السابع من أكتوبر: انهيار فكرة «إسرائيل» القديمة

-+=

هل استطاعت المقاومة الفلسطينية، عبر عملية السابع من أكتوبر، إعادة تشكيل موازين القوة وإحداث تأثير استراتيجي حقيقي بعد عامين؟ وأين يقف الكيان الصهيوني في المنظومة الاستعمارية العالمية: هل هو دولة طبيعية أم مجرد أداة وظيفية؟ وهل ما تزال الفكرة أو السردية التي قامت عليها قائمة؟

لفتني ما كتبه ران أدليست في معاريف: “حماس انتصرت كفكرة على إسرائيل… لن تُعقد صفقة وسيستمر سيل الدماء، لكن حماس كفكرة انتصرت بشكل كاسح. لقد جرّتنا إلى حرب غبية استمرت عامَين، دمّرت صورتنا تماماً، حطّمت مكانتنا في العالم، ومزّقتنا بانقسام لا يمكن جسره”.

«إسرائيل» شريك الإمبريالية العالمية

لم يغيّر السابع من أكتوبر المعادلة الميدانية فقط، بل قلب فكرة إسرائيل نفسها: الدولة التي ظنّت أنها لا تُقهر باتت اليوم في مرمى التاريخ. لذلك لا يكفي أن نرى الصراع في إطار الأرض أو السياسة، بل في طبيعته الجوهرية: إسرائيل ليست مجرّد أجير، بل شريك للإمبريالية العالمية، وطليعة الهيمنة الغربية في قلب الشرق الأوسط. ولادتها لم تكن صدفة، بل صنيعة استعمارية: استقدام اليهود من الشتات، وتحويل العنصرية التاريخية إلى أيديولوجيا دولة، وإلباسها ثوب “التحرر الوطني” الزائف. بذلك شُرعن الاحتلال باسم “الحق التاريخي” و”الأمن القومي”.

إسرائيل تستغل دعم الغرب لا فقط كحماية سياسية وعسكرية، بل كمنصّة متقدمة للتحكم بخطوط الطاقة والممرات الاستراتيجية، وكـ “مختبر” لأحدث الأسلحة والتقنيات التي تُصدَّر لاحقاً للعالم. كل ذلك يُغلَّف بخطاب “الأمن” و”الديمقراطية”، فيما الواقع يكشف حقيقتها: قاعدة متقدمة للإمبريالية الأميركية بوجهها العنصري البشع، تُعيد إنتاج الاستعمار في القرن الحادي والعشرين عبر الإبادة والتطهير العرقي وتفتيت حركات التحرر.

انكشاف فكرة «إسرائيل»

إسرائيل لم تعد تكتفي بـ “صغرى” تُسوّق كدولة طبيعية داخل حدود معترف بها، بل تسعى إلى “إسرائيل الكبرى” أو “الدولة الإقليمية العظمى” التي تفرض وصايتها على عموم الشرق الأوسط. لم يعد التطبيع مجرّد علاقات شكلية، بل تحوّلت إسرائيل إلى قوة فوق الإقليم، تتصرّف كمرجعية تتجاوز الدول والشعوب. وهكذا سقط الوهم بأنها عدو للفلسطينيين وحدهم، لتظهر كجزء من مشروع استعماري أشمل.

في المقابل، تفكّكت الرواية التي أسّست لشرعية إسرائيل في الوعي الغربي. هذه الشرعية، القائمة على المظلومية الأخلاقية وصورة “الضحية”، كانت السلاح الأقوى للصهيونية. لكن مشاهد الإبادة في غزة، عجزها عن تحقيق حسم عسكري، الانقسامات الداخلية، وهروبها إلى الأمام بالدعوة إلى “الدولة العظمى”، كلها أطاحت بهذه السردية. اليوم لم يعد سهلاً إقناع الرأي العام الغربي أو النخب بأن إسرائيل هي “الدولة الاستثنائية” المظلومة والضحية والتي لها الحق الدائم بالدفاع عن نفسها.

نهاية الصورة اليهودية القديمة

منذ بداياتها قامت الفكرة الصهيونية على استثمار سردية اضطهاد اليهود في أوروبا لتحويلها إلى رصيد أخلاقي وسياسي يبرّر استعمار فلسطين. هكذا وُلدت صورة “اليهودية القديمة”: ضحية التاريخ الخارج من رماد المحرقة الأوروبية، الباحث عن وطن آمن. هذه الصورة خدمت الغرب مرتين: منحت الصهيونية شرعية أخلاقية لإقامة إسرائيل، وأتاحت لأوروبا التخلّص من عقدة ذنبها التاريخي عبر “تصدير المشكلة” إلى الشرق الأوسط.

لكن حرب الإبادة على غزة بعد السابع من أكتوبر عرّت هذه السردية. إسرائيل لم تعد “دولة الملاذ”، بل تحوّلت إلى دولة محرقة تمارس العنف بأقصى صوره، أمام عدسات العالم، وبخطاب ديني- سياسي يخلط المقدس بالقتل. هكذا سقطت “اليهودية القديمة” لتحلّ محلها “يهودية جديدة” متخمة بالدم والعنصرية والتفوّق العرقي.

