“موجز تاريخ الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني”

-+=

صدر عن منشورات تكوين كتاب “موجز تاريخ الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني” تأليف إيلان بابيه، ترجمة شهد عباس، والكلمة التقديمية للكتاب بقلم آفي شلايم.

كلمة تقديمية للكتاب

يصعب إيجاد شخص يتمتع بكفاءة معرفية وإلمام أعمق من البروفيسور إيلان پاپيه، في تقديم شرح وافٍ عن الصِّراع الإسرائيلي – الفلسطيني لعموم القرَّاء. فهو يُعدُّ أبرز الباحثين في هذا المجال، إذْ ألَّف ما يزيد عن اثني عشر كتاباً، يأتي في مقدِّمتها كتابه الأشهر، والأكثر مبيعًا، «التَّطهير العِرقي في فلسطين»، بالإضافة إلى أحدث مؤلَّفاته «الضَّغط لمصلحةِ الصهيونية على جانبي الأطلسي». يختزل پاپيه، في عمله الأخير، حصيلةَ عقودٍ من البحث والتأمل، في سَرد واضح ومقنِع، وسهل القراءة، ممَّا يجعله مرجعاً شاملاً ومفصلاً لأحد أكثر الصراعات المعاصرة تعقيداً واستعصاءً على الحل.

أرغبُ، في مستهلِّ هذه المقدمة، بإطلاعكم على العلاقة الشخصية التي تجمعني مع إيلان پاپيه، فهو أحد أقدم وأعزِّ أصدقائي. التقيتُهُ أوَّلَ مرَّةً في عام ١٩٨٤، عندما كنت الممتحِن الخارجي لأطروحة الدكتوراه التي قدمها في جامعة أكسفورد تحت عنوان «بريطانيا والصراع العربي – الإسرائيلي،  ١٩٤٨-١٩٥١». لقد نسفت أطروحته المفاهيم السَّائدة حول هذا الموضوع، إذْ تصدَّت للرواية التقليدية التي روَّج لها القادة الصهاينة آنذاك، وتبنَّاها لاحقًا المؤرِّخون الصهاينة. فقد صوَّر هؤلاء السياسةَ البريطانية على أنها معادية تماماً لليشوڤ (Yishuv)، المجتمع اليهودي في فلسطين قبل قيام الدولة. وكان الاتهام الرئيس الموجَّه لبريطانيا أنها سلَّحت وشجَّعت حلفاءها العرب على غزو فلسطين عند انتهاء الانتداب، في محاولةٍ منها لخنْق الدولة اليهودية الوليدة منذ لحظتها الأولى.

تمكَّن إيلان پاپيه، استناداً إلى مصادر الأرشيف البريطاني، من تفنيد التصوير الصهيوني التقليدي للأحداث. فقد أوضح أن بريطانيا، رغم تبنّيها لفكرة إقامة دولة يهودية في فلسطين، قد ارتأت أنه من الممكن للملك عبد الله، أمير شرق الأردن آنذاك، أن يكون شريكاً ملائماً في مواجهة التعقيدات السياسية التي شهدتها تلك المرحلة، ولا سيّما في ما يتعلق بالخلاف مع المفتي الحاج أمين الحسيني، الذي كان يُعدّ من أبرز قادة الحركة الوطنية الفلسطينية. ووفقاً لما أورده پاپيه، فإن السياسة البريطانية في تلك المرحلة انطوت على تصور لتوسيع نفوذ الإمارة. ويحمل الاستنتاجُ، الذي يخلُص إليه پاپيه، قدراً كبيرًا من الإقناع: لا يمكن اعتبار بريطانيا في تلك الفترة قوة سعتْ إلى إحباط قيام الدولة اليهودية، بل على العكس، يمكن القول إنها ساهمت في إجهاض نشوء دولة فلسطينية. لقد شكَّلت هذه الأطروحة نقطة تحوُّل مهمة في مسيرتي كباحث في الصِّراع العربي – الإسرائيلي، وأود أن أغتنمَ هذه الفرصة كي أعربَ عن خالص امتناني لإيلان پاپيه.

في عام ١٩٨٨، نُشرت نسخةٌ منقَّحة من أطروحة پاپيه الرائدة تلك في كتاب، وهو العام نفسه الذي أصدر فيه بيني موريس كتابه «ولادة مشكلة اللَّاجئين الفلسطينيين، ١٩٤٧-١٩٤٩»، كما نشرتُ كتابي الذي مُنِع في الأردن، وسرعان ما أصبحنا نُعرف جماعياً باسم «المؤرخين الإسرائيليين التنقيحيين» أو «المؤرخين الجُدُد». من خلال أبحاثنا، تحدّينا الخرافات والأساطير الراسخة التي أحاطت بقيام إسرائيل وحرب ١٩٤٨، وكشفنا زيف السرديات التقليدية التي هيمنت على تشكيل الوعي التاريخي الرسمي.

