في إجابة كَنْط عن سؤال ما هي الأنوار وتمييزه ضد المرأة 

-+=

شكلَّت فلسفة الأنوار حالة تمرد على العقل المُقيد بالميتافيزيقا والفكر الغيبي لمنعه من الإبداع وحرية التفكير. فلسفة لم تأتِ، بتمردها على الواقع وفكره وأيديولوجيته، من فراغ، كما تصورها بعض الدراسات وكأن أفكارها قد أُنتجت في عليَّاء أبراج عاجية، بل كانت مرتبطة بتطور الواقع وتناقضاته، أي مرتبطة بما يولد من أحشاء نمط الإنتاج وما بلغه، على امتداد تلك المرحلة التاريخية، من تطور وحاجته للتحرر من القيود التي تحد من حريته في استغلال الإنسان للإنسان كي يشرعن، أو لنقل بكلام آخر ” يُعقلّن “، الاستغلال باسم “العقل” و”التمرد” و”الأنوار” بمفهومهم المثالي الميتافيزيقي. كيف انعكس ذلك في إجابة إيمانويل كَنْط (1724- 1804) عن سؤال ما هي الأنوار؟ الذي طرحته مجلة “شهرية برلين” Berlinische Monatsschrift عام 1784 وكان السؤال يمثل محور نقاشات فلاسفة تلك المرحلة التاريخية. 

إنَّ أخذ إجابة كَنْط، بعجالة سريعة، عن سؤال ما هي الأنوار يعود إلى أنها مرتبطة بمشروعه الفلسفي النقدي الذي يمكن عنونته بأنه إخضاع العقل، بوصفه ملكة المعرفة، وأفكاره للنقد لتبيان حدوده وقدراته، ونقد العقل، في المشروع الكَنْطي، ليس نقداً لموضوعات المعرفة، بل هو نقد للعقل نفسه في بنيته وأحكامه. وبالتالي فإن إجابة كَنْط عن سؤال ما هي الأنوار كانت مؤَسِسة لطروحات عصر الأنوار والفلسفة الحديثة في السياسة والأخلاق والجمال. وقد وصف كارل ماركس فلسفة كَنْط بأنها كانت النظرية الألمانية للثورة الفرنسية.

” تجرأ على استعمال عقلك ” 

بين الشعار والتطبيق في الإجابة الكنطية

حرَّضَ كَنْط على “التمرد” ضد القيود ودعى للشجاعة في استعمال العقل ففي إجابته عن سؤال ما هي الأنوار قال إنها “خروج الإنسان من قصوره الذي هو مسؤول عنه. قصور يعني عجزه عن استعمال عقله دون إشراف الغير، قصور هو نفسه مسؤول عنه لأن سببه يكمن ليس في عيب في العقل، بل في الإفتقار الى القرار والشجاعة في استعماله دون إشراف الغير، تجرأ على استعمال عقلك أنت: ذاك هو شعار الأنوار”، (كنط، جواب عن السؤال: ما هي الأنوار، ترجمة حسين حرب، مجلة الفكر العربي، العدد 48، السنة الثامنة، معهد الإنماء العربي، بيروت، تشرين الأول/ أكتوبر 1987، ص. 129). يُكمل كَنْط ويقول إن الحرية هي “ان يستعمل المرء عقله علانية في جميع المجالات. لكنني أسمع الآن الصراخ من جميع الجهات: ”لا تفكر“! فالضابط يقول: لا تفكر بل نفذ! ورجل المال يقول: ”لا تفكر بل إدفع“! والكاهن يقول: ”لا تفكر بل آمن“! (ولا يوجد في العالم سوى سيد واحد يقول ”فكر قدر ما تشاء وحول كل ما تشاء، إنما أطِعْ“) في كل مكان حد للحرية”. (المرجع نفسه، ص. 130).

