نحو مبادرة لبعث الحياة في الهيئات الشعبية الاجتماعية

-+=

عندما نعود إلى بداية ستينيات القرن العشرين نجد أنّ انطلاق عملية تأسيس الدولة الكويتية الحديثة قد ترافقت معها عملية تشكّل الهيئات الشعبية الاجتماعية، بدءاً من جمعيات النفع العام بما فيها الجمعيات المهنية، مروراً بتأسيس الحركة النقابية العمالية بنقاباتها واتحاداتها، وصولاً إلى تأسيس الحركة الطلابية… وللتاريخ نسجل أنّ الحركة الوطنية الكويتية بتياراتها القومية واليسارية والمدنية هي، التي قادت عملية تأسيس تلك الهيئات الشعبية والنقابية في ظل حالة الانفراج السياسي، بينما لم تكن هناك في المقابل أي مساهمة تُذكر للتيار الإسلامي في عملية التأسيس، وهذا على خلاف ما آلت إليه الحال بعد ذلك بدءاً من النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين في ظل التراجعات، التي شهدتها الكويت والمنطقة في أعقاب اشتداد الهجمة ضد حركة التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي العربية، وما تعرّضت له الحركة الوطنية الكويتية من استهداف وتهميش.

ولا يمكن لأي متابع لتاريخ الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في الكويت خلال عقدي الستينيات والسبعينيات أن ينكر المساهمات الايجابية البارزة للهيئات الشعبية في الدفاع عن الحريات، وتجسيد رقابة الرأي العام الشعبي على الحكومة، والنهوض بالمجتمع، وتحقيق مكتسبات وطنية واجتماعية ومعيشية ومهنية، بالإضافة إلى تصدي الهيئات الشعبية إلى جانب المعارضة الوطنية في مجالس الأمة الأولى للاتفاقيات النفطية المجحفة، التي حاولت شركات النفط الأجنبية تمريرها، وخاضتا معاً معركة تأميم شركات النفط، التي تبنتها الدولة في العام ١٩٧٥، بالإضافة إلى إبراز الدور الشعبي في القضايا التحررية العربية.

ورغم القيود القانونية، واجراءات التضييق الحكومية، والتراجع المؤسف عن مشروع بناء الدولة الكويتية الحديثة، وتنامي نفوذ قوى الفساد والرأسمال الطفيلي، واستخدام بعض أطراف التيار الديني لإضعاف المعارضة الوطنية ولإشغال المجتمع في صراعات وهمية وهامشية طائفية وإثارة دعوات متزمتة تتصل بالحريات الشخصية وبالمرأة والثقافة والحرية الأكاديمية، إلا أنّ الهيئات الشعبية بمكوناتها المختلفة واصلت حضورها ودورها بين حالات مدٍّ وجزر وتذبذب بين ثبات وتراجع حتى ما قبل الاحتلال في العام ١٩٩٠.

لكن الأمر تبدّل بعد ذلك على نحو سلبي متسارع، وتعرضت الهيئات الشعبية بمكوناتها المختلفة إلى محاولات محمومة ومنظمة للسيطرة عليها، بل لتخريبها من مراكز النفوذ المتصارعة وقوى الفساد المتنامية، أدّت إلى إفراغها من مضامينها الديمقراطية وتحويلها إلى واجهات فارغة وكيانات هشّة وخاملة، فأصبحت مقار معظم جمعيات النفع العام مجرد ديوانيات للشلل المسيطرة على مجالس إداراتها…وفَقَدَت غالبية الجمعيات المهنية دورها في تعزيز القيم والأعراف المهنية، بل تراجع دورها في الدفاع عن مصالح المهنيين أنفسهم… وتحوّلت الانتخابات النقابية العمالية والطلابية في غالبها إلى ساحات تنافس قبلي وطائفي … وضعف دور الحركة النقابية العمالية في الدفاع عن الحقوق العمالية، ما عدا استثناءات محدودة… وتراجع دور الحركة الطلابية، بل لم يعد لها في السنوات الأخيرة دور يُذكر في التصدي للمشكلات التي يعانيها الطلبة، وذلك قبل قرار تجميدها بشكل تام في سبتمبر من العام الماضي!

وللحقيقة والتاريخ فقد نبّهت مبكراً التيارات الوطنية التقدمية والديمقراطية بالإضافة إلى بعض أصحاب الرأي والأقلام المستنيرة إلى تلك السلبيات وتداعياتها الخطرة، كما انطلقت بعض المبادرات والمحاولات الإصلاحية الجزئية، التي دعت إلى تصحيح مسار مؤسسات المجتمع المدني.

أما اليوم، وبفعل إجراءات التضييق المتزايدة، التي تضاف إلى ما سبق من عوامل فقد تدهور حال الغالبية العظمى من الهيئات الشعبية من جمعيات نفع عام وجمعيات مهنية وحركة نقابية، ولعلّها أقرب ما تكون إلى حالة موت إكلينيكي، وهذا ما أدى إلى تهميش دور الرأي العام الشعبي وغياب رقابته في وقت يفترض أنّ الحاجة فيه أصبحت ملحّة إلى هذا الدور في ظل تعطيل الحياة النيابية.

لقد آن الأوان لانطلاق جهود استثنائية مخلصة ومبادرات إصلاحية جادة لبعث الحياة في الهيئات الشعبية – الاجتماعية بمكوناتها المختلفة وتجاوز أوضاعها البائسة وتصحيح مسارها واستعادة دورها… وهذه دعوة لذلك… فهل من مستجيب؟

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

فنزويلا وكولومبيا تستحقان التضامن

شهدت الأسابيع الماضية تصعيداً إمبريالياً أميركياً خطيراً موجّهاً ضد جمهورية فنزويلا البوليفارية وضد الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو، اللذين لم يكن صدفة أنهما من أبرز المتضامنين

لا للمزايدة على المقاومة

فيما تحلّ الذكرى السنوية الثانية لطوفان الأقصى، فإنّه رغم ضراوة حرب الإبادة الصهيونية وما صاحبها من تقتيل وتشريد وتجويع وتدمير وحشي غير مسبوق، ورغم الإسناد،

“إسرائيل الكبرى” .. تهديد وجودي

تصريح مجرم الحرب الصهيوني بنيامين نتنياهو عما أسماه رؤية “إسرائيل الكبرى” لم يكن زلّة لسان، وإنما هو إفصاح متعمّد في هذا التوقيت بالذات على لسان

الغزو بين التاريخ ودروس الحاضر

جاء الغزو العراقي الغاشم للكويت في الثاني من أغسطس/ آب من العام ١٩٩٠ ليشكّل زلزالاً قوياً وذلك ليس في الكويت فحسب، وإنما على مستوى المنطقة