“أثبت الشعب من خلال الوحدة والتلاحم اللذين أظهرهما خلال الأيام الـ 12 الماضية أنه يقف بثبات إلى جانب وطنه”.
(الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان)
عندما يتعرض الوطن للخطر والعدوان، من الطبيعي أن يقف الشعب موقفاً صلباً في الملمات. وهذا ما أكده الإيرانيون مجدداً بوقفتهم الحاسمة رغم الوجع والألم الذي يحملونه في ضلوعهم. في خاتمة كتابه “إيران الثورة الخفية”، يصل المؤلف تييرّي كوفيل، إلى خلاصات أكد فيها أن النظام الإيراني أثبت “أنه أصلبُ مما كان يتوقع عدد من معارضيه. فقد اجتاز الاضطرابات الثورية والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة والحرب ضد العراق وأزمات شتّى مع المجتمع الدولي. إن هذه الصلابة، هذه الممانعة، تفسران بقدرةٍ على استعمال حوافز أخرى غير الشرعية الدينية: القومية، خصوصاً. لكن هذه المقاومة للاضطرابات الداخلية والخارجية تُفسر بعوامل أخرى”.
مسألة “القومية” التي تحدث عنها كوفيل، شكلت حصناً منيعاً داخلياً في مواجهة العدوان الأخير الذي بدأ يوم الثالث عشر من يونيو 2025 واستمر لإثنى عشر يوماً، أكد فيها الشعب الإيراني على وطنيته واعتزازه بقوميته رغم الصعوبات الكبيرة التي يعاني منها بسبب الحصار المستمر منذ 46 عاماً من عمر الثورة التي قادها الإمام الخميني وأسقطت الديكتاتور شاه إيران محمد رضا بهلوي. فبالإضافة إلى الوضع الاقتصادي المأزوم وما قاده إلى تدهور الوضع المعيشي، تواجه إيران في الداخل مشكلة التعددية السياسية وطريقة فهم النظام القائم لهذه التعددية ومدى تقبل المكونات الإثنية والعرقية والسياسية لهذا المفهوم الملتبس الذي أدى إلى احتجاجات في شوارع المدن في السنوات الماضية، مرة بسبب سوء الأوضاع المعيشية، وثانية بسبب غياب الديمقراطية، وأخرى بسبب طريقة التعاطي مع اللباس الإسلامي وتفجر الأحداث إثر مقتل الشابة مهسا أميني بعد اعتقالها من قبل “شرطة الإرشاد” الدينية على خلفية طريقة ارتدائها الحجاب.
تدهور الاقتصاد
أجلَّ الإيرانيون خلافاتهم الداخلية وواجهوا العدوان رغم خلافات الكثير منهم مع النظام وحللوا الموقف بشكل صحيح عندما اعتبروا خلافهم مع النظام خلافاً ثانوياً أمام الخلاف الرئيسي المتمثل في العدوان. إن إطلالة سريعة على الواقع الداخلي قد تسهم في فهم الوضع الإيراني وتجلياته.
يبلغ عدد سكان إيران قرابة 90 مليون نسمة، وهي دولة تتمتع بموقع جغرافي مهم وتقع بين تركيا والعراق من الغرب، وأفغانستان وباكستان من الشرق، ويحدها الخليج العربي وخليج عمان من الجنوب وأرمينيا وأذربيجان وبحر قزوين وتركمانستان في الشمال، وتبلغ مساحتها أكثر من 1.6 مليون كيلومتر مربع. يعتمد الاقتصاد الإيراني على النفط الذي تنتج منه 3.23 مليون برميل يومياً رغم العقوبات المفروضة على البلاد، ما يضع إيران في المرتبة الثالثة في منظمة أوبك.
خلال العقود الماضية من الحصار الأميركي والغربي على إيران، تعرضت القطاعات الاقتصادية إلى انكماش ملحوظ، بما فيها الزراعة التي تراجعت في توظيف العمالة المحلية إلى أقل من 14 بالمئة في 2024 مقابل 26.8 بالمئة عام 2005 من إجمالي التوظيف، حيث انخفض بمقدار 1.5 مليون عامل، بينما حصد قطاع الخدمات نصيب الأسد باستحواذه على 52.7 بالمئة وقطاع الصناعة على 33.3 بالمئة. وقد حذر خبراء اقتصاديون إيرانيون من استمرار الانكماش حتى نهاية العام الجاري، فيما يشهد التضخم ارتفاعاً ليصل إلى أكثر من 40 بالمئة، ما يسرع من تآكل سعر صرف العملة الوطنية (الريال) التي تعاني من ضغوطات متعددة المستويات.
أما البطالة وفق الاحصاءات الرسمية الصادرة عن مركز الإحصاء الإيراني ونشرها موقع ميدل ايست نيوز فقد بلغت في 2024 معدلاً يصل إلى 7.2 بالمئة متراجعة بشكل طفيف عن العام الذي سبقه، كما انخفض معدل البطالة بين الإيرانيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عاماً من 14.8% في صيف عام 2024 إلى 14.3% في نهاية فصل الخريف.
وحول مسألة استقرار العمالة وواقعها، فحسب الإحصاءات الرسمية للضمان الاجتماعي، فإن قرابة 60% من العاملين في إيران لا يتمتعون بأي تغطية تأمينية، وإن أكثر من نصف سوق العمل الإيراني يعمل خارج الأطر القانونية والرسمية. في هذا السياق يبرز شبح البطالة والفقر، ما انعكس على تراجع القدرة الشرائية للمواطن الإيراني وتآكل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، والبالغ 4,700 دولاراً أميركياً في 2024 متراجعاً بنسبة 28 ٪ عن العام 2023.
