حين وصف ماركس انتفاضة كومونة باريس بـ “مقتحمي السماء”، كمبشرٍ نبيل وأمل جديد بالنصر القادم، يتماهى التوصيف مع النموذج البطولي في السابع من أكتوبر الفلسطيني. شعب أسطوري استشهادي يعانق السماء وتحت راية مقاومة خفاقة ضد الاحتلال ومخططاته الاستعمارية والرأسمالية العالمية الشرسة. فكان ”طوفان الأقصى” قيمة نوعية مضافة من تراكم التجربة الكفاحية الطويلة بكل أنواعها القومية واليسارية والإسلامية التي تصب جميعها في مسيرة النصر والتحرير.
هل نجرؤ على النصر؟
قد يسهل على شعب يرزح تحت الاحتلال التفكير بحريته، لكن هل يجرؤ على النصر! وهذا غير مسموح بالمنطق الاستعماري، ولكن المشهد الملحمي في غزة، قلب الصورة مؤكداً أنه يمكن أن ننتصر، قولاً وعملاً، فكراً وممارسة وبالوعي والدم والحلم والواقع. لقد تحقق النصر مسبقاً، منذ الضربة الموجعة التي تلقاها الكيان، وأربكت جميع حساباته، وهزمت عمق الكيان وضربت معنوياته، ففقد الإحساس بالأمان وانهيار أسطورة الردع في ساعة واحدة، أدت إلى قناعة الجميع أن الاستقرار يحتاج أولاً وأخيراً إلى عدم تجاهل الحقوق الوطنية الفلسطينية، وأن الشعب الفلسطيني وضع أمام أمرين لا ثالث لهما: إما قبول التحدي للمعركة، وإما الاستسلام دون معركة. فأكد بالدم أنّه مصمم على استعادة حقوقه كاملة، ومستعد أن يقدم عظيم التضحيات من أجلها.
محو صورة النصر
إن كل الذي يفسر الجنون الصهيوني- الأطلسي الغربي كردة فعل انتقامية لمحو صورة النصر وكيف نجرؤ على “اقتراف” النصر الأكتوبري؟ لذا ابيح له الدفاع عن النفس بالابادة، مستلهماً تدمير الخطر بأسلوب قنبلة “هيروشيما” لتحرق الشجر والحجر والبشر، وهذا بحد ذاته ليس نصراً إنما هزيمة مجلجلة للعدو وانتصار على شرعية وجوده، بدأ يدفع ثمنها من رصيده العسكري والأخلاقي والقانوني، وإن كان الثمن باهظاً ومنذ إعلان مسلسل الهدنة الذي أجبر عليها، فقد ارتفع عدد شهداء العدوان الإسرائيلي على القطاع إلى 21 ألفاً و978 شهيداً في الغارات الإسرائيلية المستمرة منذ 7 اكتوبر 2023، بينهم نحو 6000 طفل، وارتفع عدد المصابين إلى 56 ألفاً و697 شخصاً. أكثر من 60% من مباني القطاع تضررت بسبب القصف، وارتفع عدد الشهداء في صفوف الطواقم الطبية بسبب القصف الإسرائيلي إلى 326، واستهدف 150 مؤسسة صحية، وتسبب في خروج 30 مستشفى من الخدمة، كما دمر 104 سيارات اسعاف، ولا يزال العدو الإسرائيلي يعتقل 99 من الكوادر الصحية في ظروف غير إنسانية. هناك نحو 7 آلاف مفقود في القطاع بينهم أكثر من 4700 طفل وامرأة بما نسبته 75% من شهداء غزة من الأطفال والنساء وكبار السن.105 شهداء من العاملين في القطاع الصحفي. وبالنسبة المئوية 4٪ إلى 4.5٪ من سكان قطاع غزة بين شهيد وجريح ومفقود، ذلك حسب ما تم إحصاؤه حتى الآن. كله عقاب لمن حاول ومن يفكر بالانتصار.
حسم الصراع
لقد انكشف الوجه القبيح للغرب الإمبريالي والذي يستخدم الكيان الصهيوني كركيزة في منظموته وكمخلب قط لتخليد تبعيتنا وهزيمتنا وتخلفنا، ولتدعيم مصالحه التحالفية الاستعمارية وصياغة المعادلة السياسية في الإقليم وبحرب إبادة قوية تصدم الوعي العربي وتحقق تغييراً مأمولاً في الواقع وترمم، ولو جزئياً، صورة التفوق للاحتلال.
