوع فيلم «غزو سارقي الأجساد»، كانوا مذنبين بالاستسلام بشكل سلبي ودون تفكير لمبدأ السعادة، و«ثمن هذه «السعادة» -المتمثلة بحالة من غياب التأثر لدى أناس جُوف مبتهجين ببلاهة (2) – كان التضحية بكل استقلالية»(3).
ما كان يهم فيشر فعلاً، أن حالة الخدر والانشداه التي يصل إليها الفرد بتحريض ذاتي – سواء بشكل كيميائي أو غير ذلك- تعني أن يقوم بعمل الرأسمالية بالنيابة عنها، كما لو كان مدفوعاً بـ «التكرار القهري» الفرويدي لينفذ، على نحو مصطنع، استيلاء الرأسمالية المعرفي من الداخل، كاشفاً أن لدى الكائن البشري «ميلاً ملحوظاً ليبحث عن ويتماهى مع الطفيليات التي تضعفه ولكنها لا تقضي عليه بشكل تام أبداً»(4).
بدلاً من ذلك، قدم فيشر مساراً آخر في مدونته «كيه – بانك» على وجه الخصوص. لم يتطلب هذا المسار البدائية السطحية المتمثلة في الاستحمام أقل والتدخين أكثر، كما أنه لم يكن مساراً شبيهاً بالاعتماد المفرط في العصر الجديد على التأكيدات الإيجابية ولكن الجوفاء. إذا أردنا أن نأخذ حلمنا الانتشائي في التحرر على محمل الجد، وإذا أردنا أن يكون له صلة معاصرة أياً كان شكلها، فعلينا أن ندرك أنه لا يمكن تحقيق أي شيء بالخروج من رؤوسنا عبر المخدرات. ليست هذه المسألة نقطة أخلاقية، بل إنها كانت نقطة سياسية بحت. كانت المسألة، عوض ذلك، «أن تخرج من خلال رأسك»، من خلال تطبيق «تفكير انتشائي»، «يؤثر تلقائياً في عقلك ويدخله في حالة من النشوة»(5).
قدم فيشر بديله هذا من خلال فلسفة القرن السابع عشر لباروخ سبينوزا، حيث يكمن هذا «التفكير الانتشائي» منتظراً، وعلى استعداد للكشف عنه. يكتب «سبينوزا هو أمير الفلاسفة (3). حقاً، الشخص الوحيد الذي تحتاجه»(6). قبل دولوز وجوتاري وفرويد ولاكان، كان سبينوزا هو من يحمل مفتاح طرد الشيطان الطفيلي للحداثة، الأنا الرأسمالية من عقل المرء. ويشير إلى أن سبينوزا اعتبر أن «تغيير العالم أهم من تفسيره» هو مبدأ مفروغ منه؛ «ما سيصبح في ما بعد المبدأ الأول لفكر ماركس». حاول سبينوزا القيام بذلك من خلال «بناء مشروع أخلاقي انعكاسي كان تحليلاً نفسياً فعّالاً قبل ثلاثمائة عام»(7). يواصل فيشر: «يرى علم النفس العامي (4) أن العواطف غامضة بشكل غير قابل للاختزال، وغير متمايزة ومضطربة للغاية بحيث لا يمكن تحليلها بعد مرحلة معينة». من ناحية أخرى، يؤكد سبينوزا أن السعادة هي مسألة هندسة عاطفية: علم دقيق يمكن تعلمه وممارسته… انسجاماً مع الحكمة الشعبية، فإن سبينوزا واضح في رأيه بأن ما يجلب الرفاهية لكيان ما، سوف [يكون] سمّاً للآخر. يقول سبينوزا إن الدافع الأول والأكثر أهمية لأي كيان هو إرادته على الاستمرار في وجوده بحد ذاته. عندما يبدأ كيان ما في التصرف ضد مصالحه الخاصة، لتدمير نفسه – للأسف كما اعتاد البشر أن يفعلوا، كما يلاحظ سبينوزا – فقد استولت عليه قوى خارجية. أن تكون حراً وسعيداً يستلزم طرد هؤلاء الغزاة والتصرف وفقاً للعقل(8).
