هل دخل لبنان مجدداً إلى مسرح ترسيم الحدود البحرية؟

-+=

تحاول الولايات المتحدة الأميركية في الفترة الأخيرة بسط سيطرتها على الوضع في بلدان الشرق الأوسط، خاصة بعد إسقاطها نظام الأسد في سوريا.

وقد اعتبرت أن السيطرة على سوريا تساعدها على التحكم في وضع بلدان الشرق الأوسط. وعطفاً على ذلك، استطاعت إحداث تبديلات أساسية وجذرية في الوضع في لبنان وبسط سيطرتها على القرار السياسي فيه، مما سمح لها بالتحكم إلى حد كبير بالقرار السياسي والاقتصادي والأمني في لبنان، وفرضت شروطها السياسية والأمنية على السلطة السياسية والعسكرية، بما فيها فرض شروطها على وقف إطلاق النار مع العدو الإسرائيلي، والضغط بشكل أساسي على السلطة لتجريد “حزب الله” من سلاحه وضرب كل المقومات العسكرية للمقاومة. وتعتبر نفسها قد سيطرت على الوضع اللبناني والشرق أوسطي وحققت نجاحات كبيرة بالتنسيق مع العدو الإسرائيلي.

عطفاً على ذلك، تنطلق لوضع يدها على كل خيرات بلدان الشرق الأوسط وفتح المجال أمام شركاتها للعمل في مجالات عديدة، أهمها الغاز والنفط، وذلك يساعد على التحكم في القرار الأوروبي، خاصة بعد ضرب خط الغاز الروسي الذي كان يغذي أوروبا. وفي هذا الإطار نشهد تحركاً أميركياً واضحاً للسيطرة على الأمور في بلدان الشرق الأوسط. حيث تشهد المنطقة تحركاً أميركياً ملحوظاً في اتجاهات مختلفة لوضع يدها على الوضع الاقتصادي والسياسي والأمني.

مصادر مطلعة كشفت في الفترة الأخيرة عن ضغوط أميركية مشبوهة على لبنان لتثبيت الاتفاقية التي وُقّعت بين لبنان وقبرص عام 2007 إبان حكومة الرئيس السابق فؤاد السنيورة، واعتمدت ترسيم الحدود البحرية وفق منهجية خط الوسط المنافية لقانون البحار، ما يلحق إجحافاً بلبنان الذي يخسر بموجب هذه الاتفاقية 1600 كلم².

وكان مستغرباً تصرف السفيرة الأميركية في لبنان ليزا جونسون، عندما طالبت الرئيس جوزيف عون في أول زيارة له بعد توليه رئاسة الجمهورية، بإنجاز ترسيم الحدود البحرية مع قبرص، وتثبيتها ومصادقة على اتفاق عام 2007.

إضافة إلى ذلك، هناك مطالبة وإلحاح قبرصي في كل زيارة يقوم بها مسؤولون لبنانيون الى قبرص لتثبيت هذا الاتفاق.

وتشير المصادر إلى أن الهدف من الإصرار الأميركي على تثبيت الحدود البحرية كاملة في المنطقة هو «الإمساك بموارد النفط لمزيد من التحكم بالقرار الأوروبي، خصوصاً بعد إقفال خط الغاز الروسي، وأن «الخطوة الميدانية الأولى للاستيلاء على الثروة البحرية هي استقدام شركات أميركية لتولّي التنقيب» بعد إزاحة «توتال» الفرنسية.

ماذا يعني تثبيت الاتفاق اللبناني-القبرصي الموقع عام 2007 وغير المنفذ

لكشف الخبايا والأهداف لا بد من التوقف عند عدة مراحل مر بها موضوع ترسيم الحدود البحرية في المياه المشتركة مع قبرص والعدو الاسرائيلي:

أهم المراحل: 