أكد كَنْط في دعوته “التمردية” أن لا قصور في العقل يمنعه من الخروج على ممَّا هو فيه، ولكن هل أكمل في طريق كسر القيود المكبلة للعقل؟ الإجابة كلا، فقد فرَقَ كَنْط ما بين استعمالَيْن للعقل وضعهما على طرفَي نقيض هما: الاستعمال العام لعقلنا ويعني فيه أنه “يجب أن يكون دائماً حراً، وهو وحده يمكنه أن يوصل الأنوار إلى الناس: بينما استعماله الخاص يمكن ان يحد بقسوة بالغة دون ان يمنع ذلك بشكل ملموس تقدم الأنوار”، وحدد كَنْط الاستعمال الخاص للعقل بأنه هو ذاك الاستعمال “الذي يحق للمرء أن يقوم به في مركز مدني أو وظيفة معينة أسندت إليه. والحال ثمة آلية ضرورية لعدة أعمال تؤمن الصالح العام تفرض على بعض أفراد الجماعة أن يتصرفوا فقط تصرفاً منفعلاً بمقتضى توجيه الحكم، بناء على إجماع مصطنع، نحو غايات عامة أو على الأقل بما يؤدي إلى منعهم من إفساد تلك الغايات. هنا ليس من المسموح إذن التفكير، والمطلوب الطاعة“. (المرجع نفسه والصفحة نفسها. تعليم “هنا ليس من المسموح إذن بالتفكير، والمطلوب الطاعة”، بالخط العريض من عندياتي).

النص الكَنْطي في تفريقه ما بين الاستعمالَيْن للعقل وتحديد حدود ما يجب على المرء القيام به وحدود التفكير المسموح به، واضح ومباشر، وبالتالي لسنا بحاجة إلى كبير عناء، لقول إن الحرية التي دعى إليها كَنْط، والتمرد على أيديولوجية الظلمات والصراخ الذي قال إنه يسمعه من جميع الجهات “لا تفكر”،  بالرغم ممَّا تحمله من نزعة “تقدمية” عارض فيها الظلم الإقطاعي، إلا أنه “ثار” على الواقع بصراخ في فضاءات الكلام والتنظير المنفصل عن أرض الواقع لتأبيده بأشكال مختلفة في الشكل متماثلة في المضمون، بما يعكس تأبيد أيديولوجية الاستغلال تحت شعار “العقل وحريته”، على أساس ما تريده سلطة الاستبداد من العقل. 

وعليه، نجد في إجابة كَنْط عن سؤال ما هي الأنوار، بربطها بنسقه الفلسفي النقدي، ما يمكن تسميته “بالحل الوسط” “حرية العقل” وتقييده، أي التأسيس الفلسفي للتناقض بينهما، ومن تجلياته مفهوم “الشيء في ذاته”، الذي هو ركن فلسفة كَنْط، “فالشيء في ذاته” ا يمكن معرفته، أنه متعال “ترسندنتالي”، والمعرفة بمفهومها الكَنْطي هي الظواهر لا “الشيء بذاته”، أي ليس معرفة خصائصها بما هي في ذاتها. وبالتالي فإن استعصاء معرفة “الشيء في ذاته” يحد من العقل ويحصره في إدراك الظواهر فقط، وبذلك فإن الحرية، بمفهومها الكَنْطي، لا يمكن تحقيقها على أرض الواقع بل في عالم الميتافيزيقا، الماورائيات، وهنا تبرز إحدى جوانب “الحل الوسط” الذي يطرح الحرية على قاعدة تبرير الاستغلال ومنع الثورة عليه، أي مفهوم التطور الذاتي للعقل المنفصل على الواقع وتناقضاته، أي مركزية الذات المفكرة القائمة على ديالكتيك الذات والموضوع المثالي، بما يمنع الثورة، المادية، عليه. 

تمييز كنط ضد المرأة

تفرض إجابة كَنْط عن سؤال ما هي الأنوار؟، إذا ذهبنا بمنطقها الصوري الداخلي إلى نهايته، الدعوة إلى تحرر المرأة من السلطة الفكرية المفروضة عليها، وأن تكون جنباً إلى جنب مع الرجل في النضال من أجل إنهاء الوصاية عليها، والقيود الميتافيزيقية على العقل لتحررها منهما، ولكن على النقيض من ذلك نقع في طروحات كَنْط على تمييز صارخ ضد المرأة وفرض تحديد قدراتها قسراً، بقرار استبدادي يعكس خلفية ذكورية بائدة، ومن تلك الأحكام الكَنْطية “أن المرأة لا ترتقي إلى الموضوعية وعاجزة عن تقديم التفكير المحض”، … ووصل به الأمر إلى حد “استثناء النساء من حقوقهن العقلية والسياسية لأنهن يخضعن للرجل”…. طروحات تمييزية وضعها كَنْط بشكل واضح، في “الأنثروبولوجيا من منظور براغماتي” وفي عدد من محاضراته ومؤلفاته.