بهذا المعنى، كانت صرخة فيشر المدوية في عالم المدونات هي القول إننا نمتلك بالفعل كل ما نحتاجه للهروب من حدود الواقعية الرأسمالية؛ من سترة الأيديولوجيا المقيدة التي تجعلنا ممتثلين وعديمي الخيال؛ الغزو الخارجي يقيد عقولنا وأجسادنا وإدراكنا الذاتي لوجودنا اليوم. قد تؤدي حبوب المخدرات مثل المهلوسات أو عقاقير النشوة إلى إرخاء قيود العقل إلى حد ما، لكنها تهمل الأجزاء الأخرى الوجودية الأكثر وضوحاً للذاتية البشرية (قدرتنا على التفكير، وقدرتنا السياسية على الفعل)، تاركة إياها تتعفن وتضمر. وبهذا المعنى، فإن مشكلة المخدرات، كما يحاجج فيشر، هي أنها «أشبه بعدّة هروب بدون دليل استخدام»(9). «إن استخدام عقاقير النشوة تشبه تحديثات ويندوز ميكروسوفت، بغض النظر عن مقدار الترقيع بالدولارات الذي يقوم به بيل غيتس، ستظل دائماً سيئة لأنها مبنية فوق بنية «دوس» المتهالكة»(10). المخدرات، إذن، كلها مؤقتة جداً، «استخدام حبوب النشوة سيخفق دائماً في النهاية لأن نظام التشغيل البشري لم يتم إخراجه وتفكيكه» (11). بقدر ما قد تكون هذه الحبوب ممتعة، فإنها على المدى الأبعد، وكما تقول الأغنية القديمة، «المخدرات لا تجدي، إنها تزيد الأمور سوءاً».
ومع ذلك، عندما « نهض الهيبيز من ضباب متعتهم الكسولة لتولي السلطة»، يتابع فيشر – متحدثاً عن الانتشار الجمالي والقوة الثقافية للثقافة المضادة التي لطالما تجاوزت الفائدة السياسية للحركة- «جلبوا معهم ازدراءهم للحسيّة» (5) (12). من الناحية الثقافية، فإنّ لهذه اللحظة ظلاً طويلاً. إثر هزيمة الإثارة الجديدة التي جاءت مع «ما بعد البانك» في النهاية، يربط فيشر ضراوة هذه «الحساسية المضادة للشهوانية» بدعاة الثقافة المضادة في التسعينيات(6) ، هؤلاء فنانون بريطانيون شباب جنباً إلى جنب مع القوة الصاعدة لبذاءة الـ Britpop «بريت بوب».
من الصعب إنكار انتشار المسار السلبي للثقافة المضادة عند تأطيرها على هذه الشاكلة. في حين أنه وللوهلة الأولى، يبدو أن في الأمر ما هو أكثر بقليل من الولع بالنظارات الشمسية المستديرة العسلية التي تربط بين جون لينون من الـ «بيتلز»، ووليام جالاجر من «أواسيس» على سبيل المثال، في الواقع إن الطريق المسدود لسلبية الثقافة المضادة – أو كما يعبر عنه فيشر: بأنه حساسية قول «يا رجل، كل شيء مرتبط بالعقل»- كان القوة الدافعة وراء أجواء أغاني مُتعوية الـ «بريت بوب»، بقدر ما كان الدافع لتجارب حبوب الهلوسة للبوهيميي الذي لا يغتسل(13).
يتضح هذا بمجرد أن نلقي نظرة على السذاجة المرتبطة بحبوب الهلوسة الموجودة في أغنيتي «لوسي في السماء مع الماس» لفرقة البيتلز (1967) و «شمبانيا سوبرنوفا» (1995) لفرقة أواسيس. بعد ثلاثين عاماً من البعد عن بعضهما في عالمين مختلفين (سياسياً)، فإن رابطة الكآبة السايكادلية Psychedelic، رغم كل شيء، تربطهما ببعضهما البعض. يمكن رؤية نفس التحول الهونتولوجي (7)hauntological والحزين في الاعتصام الأدائي الذي قام به جون لينون ويوكو أونو عام 1969 بعنوان «Bed-Ins for Peace»، يمكن رؤيته في الغطاء الوسخ الذي ظهر مرة أخرى في المكعب الجنائزي الذي عرض في «جاليري تيت» على شكل عمل فني للفنانة تريسي إمين بعنوان «سريري»(8).
هذا الاجترار السطحي لهموم الستينيات في ظل حزن رأسمالية التسعينيات يشبه انحطاط نهاية القرن في القرن الماضي؛ تشريحاً كابوسياً ومتخبطاً لحلم ميت منذ زمن طويل، وإن كان خالياً من أي وعي للذات ما قبل الحداثة. كانت موسيقى بريت بوب، بهذا المعنى، حقاً معرضاً للفظاعة، حيث موكب عرض أزياء من الأشباح النيوليبرالية والزومبي، يطارد النفس ويتعقبها.