  • مشروع الاتفاق عام 2007 حدد نقطة الحدود البحرية المشتركة مع قبرص (نقطة رقم 1) بدون أي دراسة جدية من قبل الوفد اللبناني المفاوض. كما اعترضت تركيا على هذا الاتفاق وكل تفاصيله، وتبين لاحقاً أن الاتفاق مجحف بحق لبنان. لذلك أهمل الاتفاق ولم يصادق عليه من قبل الطرف اللبناني، وأصبح اتفاقاً مجمداً ولم يُفعّل تنفيذه بسبب عدم تفعيله من الجانب اللبناني.
  • بعد دراسة الموضوع لاحقاً من قبل الجيش اللبناني ونتيجة دراسة شركة بريطانية مختصة لترسيم الحدود البحرية، تبين لقيادة الجيش اللبناني (المسؤول الأول عن الحدود) أن نقطة الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة هي نقطة رقم 29، والتي على أساسها يكسب لبنان 1465 كلم² إضافية عن ما تعطيه نقطة رقم 23.
  • نتيجة لذلك، تزايدت الضغوطات الخارجية على الأطراف اللبنانية ودفعت للتفاوض بشكل غير مدروس ومبرر على نقطة الحدود رقم 23 (التي تبين لاحقاً أنها نقطة مقترحة من قبل العدو الإسرائيلي)، وأُجبر المسؤولون اللبنانيون على إرسال مرسوم إلى الأمم المتحدة يحدد فيه الحدود البحرية مع العدو عند نقطة رقم 23.
  • لكن لاحقاً بدأ التفاوض مع الطرف “الإسرائيلي” في الناقورة، وطرح الوفد اللبناني النتيجة التي توصل إليها، عطفاً على الدراسة التي وضعتها مؤسسة بريطانية مختصة بترسيم الحدود البحرية.
    بناء على هذه الدراسة العلمية المفصلة، حُدّدت نقطة الحدود البحرية اللبنانية مع فلسطين المحتلة عند نقطة رقم 29، وقدم الوفد المفاوض الملف وكل الدراسات على طاولة التفاوض مع العدو الإسرائيلي بإشراف الطرف الأميركي، حينها اعترض الوفد “الإسرائيلي” على هذا الطرح، مستغرباً أن المرسوم المرسل من قبل الحكومة اللبنانية إلى الأمم المتحدة يحدد النقطة المختلف عليها عند رقم 23.
    والفارق بين النقطتين حوالي 1453 كلم² من المياه البحرية لصالح لبنان، وطالب وفد العدو بإعادة دراسة الموضوع.
  • عندما عاد الوفد اللبناني المفاوض، أبلغ الرئيس ميشال عون بالموضوع وطلب تعديل المرسوم المرسل سابقاً إلى الأمم المتحدة، أخذًا بعين الاعتبار معطيات الدراسة البريطانية وتحديد النقطة البحرية الصحيحة عند رقم 29 وليس الرقم 23 المذكور في المرسوم المرسل سابقاً.
  • على هذا الأساس، دخل الموضوع في فصل جديد من المسرحية اللبنانية والقوانين، وإمكانية اتخاذ قرار بتعديل المرسوم. رئيس الوزراء حسان دياب كان في تلك الفترة مستقيلاً، ومن المستحيل تحضير وإقرار ما هو مطلوب من وثائق لتعديل المرسوم، ورئيس الجمهورية يتحجج بأن التعديل ضروري إقراره في مجلس الوزراء، وضاعت قضية تعديل المرسوم المتعلق بترسيم الحدود البحرية مع العدو المحتل للأراضي الفلسطينية.

تجمّد الوضع ولم يُصحح مرسوم الحدود البحرية مع العدو الإسرائيلي، وفقدنا إمكانية التفاوض على نقطة الحدود 29، وفقد لبنان 1454 كلم² من مياهه البحرية، وعاد التفاوض على النقطة 23، وأهملت السلطة عنصر التفاوض وضاعت القضايا بين المصلحة العامة والمصالح الخاصة.

  • وصل الأمر إلى أن تابعنا التفاوض على أساس نقطة الحدود رقم 23 ووقّع اتفاق بإشراف أميركي معروفة تفاصيله المجحفة للطرف اللبناني.

تلمح في الأفق مؤامرة جديدة على حقوق لبنان في مياهه البحرية، إحدى مظاهرها الإصرار على تصديق الاتفاق بين لبنان وقبرص بضغط أميركي، “إسرائيلي” وقبرصي.

تظهر بعض مفاصل هذا المخطط بما يلي:

قبل متابعة هذا المقال لا بد من التوقف عند نقطة خطيرة جدا أقدمت عليها الحكومة اللبنانية في 23-10-2025 وهي الرضوخ للضغوطات الأميركية وإقرار الاتفاقية الموقعة مع قبرص عام 2007.

  1. يجب الانتباه إلى أنه إذا كانت الحدود البحرية مشتركة بين عدة دول، يجب الاتفاق على نقطة معينة تحدد الحدود البحرية بين هذه الدول، ولا يمكن أن تكون الحدود عند عدة نقاط حسب البلد.
  2. يصر الأميركي أن على لبنان المصادقة وتثبيت الاتفاقية بين لبنان وقبرص لتحديد الحدود البحرية عند النقطة رقم 1، وليس نقطة رقم 23 المتفق عليها بين لبنان و”إسرائيل”. وهنا يطرح سؤال بديهي: أي نقطة تعتبر ثلاثية بين قبرص ولبنان و”إسرائيل”؟
  3. هذا الوضع يسمح “لإسرائيل” بأن تعتبر حدودها بين البلدان الثلاث عند النقطة رقم 1، وبذلك ستتغير كل ملامح الحدود البحرية بين البلدان الثلاث، وسيخسر لبنان، إضافة لما خسره بين النقطة 29 والنقطة 23 (1453 كلم²)، وبالانتقال إلى النقطة رقم 1 سيخسر لبنان أكثر بحوالي 830 كلم²، أي بجموع خسارة أكثر من 2283 كلم2 وكل بلوكات الغاز والنفط في حدوده البحرية الجنوبية. 
  4. اللافت للنظر بعض تصريحات نتنياهو المتكررة في الفترة الأخيرة، حيث يطمح لتعديل الاتفاق الموقع بين “إسرائيل” ولبنان حول الحدود البحرية، ومطالبة أمريكا المصادقة على الاتفاق بين قبرص ولبنان تكمن في إعطاء الفرصة للطرف “الإسرائيلي” بعد المصادقة من قبل لبنان على الاتفاق القبرصي أن يطرح تعديل الاتفاق الموقع بين لبنان و”إسرائيل”. والمطالبة بالنقطة الثلاثة بين العدو الإسرائيلي ولبنان وقبرص النقطة رقم 1.
  5. تعتبر الإدارة الأميركية أنها القوة الوحيدة في المنطقة التي تتحكم في مجرى الأحداث ولديها الإمكانية للتسلط والتحكم، وخاصة في الظروف التي تمر بها المنطقة، وبالأخص في لبنان. وتعتبر أميركا أنها تسيطر وتتحكم بتطور الوضع في لبنان والمنطقة، ومن مصلحتها التنسيق مع “إسرائيل” في وضع اليد على البترول والغاز في المنطقة وطرد الشركات الأوروبية وغيرها من المنطقة، بما فيها شركة توتال الفرنسية. 

