
غسان كنفاني في الذكرى الـ 53 لاستشهاده.. الفكرة والمشروع والوعي المضاد
كنفاني لم ينتج فكراً يخص جزءاً من الشعب الفلسطيني أو العربي أو يخص بعض مكوناته، بل كانت أفكاراً لكل الفلسطينيين ولكل الأحرار في العالم
الآن وبعد أكثر من خمسة عقود من اغتياله على يد طغمة مايو العسكرية 1969- 1985 ما زلنا نعاود قراءة إسهامات عبد الخالق محجوب (22 سبتمبر 1927- 28 يوليو 1971) الفكرية ونتأمل مواقفه السياسية. إنها قراءات مستفيضة تارة وقاصرة في كثير من الأحايين لبزوغ نجم أنار الدجى باشتعاله كالنيزك لكنه وصل الأرض صريعاً. لن نستغرق في توصيف الظاهرة انشائياً بل سندلف إلى تاريخ نشأة الظاهرة وصعودها في سماء حقل الصراع الاجتماعي في قلب أفريقيا والمنطقة العربية…. إن العصر الذي أنجب قيادات حركات التحرر العربية والأفريقية والآسيوية هو عصر المواجهة المباشرة مع الاستعمار.
لقد تسلحت فيه قوى المقاومة الوطنية في آسيا وأفريقيا بالماركسية كفلسفة كشف روادها زيف المجتمع الرأسمالي ونفاقه مثبتين فيه بالدليل العلمي قبح جوهر استغلال الإنسان لأخيه الإنسان الذي هو السمة الرئيسة والصارخة لطبيعة النظام الكولونيالي. سنجد كلمة الاستعمار حاضرة بقوة في جميع الإسهامات النظرية للشهيد عبد الخالق محجوب، ففي “الماركسية وقضايا الثورة السودانية”… إن قضية الوجود الإسرائيلي كحصان طروادة خطر حقيقي لضرب الثورة العربية التحررية من الداخل… فمنذ تقسيم فلسطين وقيام “دولة إسرائيل” صارت هذه القاعدة الاستعمارية سلاحاً بيد الاستعمار. فلقد استخدمت عام ١٩٤٨لوقف المد الثوري الذي أعقب الحرب العالمية الثانية واستخدمت عام ١٩٥٦ لضرب مصر بعد تأميم قناة السويس واستخدمت عام ١٩٦٧ بعد فشل الردة الرجعية السياسية لوقف التغيير الاجتماعي. وبهذا يتجلى تماماً الدور الذي تلعبه نيابة عن الاستعمار القديم والحديث كأداة للثورة المضادة في المنطقة. (الماركسية وقضايا الثورة السودانية -الجزء الأول -الباب الثاني).
من الفقرة السابقة يتضح وضوح الرؤية على الصعيد النظري حيال تكتيكات كولونيالية القرن العشرين ذات القدرة الهائلة على التجدد المستمر فالكيان الصهيوني لم يكن إلا رأس الرمح في عرقلة أي مشروع نهضوي في العالم الثالث وهكذا يستدام التفوق العلمي والتقني والحضاري للنصف الشمالي من الأرض… غير أن الاستخدام الممنهج للحركة الصهيونية كعامل تثبيط لنهضة المجتمعات العربية لا يجب أن يجعلنا نغض النظر عن التناقضات الداخلية في بنية المجتمع الصهيوني والتقسيم الطبقي الحاد داخل بنية المجتمعات اليهودية في أوروبا القرن التاسع عشر وهذا ما خطه الراحل عبد الخالق محجوب في وثيقة “الماركسية وقضايا الثورة السودانية” في العام ١٩٦٧. “إن مشكلة اليهود لم تنشأ في فلسطين ولا في العالم العربي ولكنها نشأت في أوروبا مع نشأة الرأسمالية ولقد نشأت الدعوة اليهودية على أساس التزاوج بين النعرة الدينية والمصالح الاقتصادية للبرجوازية اليهودية كرد فعل للحركة المعادية للسامية التي انتشرت في أوروبا في بداية القرن العشرين. فالمجتمعات المغلقة المعروفة باسم غيتو كانت مصدر عمل رخيص بالنسبة للطبقة البرجوازية اليهودية من أرباب المال والصناعة”. وإذا كان الموقف المعادي