النشوة المجردة للعقل تحت تأثير حبوب الهلوسة
من الإنصاف أن نقول إن لا شيء من هذه الفترة من أيام تدوين فيشر – والتي كانت فترة منتجة بشكل خاص في أغسطس 2004 – يمكن أن «يستخف به»؛ انتقاداته شائكة وغالباً ما تكون سلبية تماماً. فكيف تحول مارك فيشر هذا إلى فيشر «شيوعية حبوب الهلوسة»؟
على الرغم من هذا التقييم السلبي للثقافة المضادة، الذي بدأ من منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدا أن فيشر خفّف في ما بعد رأيه بشأن تلك الثقافة ككل. ومع ذلك، على الرغم من المظاهر، لم يكن هذا التحول كبيراً. وبدلاً من ذلك، أخذ فيشر على عاتقه تجاوز انتقاداته الشائكة والعمل على بناء مشروع سياسي إيجابي، وهو مشروع لا يزال يحمل في صميمه «تفكيره الإسبينوزي السايكادلي». يبدو أنه أثناء عملية بناء مثل هذا المشروع، بدأ فيشر في تقدير الإمكانات السياسية لأفضل ما لدى الثقافة المضادة لتقدمه ثقافياً وجمالياً، على الأقل في سياقها الاجتماعي السياسي الأصلي. لم تكن هذه الإمكانات متوافرة في التجريدات السريالية لحفل بينك فلويد البورجوازي، الذي أعيد استخدامه على نحو نوستالجي وبعيداً عن السياسة لهذا اليوم. بدلاً من ذلك، كان من الممكن العثور على هذه الإمكانيات صراحةً في المصنوعات الثقافية التي بنت جسوراً جديدة بين الوعي الطبقي والوعي السايكادلي، بين الوعي الطبقي ووعي الجماعة، ولكن تم خنقها أو التخلي عنها قبل أوانها (14).
على سبيل المثال، في مقدمة «شيوعية حبوب الهلوسة»، فإن ألبومي «عصرية مشمسة» لفرقة «كينكس»، و«أنا نائم فقط» لـ «بيتلز»، كانا البطلين، حيث تم إصدار كلاهما عام 1966، وكانا قادرين على فهم:
«الحلم القلق في شرك الحياة اليومية من منظور يطفو بجانبها أو فوقها أو بعدها، سواء كان ذلك المنظور الشارع المزدحم الذي يمكن رؤيته من النافذة العالية لنائم تأخر في الاستيقاظ، ويغدو سريره زورق تجديف متوقفًا بلطف؛ أو كان تراجع الضباب والصقيع في صباح يوم الإثنين عن ظهر يوم أحد مشمس لا حاجة إلى أن ينتهي؛ أو كان الحاجة إلى أعمال يتمّ ازدراؤها من كومة أرستقراطية متقلبة، يشغلها الآن حالمون من الطبقة العاملة لن يعودوا إلى توقيع دفتر الحضور للعمل مرة أخرى»(15).
كان في هذا الاستفزاز السياسي ما هو أكثر من حلم مستمع راديو بي بي سي 4 العادي في يوم أحد هادئ لا ينتهي أبداً. بشكل عام، كان فيشر مهتماً – مثلما كان دائماً مهتماً- بالطرق التي يمكن بها تهريب الرسائل السياسية الراديكالية إلى الوعي الجمعي من خلال الثقافة الشعبية. لقد كان مفتوناً أيضاً بالطرق التي يمكن لثقافة البوب من خلالها ليس فقط أن تغرينا بنشوتها المُعدية، ولكن أيضاً أن تدفع باحتواء الرأسمالية لمبدأ المتعة إلى شيء أعمق، شيء لا واعٍ تماماً، وأن تأتي به رغماً عنه، يركل ويصرخ، إلى السطح.
مع ذلك لا يزال هناك عدد من الأسئلة. والأهم من ذلك، سعى مارك إلى التساؤل أين ذهبت هذه الإمكانات ولماذا. كان من الواضح، كما قال لاحقاً، إن المؤسسة لا تخشى شيئاً أكثر من أن تصبح الطبقة العاملة من الهيبيز، لكن لماذا؟ ما هي الثقافة المضادة التي هددت المؤسسة لدرجة أن النظام النيوليبرالي المزدهر رأى أنه من الضروري تنفيذ استيلاء عنيف على وعي جمعي جديد؟ وهل لا يزال الظهور المتجدد لبعض هذه الإمكانات الفاشلة يهدد المؤسسة الرأسمالية الواقعية اليوم؟
هذه الأسئلة تشكل وجهة نظر السايكادلية والتي لا تزال بحاجة إلى تأكيد. بهذا المعنى، إنها الوظيفة الخاملة للسايكادلية، وليست الشكل الجمالي المألوف الذي يظل ذا صلة بنا في الوقت الراهن:
الطريقة التي تشير بها الكلمة (سايكادلية psychedelia) نفسها، بغض النظر عن كل ما فيها من ارتباطات جمالية، إلى تجسيد ما هو عميق داخل العقل، وليس فقط على سطحه. اقتران غير عادي للبادئة الإنجليزية الحديثة «psyche» (نفسي) والجذر اليوناني الأكثر وضوحاً «dēlos» -بمعنى «يبيّن» أو «يكشف»- المخدر هو الذي يكشف ما هو موجود في العقل، مردداً القول المأثور لماركس الإسبينوزي مرة أخرى، من أنه يجب ألا نكتفي بتفسير العالم بل أن نسعى بدلاً من ذلك إلى تغييره. هذا ليس لوضع التفسير والتظاهر على طرفي نقيض، ولكن يجب على الأول أن يسعى دائماً إلى أن يصبح الثاني.