واصل إيلان پاپيه، منذ العام ١٩٨٨، تأليفَ العديد من الكتب التي تناولت مختلف مراحل الصِّراع الإسرائيلي – الفلسطيني، حيث ركَّزت بعضُ مؤلَّفاته على الفترة التي سبقت العام ١٩٤٨، بينما انصبَّت معظمها على دراسة الأحداث التي تلت ذلك العام المفصليَّ. وقد قدَّم پاپيه، من خلال مؤلفاته المتعددة ومقالاته الواسعة التي يصعبُ أن تُحصى، نقداً لاذعاً للسُّلوك الصهيوني في الصراع مع الفلسطينيين، مستنداً إلى الأدلَّة المتاحة من الوثائق والشَّهادات، دون أي تهاون أو مواربةٍ، متحدِّياً أي رواية لا تصمد أمام التمحيص التاريخي. لكن پاپيه ليس مجرد مؤرخ للأحداث، بل هو مؤرخ ناقد بكلِّ ما تحمله الكلمة من مَعنى. وكما أشار المؤرخ البريطاني البارز إدوارد هاليت كار، فإنَّ «المهمَّة الأساسية للمؤرخ ليست مجرد تدوين الأحداث، بل تقييمها». هذا بالضبط ما يفعله پاپيه باستمرار في جميع أعماله، إذْ لا يقتصر جهده على تسجيل الوقائع، بل يسعى إلى تحليلها بعمق، واضعاً إيَّاها في سياقها الأوسع، ومقدِّماً رؤية نقدية لما تعنيه هذه الأحداث في سياق الصِّراع الممتد على فلسطين.

إيلان پاپيه ليس مجرد باحث، بل هو أيضاً ناشط سياسي مؤيد للقضية الفلسطينية. يُعدُّ من أبرز المعارضين السياسيين الإسرائيليين الذين يعيشون في المنفى، بعد أن انتقل من جامعة حيفا إلى جامعة إكستر في إنكلترا. وهو من بين قلَّة قليلةٍ من الباحثين الإسرائيليين المتخصصين في الصِّراع، والذين يكتبون عن الجانب الفلسطيني برؤية قائمة على معرفة دقيقة وتعاطف حقيقي، والأهم من ذلك، استناداً إلى مصادر عربية.

في هذا الكتاب، كما في جميع أعماله الأخرى، يُخضع إيلان پاپيه الصهيونيةَ لتحليل نقديٍّ صارم. فهو يرى أنها لم تكن حركةَ تحرُّر وطني لليهود، بل مشروعاً استعمارياً استيطانياً فُرض على الفلسطينيين بالقوة؛ وبدعم من القِوى الغربية. وانطلاقاً من هذا الفهم، يخلُص پاپيه إلى أن شرعية دولة إسرائيل ليستْ قائمة حتى ضمن حدودها الأصلية، فضلاً عن تلك التي توسَّعت إليها بعد عام ١٩٦٧. باختصار، فإنَّ تأسيس إسرائيل ارتبطَ بظلم جسيمٍ وقع على الفلسطينيين. ومن أجل تصحيح هذا الظلم، يدعو پاپيه إلى بديل سلمي، وإنساني، واشتراكي للفكرة الصهيونية، يتمثل في إقامة دولة ثنائية القومية، تُضمن فيها حقوقٌ متساوية لجميع مواطنيها، بغضِّ النظر عن الدين أو العِرق.

لقد أُلِّف هذا الكتاب في ظلِّ الأحداث الدامية التي شهدتها غزة، والتي اندلعت عقب الهجوم الذي شنَّتهُ حماس في السابع من أكتوبر عام ٢٠٢٣. ويُخْتَتَم الكتاب بفصلٍ يتناول هجوم ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ في سياقه التاريخي والأخلاقي، مُشدِّداً على أنه لم يحدث في فراغ، بل جاء كردِّ فعلٍ على قَرن من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الذي حظيَ بدعم من الإمبريالية الغربية. ووفقاً لمنطق الاستعمار الاستيطاني، فإنَّ الهدف النهائي منه إزالةُ السكانِ الأصليينَ، وهي الفكرة التي أكَّدها نعوم تشومسكي، الذي شارك پاپيه في تأليف كتاب عن غزة، عندما وصفَ الاستعمار الاستيطاني بأنه «أكثر أشكال الإمبريالية تطرُّفاً ووحشيةً». من هذا المنطلق، فإنَّ الهجوم الإسرائيلي المدمِّر على غزة لا يُعدُّ حدثاً معزولاً، بل هو امتداد واستمرارية لسياسة تطهيرٍ عِرقي ممنهجةٍ. ويرى پاپيه، في حالة غزة تحديداً، أن إسرائيل لم تكتفِ بالتطهير العِرقي فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، التي تُعْتَبر أبشع الجرائم على الإطلاق. وكما تقول الحكمة العربية: «ما بدأ أعوجَ، يظل أعوجَ».

آڤي شلايم 

مكتبة تكوين

Author

  • منشورات تكوين

    دار نشر تأسست عام 2017، مقرها الكويت والعراق، متخصصة في نشر الكتب الأدبية والفكرية تأليفاً وترجمة.

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

في إعادة إنتاج “الفكر العدمي” .. عناوين نقديَّة أوليَّة

يتركز الهجوم على النظرية الماركسية – اللينينية، تحت مسميات تيارات عديدة، منها ما ذكرناه أعلاه وغيرها من التيارات البرجوازية، هو في أسه سعي، محموم، لنزع عصبها، الصراع الطبقي، محرِّك التاريخ، لنفيه كون حامله، الطبقة العاملة، حفَّارة قبر النظام الرأسمالي.

“كُفِّي الملام”.. تراجيديا نموذجيّة مؤلمة

رغم المعاناة الشديدة، ورغم الخسارات الكثيرة، والعسف، ومرارة العزلة، إلا أنَّ فهد العسكر لم يتراجع عن مواقفه، بل بقي متمسِّكاً بها حتَّى النهاية، واستمرّ الأذى باللحاق به حتَّى النهاية