لا شك أنها صعوبات كبيرة أسهم فيها مباشرة الحصار الخانق الذي امتد إلى كل القطاعات بما فيها أموال إيران المستحقة التي تم تجميدها بقرارات أميركية وغربية، حيث قدرت مؤسسة خدمة أبحاث الكونغرس الأميركي في تقرير عام 2020 أن قيمة الأموال الإيرانية المجمدة في الخارج من أرصدة نقدية وعقارات تتراوح ما بين 100 مليار- 120 مليار دولار. هذا يعني أن طهران تواجه تحديات كبيرة في تجاوز هذه المصاعب في ظل أوضاع داخلية وإقليمية غير مستقرة.
إن العداء الأميركي لإيران ليس جديداً، فهو يمتد منذ انتصار الثورة عام 1979، وقد عبر عن ذلك جفري كمب، الذي كان يشغل منصب مدير مشروع ضبط التسلح بمنطقة الشرق الأوسط التابع لمؤسسة كارينغي وعمل في إدارة الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان وصاحب كتاب “أعداء إلى الأبد!: السياسة الأميركية والجمهورية الاسلامية الايرانية”. يشير كمب إلى أنه “لابد من تركيز جهود الاستخبارات على إيران. فإذا ما احرزت إيران تقدماً يتحتم على الغرب تشديد قبضته على مراقبة الصادرات، وتوقيع العقوبات ضد الدول أو الأفراد المتواطئين في عملية الانتشار هذه، ثم الإيعاز إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بإجراء المزيد من عمليات التفتيش الميداني للمنشآت الإيرانية المشكوك فيها”. كتب جفري كمب هذا الكلام قبل ثلاثين عاماً تحت عنوان “انعكاسات السياسة الخارجية الإيرانية على الأمن الإقليمي: المنظور الخارجي”. لا ينسى كمب، التأكيد على ربط أي علاقة مع إيران بسياستها تجاه الكيان الصهيوني، وهي العلاقة العدائية التي تفصح إيران عنها وترجمت في العدوان الصهيوني الأخير وأهدافه المعلنة وغير المعلنة. واليوم تتعرض الوكالة الدولية للطاقة إلى امتحان عسير بعد أن قدم مديرها “غروسي” تقريراً معطوباً عبّد الطريق للعدوان على إيران، وطالب بالكشف عن اليورانيوم المخصب الذي لم تصله قنابل الأمريكان والصهاينة.
مآلات العدوان
افترض كل من دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو أن العدوان على إيران سوف يقود الأخيرة للاستسلام، لكن الحقيقة أن طهران تمكنت من استيعاب الضربات الأولى الموجعة وردت بضربات لم تتلقاها الدولة العبرية منذ قيامها، ما أثار ذعراً حقيقياً بين الصهاينة وفرض عليهم البقاء في الملاجئ المحصنة والتزاحم على مغادرة الكيان نحو قبرص والدول الأوروبية، ما يثير مشكلة الهجرة من الكيان بسبب انعدام الأمن والاستقرار. يحدث هذا بالتزامن مع ضغوطات ترامب على الداخل الصهيوني بإيقاف محاكمة نتنياهو أو إصدار عفو عنه، لإنهاء المطاردة القانونية التي دامت خمس سنوات حتى الآن. يرغب الثنائي، ترامب – نتنياهو حصد نتائج العدوان الذي يدعيان أنه أتى أُكله، بينما تؤكد طهران على أنه ورغم الخسائر الكبيرة في الأرواح التي بلغت 627 قتيلاً وآلاف الجرحى، وفقدانها لقادة عسكريين ومدنيين وعلماء، لكنها ترى في النتائج نصراً لها حيث فشل العدوان في شطب البرنامج النووي كما فشل في إنهاء البرنامج الصاروخي ولم يتمكن العدوان من إثارة الداخل الإيراني ومن اسقاط النظام.
والتحدي الذي يواجه طهران اليوم يتمحور في كيفية التعاطي مع التطورات التي سبقت وأعقبت العدوان، وأهمها الاختراقات الأمنية التي كادت أن تحدث فرقاً كبيراً، وفي التعاطي مع الداخل الإيراني الذي أكد مجدداً الانتماء لبلده ووقف بشجاعة ضد العدوان بغض النظر عن الموقف من النظام القائم، فالوطن أكبر وأعظم من الجميع، وهي فرصة سانحة لإعادة ترتيب البيت الداخلي بما يعزز الوحدة وخلق التلاحم المطلوب لمحاصرة الأعداء.
وعلى الصعيد الإقليمي، فإن الشرخ الذي حدث بسبب استهداف قاعدة “العديد” ورغم احتوائه بذكاء من قبل الدوحة وطهران، إلا أنه يشكل عنصر توتر يمكن للصهاينة والأمريكان الدخول منه لضرب إسفين في العلاقات الإيرانية – الخليجية، وهو الأمر الذي ينبغي معالجته بحكمة من خلال الحوار بين ضفتي الخليج وإبعاد أعداء الأمة عن التدخل في شؤون منطقة الخليج التي تواجه قنابل موقوتة لتفجير الأوضاع داخلها وابتزازها على الطريقة الترامبية.