سقطت صورة “السوبرمان” للجندي الصهيوني كنتاج أولي سيتصاعد مع تطور الأوضاع الميدانية ومديات الحرب ومستوياتها ونتائجها الفعلية، وسيكون لها ارتدادات كبيرة على صعيد السياسات الفلسطينية والسياسات الصهيونية والإقليمية وأولويات الأجندة الدولية.
في “تغيير قواعد الصراع”، بما يتناسب ومعطيات الميدان، نحن أمام عدو تشكل “الإبادة” أساساً في فكره الصهيوني التلمودي، لقد قام وجوده على قاعدة نفي الفلسطينيين من أرضهم وبقتل أكبر عدد ممكن منهم وتهجير ما تبقى.
إن خطة “حسم الصراع” الصهيونية التي هي الاسم المرادف “لتصفية القضية” والتي تطالب جهاراً بالترانسفير، لذلك باتت تُشّكل تحدياً سياسياً طويل الأمد ولمصر والأردن كذلك، واستهدافهما في عملية الترانسفير الموهومة. كما أن البحث عن فرصة للقيام بالترحيل القسري في غزة لا يستبعد منها الضفة الغربية، كانت قد مهدت لها بمشاريع الضم والاستيطان وبتآكل مبرمج للمؤسسات الفلسطينية المركزية، مما يؤدي إلى نشوء حالة فراغ يسعى لسده عبر أدواته.
سؤال اليوم التالي
كالعادة، كل هجوم عسكري يرافقه هجوم سياسي، على افتراض أن للحرب هدفاً سياسياً! كما يرى كلاوزفيتز أن الحرب: “هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى”. فسؤال ماذا عن اليوم التالي؟ هو سؤال مبني على افتراض الهزيمة، وهذا مجرد خيال سياسي، فالإجماع لكل القوى الفلسطينية السياسية، ولمكونات شعبنا في كافة مواقع وجوده على رفض المخطط الخبيث لتصفية حقوقنا، وما يثبته شعبنا على الأرض من صمودٍ أسطوري، ومقاومة باسلة، لكن التخوف الذي نبديه هو من غياب إدارة سياسية فلسطينية موحدة لمواجهة حرب الإفناء والإبادة والتهجير ومحاولة تصفية القضية، التي تترافق مع مساعٍ وتحركات لحل دولي تشارك فيه حكومات إقليمية بدرجات متفاوتة متجاوزاً تمثيل فلسطيني موحد. بغية فرض الوصاية على شعبنا ونزع قراره الوطني دون تحرك حقيقي يرقى لمستوى التصدي لهذا المسعى الخطير.
ترجمة يسارية لصناعة النصر
لذا، فمن موقعنا في المقاومة شركاء في الطلقة والدم والخندق، فالأجنحة العسكرية اليسارية، مثل كتائب الشهيد أبو علي مصطفى تقاتل جنباً إلى جنب مع جيش المقاومة من القسام والسرايا وأجنحة، متجاوزين معتقداتهم العقائدية والأيديولوجية في سبيل معركة التحرر الوطني والدفاع عن الوجود، حيث تتسع معركة اليسار في شوارع وأحياء ومدن قطاع غزة وعند مداخل المخيمات، وعلى أكثر من محور قتالي في شمال وشرق وغرب ووسط القطاع، حتى ساعة سريان الهدنة، بقيت مدافع الهاون تطلق قذائفها من الأعيرة المتوسطة والثقيلة، تطلق بشكل شبه يومي على تجمعات وآليات العدو. والتي رافقتها بعمليات عسكرية في مخيمات ومدن الضفة المحتلة، التي تواجه جيش الاحتلال ومستوطنيه بشكل مستمر. وكذلك المقاومة الاجتماعية على الجبهة الداخلية، في مدارس النازحين ودعم صمود الجماهير من المأوى إلى الملبس إلى لقمة العيش والطبابة وتضميد جراحاتهم ومواساتهم وتدعيم وضعهم النفسي والمعنوي والمادي. وكما قالت امرأة فلسطينية تطهي على نار الحطب: نحن لا نحب الحياة فقط بل نصنع الحياة!