للاستعمار نظرياً ورد في معظم الأدبيات الباكرة التي صاحبت النشأة والتأسيس في أربعينيات القرن المنصرم فإن الصعيد السياسي كان صارخاً وحاداً في وضوحه كما هي مواقف الثوريين دائماً، فالجبهة المعادية للاستعمار كانت الاسم الأول الذي اختاره المناضلون الأوائل لأول تنظيم ثوري ينادي بالاستقلال للشعوب الضعيفة من نير الاستعمار ووكلاء الاستعمار المحليين. ويذكر التاريخ انه في أوج الهجمة اليمينية الشرسة على الحزب الشيوعي السوداني وارتفاع نبرة التكفير أصدر الشهيد عبد الخالق محجوب مقاله الشهير “كيف أصبحت شيوعياً” الذي كشف فيه بلا مواربة لماذا اختار الماركسية منهجاً علمياً لمواجهة قوى الاستعمار الخارجي ووكلائه المحليين. يحدثنا عبد الخالق كيف تأكد له ان الزعامات الدينية والعشائرية لم تكن تملك نظرية سياسية لمجابهة الاستعمار. “في نهاية الحرب العالمية الثانية عندما دب الوعي الوطني في أرجاء بلادنا انتظمت كغيري من الطلبة المتحمسين في غمار هذه الحركة (الحركة الوطنية) يحدوني أمل… هو المساهمة في تخليص بلادي من النير الاستعماري”. غير انه أصيب بخيبة أمل من تلك القيادات التي لم تمتلك أي نظرية سياسية تمكنها من التحرر من المستعمر أولاً، وتخلص شعوبها من ثالوث الجوع والجهل والمرض ثانياً. غير أن امتلاك أداة نظرية ضخمة كالماركسية لم يكن لينفي وعورة مهمة مجابهة الواقع في مجتمع قبلي رعوي طغت الأمية على أكثر من ثلثي من سكانه وهي مجتمعات شكلت الخرافات والأساطير جزءاً غير يسير من مخيلتها الشعبية ووعيها الجمعي…. لذا كان التصادم حاداً ومدوياً فمصالح الإقطاعيات العشائرية مع تشكيلات الأفندية الناشئة والتي اتخذت من الرأسمالية الطفيلية طريقاً قصيراً للثراء على المستوى الاقتصادي وهيمنت وتغولت على الخدمة المدنية. كما نجح المستعمر في خلق نخب عسكرتاريا تدين له بالولاء وتمنع حدوث أي تحول مدني ديمقراطي يمكن الجماهير من نيل مكتسبات ديمقراطية تعينها على العيش بكرامة.
وسط هذا المشهد المعقد واللحظة التاريخية المشحونة على جميع الأصعدة نشأ الحزب الشيوعي السوداني بقيادة سكرتيره العام عبد الخالق محجوب. إن مخاطبة مجتمعات حددت مصادر معرفتها وقلمت على مدى أربعة عشر قرناً لا يعني إلا الموت وأبواب الجحيم مشرعة وهو جحيم صنع محلياً وبأيادي من يقتسمون معنا الوطن لمصلحة نخب أدمنت المشي على أشلاء وجماجم ضحاياها.
كنفاني لم ينتج فكراً يخص جزءاً من الشعب الفلسطيني أو العربي أو يخص بعض مكوناته، بل كانت أفكاراً لكل الفلسطينيين ولكل الأحرار في العالم
حكاية أبطال ساروا في درب الجلجلة، المقاومة، ضد المشروع الصهيوني، هو درب ستبقى جذوره راسخة جيلاً بعد جيل إلى تحرير فلسطين، كاملة، من الاحتلال الصهيوني، وليد الاحتلال البريطاني ورأس حربة الإمبريالية الأميركية ومشاريعها التوسعية في منطقتنا العربية.
تمر في الثالث من يونيو هذا العام الذكرى الثانية والستين لوفاة الشاعر والمناضل الشيوعي الكبير ناظم حكمت (١٩٠٢- ١٩٦٣) الذي توفي إثر نوبة قلبية في
ثلاثون عاماً على رحيل صوت أغنية الناس وآلامهم وآمالهم، صوت الأغنية السياسية الوطنية الملتزمة قضية الوطن، والعمال والفلاحين والمثقفين الثوريين، الملتزمة قضية فلسطين