 يُعيد كَنْط في طروحاته التمييزية المتخلفة ضد المرأة القائمة على أساس النوع الاجتماعي، عصر الظلمات بإسم فلسفة الأنوار، وليس في الأمر مفارقة أن لا نقع في طروحات كَنْط، على دعوة لتحرر المرأة من “الوصاية الفكرية”، فالإجابة الكَنْطية عن سؤال ما هي الأنوار، كما مرَّ معنا، لم تخرج على الأساس المادي للاستغلال والتمييز، بل أبدته بإسم الأنوار، وبذلك لم يخرج كَنْط على السلطة الذكورية السائدة، وأيديولوجيتها.

إنَّ ربط نقد طروحات كَنْط التمييزية ضد المرأة، كما نقد إجابته عن سؤال ما هي الأنوار، بالوقع الاجتماعي وتناقضاته الذي عاش فيه، نظام الحكم الملكي في ألمانيا، وتحمسه للثورة الفرنسية التي قامت عام 1789 حيث رأى فيها أملاً في أن يعمّ النظام الجمهوري وتسود الديمقراطية إلخ… من طروحاته، هدفه الرئيس إظهار المحجوب فيها، بقرار منهجي، أي الأساس المادي، بمعنى أنها مرتبطة بأساسها المادي، طبيعة علاقات الإنتاج التي كانت سائدة ومرحلة تطورها في تلك الحقبة التاريخية التي فرضت البحث عن خلفية فلسفية لكسر القيود أمام أشكال جديدة من الاستغلال والتمييز و” شرعنتهما ” باسم الأنوار وهي في ” ثوريتها ” تمجد الثروة والملكية الخاصة، لا تهدم علاقات الاستغلال لا بل تؤبدها. على هذا الأساس من التحديد فإن تغييب الأساس المادي للاستغلال والتمييز، يجعل من النقد، وإنْ كان بإسم العقل والحرية والمساواة والعدالة والأنوار… في موقع الخادم للاستغلال والمبرر له يعيد إنتاج أساسه المادي وأيديولوجيته، ويشوه الوعي، وهو ما يُعاد، في جزء منه، إنتاجه بالطروحات الليبرالية والنيوليبرالية الممجدة لطروحات كَنْط حول الحرية، وبالتحديد الحرية الفردية التي تعني في نهاية المطاف شرعنة حرية الاستغلال وليس الثورة عليه. من يشرعن الاستغلال موقعه في الهامش من يصنع التاريخ من دونه، والمتن في معركة صناعة التاريخ لحفاري قبر الرأسمالية، الطبقة العاملة، بجميع فئاتها، التي تخوض الصراع الطبقي موحدة ضد النظام الرأسمالي، على جميع المستويات، لكسر، الأساس المادي للاستغلال والتمييز وسلب قوة العمل، وعلاقات التبعية، والحروب. صراع تخوضه الطبقة العاملة، في جميع جهات الكرة الأرضية تجمع فيه، بخلفيتها النظرية المادية الثورية، النضال التحرري الوطني الديمقراطي مع مقاومة المشاريع الإمبريالية التوسعية والاحتلال، ضد ظلامية النظام الرأسمالي العالمي الإمبريالي وحروبه الوحشية.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

رغبة ما بعد الرأسمالية… المحاضرات الأخيرة لمارك فيشر

يضمّ هذا الكتاب تلك المحاضرات الأخيرة، التي بدأها فيشر بالتساؤل حول معنى “ما بعد الرأسمالية”، واستمر بتتبع العلاقةِ بين الرغبة والرأسمالية، متوقفاً عند فرويد وماركوزه ولوكاتش وليوتار. نسمع صوت فيشر يائساً تارةً، وباحثاً عن الأملِ تارة، يستعيد إرث الثقافة المضادة من السبعينيات، ويفكّر في شبحِ عالمٍ كان يُمكن أن يكون حراً.