هنا تكمن تفاصيل المخطط الأميركي وأهداف ترسيم الحدود البحرية مع قبرص وفي المنطقة بشكل عام. ووضع يدها على مصادر الغاز والنفط وفرض سلطتها على المنطقة بالتعاون مع العدو الاسرائيلي على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية.

في هذا الوضع لا يجوز الاستسلام لمشاة الإدارة الأميركية والعدو الإسرائيلي كما فعلت الحكومة اللبنانية في جلستها 23-10-2025 وصادقت على الاتفاقية مع قبرص. 

في ظل الضغوط الأميركية المتصاعدة على لبنان لدفعه الى المصادقة على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع قبرص على القوى الوطنية والتقدمية أن تعلن رفضها القاطع لأي خطوة تمس بسيادة لبنان وثروته البحرية. إن الإصرار على تثبيت النقطة الحدودية مع قبرص رقم 1 كنقطة انطلاق للحدود بين البلدين يخفي هدفا بالغ الخطورة اذ يسعى العدو الإسرائيلي خلال هذا التثبيت الى اعتبار تلك النقطة نقطة ثلاثية تجمع بين لبنان وقبرص وفلسطين المحتلة مما يعني عمليا شطب حقوق لبنان بحدوده البحرية الجنوبية وفتح الباب أمام العدو الإسرائيلي للمطالبة بمساحات بحرية شاسعة غنية بالنفط والغاز تشمل البلوكين 9 و10 أي الجزء الأكبر من الثروة البحرية اللبنانية. 

إنَّ هذه الخطوة الخطيرة التي أقدمت عليها الحكومة اللبنانية دون موافقة المجلس النيابي عليها لا يمكن أن تعتبر نافذة وستشكل تفريطا خطيرا بحقوق لبنان السيادية والاقتصادية.

لذا ندعو الحكومة ومجلس النواب في لبنان إلى تجميد أي مصادقة أو تعديل يتعلق بنقطة رقم 1. كما نؤكد أن الثروة البحرية اللبنانية ليست ورقة تفاوض أو مساومة سياسية بل هي حق ثابت وملك للأجيال القادمة والدفاع عنها واجب مقدس. إنَّ لبنان الذي دافع عن أرضه في وجه الاحتلال لن يسمح بتضييع بحره وثروته تحت ضغط التهديد. وحدتنا ووعينا هما السلاح الأقوى في مواجهة هذه المحاولة الخطرة. فعلى الشعب والقوى الوطنية والتقدمية المقاومة بمختلف الأشكال.

Author

  • د. نضال الشرتوني

    دكتور مهندس طاقة، أستاذ جامعي من لبنان لديه العديد من الدراسات والأبحاث في اختصاصه وفي المجال الاقتصادي العام.

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

غزة في مواجهة الرهانات الأميركية

بعد إعلان وقف إطلاق النار واستئناف عملية تبادل الأسرى الذي جرى بموجب اتفاقية بين قوى المقاومة والاحتلال والتي تم رعايتها واحتضانها برافعة دولية وإقليمية تكون

إجراءات ضمّ الضفّة الغربيّة وتصفية القضيّة الفلسطينيّة

إنّ مواجهة سياسة الضمّ تتطلّب استنهاضَ دور حركة التحرّر العربيّ، وإقامةَ جبهةٍ تقدّميّةٍ عربيّةٍ لإحياء المشروع الوطنيّ التحرّريّ الشامل ضدّ المشروع الإمبرياليّ– الصهيونيّ التوسّعيّ، وضدّ التبعيّة والاستبداد

قرصنة صهيونية ضد “أسطول الصمود العالمي”

منذ عامين والعدو الصهيوني يمعن في جرائمه النازية في قطاع غزة ويحاصره، ويمنع وصول المساعدات الإنسانية إليه، ويمارس قرصنة في المياه الدولية لمنع وصول سفن