وفي معركة السرديات التي لا تقل أهمية عن المقاومة العسكرية، يتصدر اليسار مواجهة الهيمنة الثقافية الإمبريالية في عواصمهم وكل أنحاء العالم، واعتبرت معركة نزع الشرعية عن “إسرائيل” وفي هذا السياق كتب الباحث السياسي “الإسرائيلي” إيهود روزن في مقالة نشرها موقع معهد دراسات الأمن القومي الصهيوني. “هؤلاء ناشطون في منظمات المجتمع المدني، يتبعون أجندات واضحة معادية للغرب تحت ستار تعزيز حقوق الأقليات، ضمن منظمات يسارية متطرفة، بما فيها الهيئات التي تدعم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وتعمل جنباً إلى جنب مع منظمات الإسلام السياسي”.
كيف ننتصر؟
قراءتنا للوحة الصراع ومسرح العمليات ونتائج ملحمة الصمود والشرف والبطولة، وضعتنا كيسار أمام سؤال جدي: كيف ننتصر؟ أو ما السبيل لحماية التضحيات العظيمة؟ حتى لا يتمكن العدو من تحقيق أهداف الحرب، ويحقق في السياسة ما فشل عن تحقيقه في الميدان، والالتفاف الذي تقوم بها الدول التي قادت الحرب الهمجية المباشرة على شعبنا وبكل وقاحة تريد أن تظهر بمظهر “الإنسانية” و”الحمل الوديع”، باسم المساعدات الإنسانية. أو استبدال التهجير القسري بالعنف عبر التهجير الطوعي والإنساني!
ما بعد السابع من أكتوبر ليس كما قبله، مقولة تفرض المسؤولية الوطنية والأخلاقية، على المكونات والقوى الوطنية، تشكيل “قيادة طوارئ وطنية”، تعزز النهج التشاركي في القرار الوطني والمسؤولية الوطنية الجماعية، تؤكد الحاجة الماسة إلى قيام جبهة سياسية وطنية توحد الموقف السياسي وتعزز الوحدة الشعبية في كل الميادين، لتشمل كل أماكن تواجد شعبنا، للتصدي للعدوان وأهدافه وآثاره، الذي يستهدف الشعب الفلسطيني وتصفية القضية الفلسطينية برمتها، وتأخذ بعين الاعتبار موازين القوى، والتوافق على برنامج توافقي ومن أجل استنهاض القدرة الوطنية الشاملة لإسناد هذا التصدي الملحمي، ويؤكد على برنامج المقاومة وحقوق شعبنا غير القابلة للتصرف أو المساومة، وبإنهاء الاحتلال فوراً، وممارسة شعبنا لحقه في تقرير مصيره وسيادته على أرض وطنه وبناء دولته الحرة وعاصمتها القدس.
رؤيتنا لحماية النصر:
أولاً: إن العدوان يستهدف الكل الفلسطيني وليس فصيلاً بعينه، وتصفية الشعب الفلسطيني وليس فقط تصفية قضيتنا وحقوقنا.
ثانياً: حماية القرار الوطني، باالدعوة لاجتماع قيادي فلسطيني مُقرّر وموسع.
ثالثاً: وحدة الهدف الوطني، الذي يشكل سداً منيعاً لمحاولات الانتقاص من حقوقنا وتجزئتها، ولتظهير الإجماع الوطني الفلسطيني المتمسك بحقوق الشعب الفلسطيني والرافض لمساعي الإبادة والتصفية.
رابعاً: استراتيجية الصمود الوطنية لحفظ شرعية الوجود والبقاء وصمود شعبنا في غزة وكافة مناطق وجوده.
خامساً: العمل على تشكيل جبهة عالمية مناهضة للصهيونية النازية وإعادة العمل بقرار الأمم المتحدة باعتبارها حركة عنصرية، وإقامة جبهة عربية مساندة للمقاومة الفلسطينية ومناهضة للتطبيع.
سادساً: الاشتباك المجتمعي في كافة الساحات في مواجهة هجمات جيش العدو ومستوطنيه، وما يتطلبه ذلك من تشكيل قيادة وطنية ميدانية وفرعية لإدارة عملية التصدي لجنود الاحتلال والمستوطنين.
سابعاً: اعتبار قضية تحرير كافة الأسرى في سجون الاحتلال قضية وطنية مفصلية “الكل مقابل الكل”.
لأننا نجرؤ على النصر، علينا واجب حماية النصر، هذا برسم مقتحمي السماء، وحسب قول مهدي عامل “لست مهزوماً ما دمت تقاوم” إنها المحاولة الأولى التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية على درب الانتصار، وتحرير الأرض وتحطيم الاستيطان، يحتاج تحرير الإرادة والإنسان والوعي.