هناك حاجة لثقافة حبوب الهلوسة (الثقافة السايكادلية) إذن، هذه ستعلم السياسة من جديد، لكنها قد لا تبدو كما نتوقعها. في الواقع، يجب أن نكون يقظين ضد أي شيء يبدو مألوفاً للغاية. حتى أننا قد نحاجج في أن الدلالات الجمالية للسايكادلية اليوم يجب رفضها تماماً. كما كتب فيشر ذات مرة عن السريالية، إحدى أوضح سوابق سايكادلية الثقافة المضادة: «مثل موسيقى البانك، فإن السريالية ماتت بمجرد اختزالها إلى أسلوب جمالي. وتظهر ميتة مرة أخرى عندما يتم إنشاء مثيل لها كبرنامج هذيان (تماماً كما يصبح البانك ميتاً عندما يتم تفعيله باعتباره شبكة عدوى بلا رأس مضادة للسلطة)»(16).
هذا هو السبب في ضرورة التعامل مع الثقافة المضادة بعناية. على الرغم من النظرة الرومانسية المعاصرة إليها، أو ربما بسببها، يبدو أنها كانت المرة الأخيرة التي اقتربت فيها ثورة ثقافية من إحداث ثورة سياسية. ومع ذلك، استمرت الثقافة في التطور بسرعة، لكن السياسة كانت بطيئة في اللحاق بالركب. ومع ذلك، لا يزال هناك الكثير مما يجب أن نتحمس له، على الرغم من حالة المؤسسة السياسية المعاصرة. كما يختتم فيشر مقدمة «شيوعية حبوب الهلوسة»: «بالطبع، نعلم أن الثورة لم تحدث. لكن الظروف المادية لمثل هذه الثورة موجودة في القرن الحادي والعشرين أكثر مما كانت عليه في عام 1977»(17). بدلاً من مجرد الاحتفال بإمكانيات الثقافة المضادة، كانت لدى فيشر أسئلة جادة لطرحها حول سبب فشلها، وكيف يمكن أن نتعلم من هذه الدروس اليوم. يكمل:
«ما تحول إلى ما هو أبعد من أي اعتراف منذ ذلك الحين كان الجو الوجودي والعاطفي. استسلم الناس لحزن العمل، حتى عندما قيل لهم إن الأتمتة تجعل وظائفهم تختفي. ينبغي أن نستعيد تفاؤل لحظة السبعينيات تلك، تماماً كما يجب أن نحلل بعناية جميع الآليات التي استخدمها رأس المال لتحويل الثقة إلى اكتئاب. إن فهم الكيفية التي تحدث بها عملية انكماش الوعي هذه هو الخطوة الأولى لعكسها»(18).
تنتهي المقدمة على حافة جرف، وهذه الدعوة لفهم عملية انكماش الوعي تتلاشى على ما يبدو بدون خريطة طريق. بعد وفاة فيشر في يناير 2017، كان الافتراض أن تفاصيل شيوعية حبوب الهلوسة ضاعت مع مؤلفها. ومع ذلك، لا يزال هناك الكثير من فتات الخبز في العالم ليأخذه القارئ الفضولي في الاعتبار. ربما يكون أفضل ما يمكن فعله هو تطبيق استراتيجية فيشر المعلنة على تفكيره هو نفسه: إن فهم كيفية ظهور مشروع شيوعية حبوب الهلوسة هو الخطوة الأولى لإعادة بنائها.
تتطلب مثل هذه الاستراتيجية تكهنات أقل بكثير مما قد يفترضه المرء في البداية. إلى جانب مجموعة متباينة من المقالات، تمتد على طول حياته المهنية ككاتب وناقد والتي تعكس العديد من الموضوعات والثيمات التي كان من المتوقع أن يستكشفها، هناك أيضاً بناء سلسلة محاضرات فيشر النهائية للدراسات العليا، «رغبة ما بعد الرأسمالية» الذي ابتكره للعام الدراسي 2016/2017 في جولدسميث، جامعة لندن.
منشورات تكوين
-
دار نشر تأسست عام 2017، مقرها الكويت والعراق، متخصصة في نشر الكتب الأدبية والفكرية تأليفاً وترجمة.
View all posts