شكّل طوفان الأقصى مَفصلاً في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، ومنعطفاً هاماً في النضال الوطني والقومي والأممي، إذ كشف الحدث العظيم الكثير من الحقائق وأسقط العديد من أوراق التوت عن مواقف أغلب عناصر النظام الرسمي العربي والدولي.
فَعَل الطوفان فِعلته على كافة المستويات، وحفر عميقاً في الذاكرة. ذاكرة الأنظمة التي تهاونت وتواطأت وتآمرت مع العدو. وذاكرة الشعوب العربية وشعوب العالم الحرة التي انتفضت ونفضت غبار التدجين عن أكتافها ووقفت في الجانب الصحيح من التاريخ.. مع شعب فلسطين في نضاله المشروع بكافة الوسائل من أجل تحرير أرضه وإقامة دولته المستقلة على كامل التراب الوطني وعاصمتها القدس. لقد سقطت السردية الصهيونية القائمة على “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، لتستعيد السردية الفلسطينية بريقها وتكتب اليوم بالدم وبقوافل الشهداء وبالصمود الأسطوري لأهالي غزة والضفة الغربية والقدس، سردية تؤكد أن فلسطين لأهلها شعب فلسطين وليس لأي من المستوطنين حق فيها، وهم القادمون من شتى أصقاع الدنيا ليستولوا على منازل وأراضي ومزارع الفلسطينيين أصحاب البلد الأصليين. شكّل هؤلاء عصابات القتل والتنكيل منذ مطلع القرن الماضي، فارتكبوا المجازر الجماعية بدعم وتواطؤ من الانتداب البريطاني الذي عبَّد الطريق، عبر وعد بلفور المشؤوم، لتأسيس الدولة الصهيونية على تراب فلسطين وأسسوا لها جيشاً مهمته تنفيذ الفظائع وطرد أبناء البلاد إلى خارج فلسطين، ليأتي اليانكي الأميركي ويكمل المهمة التي نشاهدها الآن في غزة.
كيف تفاعل البحرينيون مع الطوفان؟
منذ اليوم الأول للطوفان، كان للشعب البحريني موقفه الواضح الذي أكد عليه في كل محطات الصراع. موقف تأسس منذ ما قبل النكبة، عندما قامت ثورة عام 1936 التي قادها الحاج أمين الحسيني، وفي حرب النكبة حيث تطوع ثلة من البحرينيين المنتمين للطائفتين الكريمتين، فذهبوا إلى فلسطين للقتال إلى جانب أشقائهم شعب فلسطين ضد عصابات شتيرن والهاغانا وغيرها. استمر البحرينيون خلال 75 سنة من النكبة حتى الوقت الراهن، بالوقوف في الصف الأول المدافع عن القضية الفلسطينية باعتبارها القضية المركزية للأمة، والدفاع عنها دفاع عن شرف كل الأمة وكرامتها.
في السابع من أكتوبر 2023 جرى التحول في الوعي لدى الرأي العام العربي والعالمي. والبحرين ليست استثناءً من القاعدة، بل تأكيداً لها، وقد بدأ التفاعل مع الحدث الكبير من اليوم الأول للطوفان. كانت الجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني على موعد مسبق مع ندوة حول مرور ثلاث سنوات على اتفاقية التطبيع بين البحرين والعدو الصهيوني، لكن الطوفان فرض نفسه على الجميع وأخذ حيّزاً مهمّاً من وقت الندوة التي قيل فيها:
إن الفجرَ لمن صلاّه..
وقد صلّى أبطال طوفان الأقصى فجر السابع من أكتوبر في أرض فلسطين..
في مستوطنات ما يسمى بغلاف غزة..
جاءوا من السماء كطيرٍ أبابيل، مظليين وطائرات مُسيّرة وشراعية انقضّت على أوكار الاحتلال..
لم يرَ المطبعون الذين ادعّوا بأن اتفاقات التطبيع الإبراهيمية هدفها ازدهار شعوب المنطقة..هؤلاء احتفوا بمرور 3 سنوات عجاف على اتفاقية ذل مع العدو. لم يروا جنود الكيان، قبيل الطوفان، يركلون سيدة فلسطينية مُسنّة ويرفعونها بأحذيتهم أمام باحات المسجد الأقصى..أو أنهم أشاحوا بوجوههم عن المشهد الفظيع.
لكن أبطال الطوفان كان موعدهم الصبح.. وقد أوفوا بالوعد وزلزلوا الأرض من تحت أقدام الغُزاة..إنه النصر القادم لا محالة رغم الأثمان الكبيرة التي يدفعها أهل غزة بآلاف الشهداء وآلاف المدفونين تحت الأنقاض وعشرات آلاف الجرحى وتدمير كُلي للبنى التحتية بما فيها المستشفيات والمدارس والكهرباء والمياه، فطريق الثورة والتحرير غير معبّدة بالورود، بل بالأشواك الكثيرة التي تُدمي وبالتضحيات الجسام التي ترسم طريق الحرية والنصر.
