عامان من الصمود والمقاومة في مواجهة محرقة المشروع الاستعماري .. ولن يمروا ولن يستقروا

-+=

قد يكون هذا الكلام مكرراً، لكن لا بد منه. لقد كسرت عملية المقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 داخل الأراضي المحتلة حلقة التراجع والمراوحة السائدة لطمس القضية. وأوقفت نزيف المفاوضات العقيمة والتنازلات المجانية الجارية على حساب هوية وحقوق الشعب الفلسطيني ومصيره. وأسهمت في فرملة الزحف العربي خلف عملية التطبيع. وأيقظت مشاعر الانتماء الوطنية والقومية المكبوتة قهراً وظلماً واستبداداً لدى شعوبنا العربية. وأعادت الوهج للقضية وأعطتها بعدها الأممي السياسي والإنساني. ولتفرض القضية حضورها بقوة على جدول الأعمال والاهتمامات الدولية. والأهم، أنها صوبت مفهوم حق الشعوب في المقاومة وتقرير المصير.

العملية النوعية تم تناولها من كافة جوانبها وأبعادها وأهدافها. لكن انهيار النظام السوري السابق والتداعيات السلبية اللاحقة أثرت سلباً في مسار معركة وحدة الساحات. لكن، مهما كانت الضربات قاسية، ومهما حصل من مفاجآت عسكرية وأمنية قاسية، أو تراجعات (لا مجال لطرحها في هذا المقال)، تبقى قيمة “المقاومة” باستمرارها وثباتها وعمق ارتباطها بالتحرر الوطني. فالجانب المضيء خلال العامين المنصرمين تجلى في ثنائية الصمود والمقاومة في غزة. رغم جحيم الموت والإبادة الجماعية والتطهير العرقي والحصار والتجويع. هذه الثنائية أعادت توجيه بوصلة القضية بعد أن جرى حرفها عن مسارها، وتشويهها، وإدخالها في متاهة أوسلو والسلطة والمصالح الفئوية والشخصية التي استطاع أن ينفذ منها المحتل الصهيوني للتوسع الاستيطاني وتقطيع أوصال الضفة والقدس، وتعميق الخلافات والانقسامات الفلسطينية، التي بدورها ساهمت في إضعاف القضية، وأغرقتها في متاهات وحسابات بعيدة عن أهدافها الوطنية والقومية. لذلك، فإن عملية السابع من أكتوبر شكلت “علامة فارقة” في مجرى الصراع ضد المحتل الفاشي، وقلبت الأوضاع رأساً على عقب، وزعزعت كيان العدو أمنياً وسياسياً واجتماعياً. وأسقطت ادعاءات الإمبريالية الاستعمارية والرأسمالية العالمية الراعية للاتفاقات الدولية والحقوق الإنسانية والديمقراطية.. وغيرها، من شعارات إنسانية مزيفة تطلقها لتعزيز سيطرتها وتأمين مصالحها على حساب شعوب العالم المناضلة من أجل تحررها الوطني.

ولأن الإمبريالية تقوم بوظيفتها الطبقية ومهمتها الاستعمارية، فلا حرج لديها في إعلان شراكتها أو مساهمتها في حرب الإبادة الجماعية على غزة، وفي تبني السردية الصهيونية، وفي الدعم المتواصل للحروب العدوانية على لبنان وسوريا وإيران واليمن والعراق وصولاً (لقطر)، لتصفية القضية الفلسطينية وشطب حقوق الشعب الفلسطيني وتهجيره، والقضاء على المقاومة، لفرض “مشروع الشرق الأوسط الاستعماري الجديد”.

عامان كاملان من الصمود والمقاومة مجبولة بدماء آلاف مؤلفة من الشهداء والجرحى والمفقودين في غزة ولبنان في مواجهة تكنولوجيا العدو وجحيم الموت والدمار والخراب والتهجير. عامان حافلان بمتغيرات في تبدل أحجام وأوزان قوى إقليمية، وانكشاف مخز لتبعية بعض الأنظمة العربية وعجزها، وهشاشة النظم البرجوازية التبعية الاستبدادية والطائفية ومنسوب فسادها. وبيت القصيد يكمن في “أزمة قيادة حركة التحرر الوطني العربية”. الأمر الذي غيَّر في معادلات المواجهة لصالح توسع هامش الهجوم والمناورة الأميركية – الصهيونية وفق خطة – القضم والضم – في غزة والجنوب اللبناني والجنوب السوري، ومحاولة فرض إقامة مناطق معزولة مدمرة ومنزوعة السلاح، لفرض شروط الاستسلام، والالتحاق في ركب “اتفاقية أبراهام”. لذلك، فالشراكة الصهيونية – الإمبريالية تسابق الوقت، وتدفع بخطابها وتهديداتها وممارساتها العدوانية باتجاه الحسم لتحقيق السيطرة الكاملة على المنطقة. فقصة “العصا والجزرة” تتكرر على لسان نتنياهو (اجتياح غزة ولبنان وسوريا..) وإقامة “دولة إسرائيل الكبرى” وفق “شرق أوسط جديد” من جهة. وترامب ومبعوثيه في المنطقة (ويتكوف – أورتاغوس – بارّاك) مكلفين بإدارة لعبة التخويف والتهديد والتطويع والتطبيع تحت الوصاية الأميركية من جهة ثانية. أما محتوى “القصة” فوصلت دون تشفير إلى جميع دول المنطقة دون استثناء، ومن دون أخلاق ورتوش، واللبيب من الإشارة يفهم. 