هذه اليهودية الجديدة لم تعد ديانة تبحث عن الحماية، بل هوية استعمارية تبرّر التهجير والقتل باسم النص المقدّس. لم يعد المشروع الصهيوني يُقدَّم كحركة تحرر قومي لليهود، بل كذراع إمبريالي غربي يفرض نفسه بالقوة المسلحة المتوحشة وخطاب لاهوتي خرافي حول “أرض الميعاد”. وسقوط هذه السردية أمام صراع محتدم بين الليبرالية الرأسمالية والأيديولوجيا الدينية أو الدولة اليهودية والديمقراطية الغربية، ينعكس مباشرة على صورة الغرب نفسه.

إسرائيل كـ “دولة مختبر”

في تاريخ الاستعمار الحديث، وُجدت كيانات وظيفية وُصفت بـ “الدول المختبر”، تُقام لتجريب نموذج للسيطرة قبل تعميمه. جنوب أفريقيا في حقبة الأبارتهايد أبرز مثال: كيان إحلالي عنصري يخدم مصالح الغرب ويقدَّم كـ “حضارة” في محيط “متخلّف”. غير أنّ تراكم المقاومة وتحوّل الرأي العام العالمي أنهى شرعيته.

إسرائيل حالة متقدمة من هذا النمط: لم تُبنَ كملاذ لليهود فقط، بل كقاعدة اختبار لاستراتيجيات استعمارية جديدة، تدمج التكنولوجيا العسكرية والسيطرة الديموغرافية وإدارة السكان الأصليين عبر الإبادة. كما قال مؤخراً موقع واللا العبري: “هذه حرب من أجل الحرب… هدفها تحويل 2.2 مليون غزي إلى غبار بشري على أمل أن يرحلوا”.

لكن كما سقط الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، وكما انهار الاحتلال الفرنسي للجزائر، تواجه إسرائيل أزمة مماثلة: سقوط الفكرة المؤسسة التي منحتها الشرعية. فهي تحاكي اليوم الكيانات العنصرية – الاستعمارية المندثرة، وتحاول تحصين ذاتها عبر الاستيطان، تفتيت الضفة إلى بانتوستانات، وتدمير المخيمات. ابتلاع الأجزاء التي أخضعتها لخرائط اتفاقات أوسلو. 

 المقاومة بديل تاريخي

إذا سقطت “اليهودية القديمة” كفكرة مؤسسة لشرعية إسرائيل، فهل تستطيع “اليهودية الجديدة” المتوحشة أن تمنحها شرعية بقاء؟ الأرجح أن السابع من أكتوبر دشّن بداية النهاية لمشروع استعماري كامل.

إسرائيل فقدت القدرة على الاستمرار كفكرة، لا كقوة مادية فقط. لم تعد صورة الضحية تحميها من الانكشاف أمام العالم. في المقابل، المقاومة ليست مجرد رد فعل على الاحتلال، بل خيار تاريخي يصنع الأحداث ويعيد رسم مصير الشعوب. هي مشروع لحركة التحرر الوطني العربي، لترجمة قيم العدالة والحرية إلى فعل ملموس، يفرض إرادة الشعب على الأرض والزمان، ويؤكد أن الحرية لا تُنتظر ولا تُمنح، بل تُصنع بالإرادة والعمل والتحدي.

سقوط الفكرة المؤسسة لا يترك فراغاً، بل يفتح أفقاً جديداً: إن الحق في الوجود لا يُقهر. وليس هناك جيش لا يُقهر، بل هناك شعب لا يُقهر. لذلك يصرّ الاحتلال على الإبادة والمحو وسحق حياة الشعب، وربط مطلب وقف النار بتجريد المقاومة من سر قوتها وهو الشعب، ثم من السلاح: وهذا ليس شرطاً تكتيكياً، بل محاولة لاستعادة سردية فقدها الكيان ولن يعوضها. لكن عزلة الكيان ستتعمّق، وسيتحوّل أكثر فأكثر إلى دولة منبوذة.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

المسألة النفطية من منظور التقدميين الكويتيين

مهمة تحرير المورد النفطي ترتبط بمهمة انتهاج توجه اقتصادي وطني بديل يستهدف بناء اقتصاد وطني منتج ومتطور ومستقل لمعالجة ما تعانيه البنية الاقتصادية الرأسمالية الريعية المشوهة والتابعة من اختلالات هيكلية عبر المطالبة بتنويع مصادر الدخل والأنشطة الإنتاجية

لا لمحو الذاكرة الوطنية

تمثّل الذاكرة الوطنية أهم العناصر المكوّنة لوحدة المجتمع والمشكّلة لوعي أفراده بهويتهم الوطنية، حيث تشمل الذاكرة الوطنية الأحداث والوقائع والوثائق والفعاليات والصراعات التاريخية الكبرى، التي