في ذات المساء العظيم انطلقت المسيرات والتظاهرات في العديد من مناطق البحرين وخصوصاً في قرى شارع البدَيِّع بالمحافظة الشمالية وفي قرى جزيرة سترة بالمنطقة الوسطى وفي المنطقة الغربية. وفي كل أسبوع يخرج المصلون في مسيرة من جامع الصادق بالدراز في مسيرة تضامنية مع أهل غزة وفلسطين. كل هذه المسيرات من غير ترخيص، حيث تم حظر المسيرات كجزء من تبعات أحداث الحراك الشعبي الذي انطلق في الرابع عشر من فبراير 2011، وخصوصاً في العاصمة المنامة.
كرّت السبحة وتحولت البحرين إلى ساحة مشتعلة من الدعم والتضامن اليومي في كل المناطق، من الرفاع في الجنوب إلى المحرق في الشمال ومن الشرق إلى الغرب وصولاً إلى العاصمة.
بعد الطوفان تجسّد شعار “فلسطين تجمعنا” على أرض الواقع. فالتصنيفات والتقسيمات التي أفرزتها الأزمة السياسية الدستورية في البحرين، وخصوصاً الإصطفافات الطائفية والمذهبية التي شطّرت المجتمع وأدمت مكوناته، بدأت في الذوبان، وحضرت فلسطين وقضيتها المقدسة كعنوان كبير للوحدة الوطنية. وبسبب الضغوطات الشعبية وبعد تمنع متكرر، سمحت السلطات المختصة بمسيرة نظمتها جمعية مناصرة فلسطين يوم 18 نوفمبر2023 شارك فيها عدة آلاف في المحرق، وتلتها بعد أسبوع (24 نوفمبر) مسيرة أخرى نظمتها الجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني، شارك فيها أيضاً عدة آلاف وتجلّت الوحدة الوطنية في المسيرتين، حيث رفعت أعلام فلسطين والبحرين والشعارات المؤيدة والمناصرة للقضية الفلسطينية ولطوفان الأقصى.
لقد غصت البحرين بالفعاليات الكثيرة الداعمة لفلسطين وضد التوحش الصهيوني الذي يستهدف النساء والأطفال في عدوانه المستمر منذ أكثر من شهرين على مختلف مناطق قطاع غزة والضفة الغربية والقدس. وفي هذا السياق حرصت الجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع على تنظيم وقفة تضامنية أسبوعية بالإضافة إلى الندوات التي تعقدها ونشر أدبيات المقاومة كالكوفيات والشالات وخارطة فلسطين والاكسسوارات ذات الصلة. كما نظمت جمعية مقاومة التطبيع العديد من العرائض الشعبية احتجاجاً وتنديداً بالعدوان الصهيوني على غزة.
وعلى ذات النهج نشطت الجمعيات السياسية ومنظمات المجتمع المدني وأصدرت بيانات عديدة ونظمت وقفات تضامنية مع فلسطين وغزة، وأهمها عريضة وقعتها أكثر من 60 جهة تمثل الجمعيات السياسية ومنظمات المجتمع المدني والمجالس الأهلية شملت المؤسسات على مساحة الخارطة البحرينية كلها، ووجهتها إلى جلالة الملك تطالب فيها بطرد السفير الصهيوني من البحرين وإغلاق وكره التجسسي، السفارة وإلغاء اتفاقية التطبيع معه.
بالتوازي، ثمة حملات فاعلة لمقاطعة بضائع وسلع الدول والشركات الداعمة للكيان وجيش الاحتلال والمطبعين معه، وقد بدأت تؤتي أُكلها، ويلاحظ المرء هذه المقاطعة في خلو المقاهي ومطاعم الوجبات السريعة والمحلات التي أعلنت دعمها للكيان من الزبائن. كما أن عملية كيّ الوعي التي ينتهجها الكيان وداعموه والمطبعون في العقود الثلاثة الماضية، قد بدأت تتهاوى مع نزول أول طائرة شراعية في ما يسمى بغلاف غزة وبدء معركة الطوفان وتدحرجها ليكتشف العالم زيف السردية الصهيونية القائمة على أوهام توراتية عن دولة الميعاد وجيشها الذي لا يقهر. لقد فعل الطوفان فعلته في الوعي الشعبي البحريني كما في وعي الشعوب العربية وشعوب العالم، فبدأ أطفال البحرين يدققون في السلع التي يشتريها آباؤهم للتأكد من أنها خارج قوائم المقاطعة التي تم وضعها من قبل نشطاء في دول الخليج والعالم، وهذا يشكل بداية الكي للوعي المزيف ومواجهة الوهم الذي يروجه المطبعون عن الازدهار والرخاء الذي سيجلبه التطبيع مع العدو الصهيوني، ومحاولة إخفاء النتائج الكارثية لهذا التطبيع على الدول العربية التي طبّعت علاقاتها مع العدو من انهيار اقتصادياتها وتدهور سعر عملاتها وتفاقم الفقر والبطالة وتحولها إلى دول تستورد كل ما تستهلكه بعد أن كانت دولًا منتجة في بعض القطاعات، وبالتالي إغراقها في الديون الخارجية التي تقصم الظهر.
ومع تبيان كوارث التطبيع، يناضل البحرينيون من أجل إلغاء اتفاقية التطبيع التي وقعت في عام 2020 مع العدو وطرد السفير الصهيوني من البحرين.. وإلى غير رجعة.