*****

عامان متواصلان على محرقة نتنياهو، ولم يفلح لحد اللحظة، في تحقيق أهدافه السياسية والعسكرية. رغم كل الدعم الأميركي والأطلسي والرجعي العربي لحروبه العدوانية التوسعية. لذلك، يستمر اليوم في حرب الإبادة الجماعية وتعطيل المفاوضات والوساطات لوقف إطلاق النار في غزة. وفي اعتداءاته اليومية على لبنان وكأن اتفاق 1701 لم يكن. وفي الاعتداءات والتوسع في سوريا. كمحاولة للهروب إلى الأمام، والتمسك بالسلطة لتجنب المحاسبة والمحاكمة والملاحقة الدولية. ولكن مهما هرب، فإن الفشل الأمني والسياسي والاجتماعي يلاحقه، بما في ذلك مسألة ضمان سلامة ما تبقى من أسرى لدى المقاومة الفلسطينية. وهو فشل، يعلم نتنياهو جيداً أن وقف الحرب دون تحقيق أهدافه سيشكل انتحارا سياسياً له، وسيضعه تحت قوس المحاكمة والسجن. لذلك، يعتمد استراتيجيته التعنت والهجوم لتحقيق أهدافه، مهما كانت العواقب والأثمان.

قد يكون للتفوق التكنولوجي العسكري والمخابراتي الصهيوني المدعوم أميركياً دوره الحاسم في توجيه ضربات قاسية للمقاومة، وتضييق هامش حركتها، وتوسيع دائرة الحروب العدوانية. لكن فشل هذا العدو في ميادين المواجهة المباشرة في غزة والجنوب اللبناني واضحة ومثبتة. وإن كانت استراتيجية نتنياهو التصعيد المفتوح فهذه الاستراتيجية ستقوض الكيان الصهيوني نفسه. وها هي المقاومة في غزة تقاوم باللحم الحي بإرادة وعزم وثبات في كل شارع ومبنى وركام ونفق. فالعمليات مستمرة رغم الحصار وآلة القتل والتجويع. وليعلم نتنياهو وعصابته الإرهابية إن من ناضل وقاوم الاحتلال وإرهابه على مدى 77 عاماً، هو شعب لا يمكن اقتلاعه من أرضه ولا طمس هويته ولا المساومة عن حقوقه الوطنية المشروعة كاملة في التحرير والعودة وإقامة دولته الوطنية وعاصمتها القدس. لقد أسقط هذا الشعب العظيم بصموده ومقاومته نظرية “الكيان الضحية” وصورة “الديمقراطية المزيفة”، واستطاع بدماء أطفاله وشيوخه وثباته أن يحرك شعوب العالم التي هبت في الشوارع بالملايين للتضامن مع نضال الشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه، وأطلقت أساطيل التحدي والصمود لكسر الحصار عن غزة ووقف الإبادة الجماعية وفتح المعابر لتوفير الطعام والشراب والدواء لأكثر من مليوني فلسطيني. فهذا الصمود الأسطوري والتضامن الأممي زاد من عزلة “إسرائيل” المصنفة في مقدمة الدول العنصرية والإرهابية. وهذا بدوره، أدى إلى زيادة نسبة الاعتراف بالدولة الفلسطينية (حل الدولتين) من قبل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة إلى 80% في مؤتمر نيويورك قبل أيام. وهي خطوة لم تكن لتحصل (خصوصاً من قبل بعض الدول الرأسمالية الغربية – وبغض النظر عن خلفيته ومآله وترجمته) لولا صمود ومقاومة وتضحيات هذا الشعب العظيم.

 ولم يتبق في الميدان مع هذا الكيان المحتل إلا ” ترامب”، الذي تفرد في وضع “الفيتو” على قرار وقف النار في غزة، وترجم هذا الفيتو في خطابه المتغطرس في مؤتمر نيويورك أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، مؤكداً على وحدة الشراكة الامبريالية – الصهيونية العدوانية، وعلى المضي قدماً في تسعير حروبه العسكرية في المنطقة، وحروبه الاقتصادية والتجارية والحمائية حول العالم. تحقيقاً، لشعاره ” لنجعل من أميركا عظيمة مجدداً”. لكن، سياسة الكراهية والحقد والعظمة الترامبية أدت إلى تصدعات أعمق على الجبهة الرأسمالية المأزومة، وإلى توسيع دائرة الجبهة القطبية المناهضة لسياسته على المستوى الأممي (قمة شنغهاي) وعلى المستوى الإقليمي (توسع الحروب وسياسة الهيمنة والبلطجة الأميركية والغرق في المواجهة)، وعلى المستوى الداخلي الأميركي (ارتفاع نسبة الشباب الرافضة لسياسة ترامب الخارجية، والمعادية للمواقف الداعمة للكيان الإسرائيلي من 35% إلى 50% لحد الآن).

أما شريك ترامب في الحرب والإرهاب والعظمة – نتنياهو – فإن مأزقه، ومأزق قواته العسكرية، تتعمق أكثر بعكس مزاعمه. وخطته بتنفيذ اجتياح غزة أو لبنان، لن تنشله من مأزقه، بل، سترتد عليه، وعلى الكيان الصهيوني وشريكه الأميركي. وهذا هو تاريخ الشعوب المقاومة فالاستعمار والاحتلال إلى زوال. وتاريخ نضال ومقاومة الشعبين الفلسطيني منذ عام 1948 لحد الآن، ونضال ومقاومة الشعب اللبناني منذ عام 1969 و1982 و2000 و2006 و2023 حتى اللحظة، مآثر وملاحم بطولية كتبت بعرق الفقراء ودماء الشهداء وحققت الانتصار التاريخي المستحيل. لهذا، فإن من يراهن على تعب أو إحباط أو استسلام شعبنا ومقاومتنا الوطنية، هو مريض بالوهم.

*****

المتغيرات وتطوراتها، فرضت أوضاعاً وتحديات خطيرة ومعقدة، يجب خوضها بأطر وآليات تقود قوى المواجهة الوطنية والديمقراطية إلى جانب القوى العاملة لبناء “مشروع وطني تحرري بديل” وفق قراءة معمقة وشاملة للواقع ومتغيراته، وإجراء مراجعة نقدية (ما لنا وما علينا)، واستخلاص النتائج لسد مكامن الخلل، لرسم استراتيجيات المشروع الوطني بتكتيكاته وتحالفاته وبرامجه. فالمعركة مصيرية، وتتطلب تغييراً ثورياً في قواعد مواجهة المشروع الإمبريالي – الصهيوني – الرجعي العربي، على كافة المستويات الفكرية والسياسية والنقابية والشعبية. فمصير المنطقة برمتها يتوقف على الشروع في بناء حركة تحرر وطني عربية جذرية وشاملة. وإن كانت المقاومة هي الخيار والقرار والعمود الفقري للمشروع الوطني التحرري. لكنها بالضرورة، يجب أن تكون “مقاومة وطنية “عابرة للفئوية والطائفية والمذهبية، لتستنهض دورها الوطني الجامع، ولتستأنف مهامها الميدانية، وتكون على مستوى تضحيات وتضحيات شعوبنا العربية التواقة للتحرر الوطني والاجتماعي الجذري الشامل.

وهذه أولاً، مهمة تاريخية أمام قوى اليسار العربية (يصادف في العاشر من تشرين أول/ أكتوبر الحالي مرور 15 عاماً على تأسيس اللقاء اليساري العربي)، بأن تترجم مشروعها الثوري من موقعها الطبقي في شتى حقول الصراع الوطني والطبقي المحتدم من أجل التحرير الكامل والتغيير الديمقراطي الجذري الشامل.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

السابع من أكتوبر: انهيار فكرة «إسرائيل» القديمة

إسرائيل فقدت القدرة على الاستمرار كفكرة، لا كقوة مادية فقط. لم تعد صورة الضحية تحميها من الانكشاف أمام العالم. في المقابل، المقاومة ليست مجرد رد فعل على الاحتلال، بل خيار تاريخي يصنع الأحداث ويعيد رسم مصير الشعوب.

المسألة النفطية من منظور التقدميين الكويتيين

مهمة تحرير المورد النفطي ترتبط بمهمة انتهاج توجه اقتصادي وطني بديل يستهدف بناء اقتصاد وطني منتج ومتطور ومستقل لمعالجة ما تعانيه البنية الاقتصادية الرأسمالية الريعية المشوهة والتابعة من اختلالات هيكلية عبر المطالبة بتنويع مصادر الدخل والأنشطة الإنتاجية

لا لمحو الذاكرة الوطنية

تمثّل الذاكرة الوطنية أهم العناصر المكوّنة لوحدة المجتمع والمشكّلة لوعي أفراده بهويتهم الوطنية، حيث تشمل الذاكرة الوطنية الأحداث والوقائع والوثائق والفعاليات والصراعات التاريخية الكبرى، التي