ملاحظات حول الشعبوية من منظور يساري
علينا أن نتداول أمر هذه الظاهرة المتنامية في العالم والممتدة إلى منطقتنا ومجتمعنا.
ضرورة منهجية:
إن الوعي الذي يمثل محوراً هاماً في تاريخ الإنسانية ما يزال هو القضية الأكثر اشتباكاً في أروقة المفكرين سواء مؤرخين أم فلاسفة أم ساسة، فالوعي يتشكل عن طريق بنى فكرية مختلفة ومتنوعة ومتسعة المصادر والتي مردها حتماً – لا طواعية – إلى واقعها المادي التاريخي، لكن تلك البنى الفكرية لا تنفصم عراها عن ذلك الواقع المادي الذي يشكلها بل يعزى لها الأهمية القصوى والحيوية في تشكل الوعي واللاوعي أيضاً في صور أخرى تتعلق ببناء ما يسمى الصور الذهنية؛ لذا تأتي قضايا الأدب والفن والدين والأخلاق والسياسة والسلوك النفسي كبناءٍ فوقي يشكّل بنية الوعي الإنساني بكافة صوره وأشكاله حتى لو كان وعياً مزيفاً أو مسلوباً، ينعكس ذلك البناء الفكري في مرآة الأيديولوجيا التي تؤدي وظائفها الثلاث الفعّالة كما وصفها بول ريكور بالتشويه والتبرير والإدماج عن طريق أجهزة الدولة الأيديولوجية؛ لذلك جاء عنوان المقال معبراً عن الصلات الوثيقة بين الوعي والأدب والتاريخ.
توطئة تاريخية:
المجتمع المصري منذ اندلاع ثورة 1919 كان في محل البحث عن إجابة تخص تساؤل الهوية والذات، وقد اقترن كلاً من السؤال والإجابة بحجري زاوية إحداهما متعلقة بهزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى (1914-1918) والتي رفعت شعار الجهاد المقدس المرتبط بشعار أكبر وهو الجامعة الإسلامية الذي تبناه السلطان عبد الحميد، والآخر متعلق بمدى إمكانية إعادة تشكّل وهيكلة طبقية للمجتمع، الذي كان قد مر بمنحنيات وتغيّرات تاريخية منذ أواخر عصر محمد علي باشا والي مصر، تحديداً منذ اسقاط نظام الاحتكار بموجب معاهدة بلطة ليمان والتي تم تضمينها كأحد بنود تسوية لندن 1840، وانفتاح السوق المصرية أمام البضائع والمنتوجات الأوروبية في ظل مناخ الاقتصاد الحر، كما كان لنشوء طبقة بورجوازية زراعية كبيرة دوراً في التحول التاريخي منذ عصر سعيد بموجب اللائحة السعيدية التي صدرت في أغسطس عام 1858، والتي سمحت بتمليك الأرض وتوريثها، ومن بعدها صدور قانون المقابلة في عهد الخديوي إسماعيل في أغسطس 1871، مما سمح لاتساع تلك الطبقة المالكة للأرض الأمر الذي استتبعه تكوُن ثروات كبيرة شكّلت رؤوس أموال يعاد استثمارها في المجال الزراعي، وقد ترافق هذا مع إصلاحات سياسية قام بها النظام السياسي المصري ممثلاً في الخديوي إسماعيل الذي أصدر قرار تأسيس مجلس شورى النواب في 1866 ليمثل مصالح تلك الطبقة الجديدة، والتي يشكل أغلبها كبار الملاك الريفيون وقد انتقلوا لسكنى المدن وممارسة السياسة تحت مظلة الحياة النيابية الجديدة وتمثيلهم في مجالس المديريات، الأمر الذي سيجعلهم فيما بعد رأس حربة التغيير السياسي والنضال ضد الاحتلال البريطاني.
فالطبقة الجديدة – رجوعاً إلى عصر نشوئها وتطورها – استطاعت الإجابة عن سؤال الهوية بأنها قومية مصرية خالصة، ليس هذا فحسب بل اذكاء نعرات الوحدة الوطنية؛ لضمان الاستقرار داخل بنية المجتمع وقوة نسيجه من ناحية، ومن ناحية أخرى لكي تضمن تلك النخب السياسية والثقافية بقاء مصالحها وامتيازاتها من خلال مفاوضة الإنجليز على الجلاء والدستور، فقد امتلكت البورجوازية المصرية الزراعية وعياً من الممكن أن نسميه الوعي الجديد، وهو وعي بالذات المصرية بحق النزوع إلى الصدارة؛ لتفسح الطريق أمام تشكُل حركة وطنية تزيح من أمامها الأتراك وأعوان الإنجليز من الصدارة، في عملية تمصير خالصة بدأت شرارتها الحقيقية في مارس 1919 رافعين شعار قد دشنه مؤسسو حزب الأمة وهو مصر للمصريين، هذا الوعي الجديد انعكس على الحركة الثقافية ككل في الفن والتاريخ والأدب والصحافة؛ لينشأ مزاج عام اجتماعي مرده إلى الطبقة البورجوازية يؤمن بالاستقلال والدستور في نضاله ضد الإنجليز، منوط به تأسيس مجتمع يجيد مأسسة ترتيبات السياسة، الأمر الذي انتج جدلياً مزاج آخر يخص ما تسمى طبقة الأفندية وهي من الشرائح الوسطى من الطبقة الوسطى.
هل تأسست النهضة الثقافية على الإرث المصري القديم؟
ففي خضم التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية منذ مصر العثمانية حتى ثورة 1919 لم يكن هناك تناول لتراث المصريين القدماء – كما فعلت أوروبا في عصر النهضة حيث الارتكاز على العلوم والفنون والفلسفات الاغريقية والرومانية والتراث الهيللينستي- أو المناداة بذلك، بل العكس من ذلك فقد امتثل المجتمع لأفكار الجامعة الإسلامية التي نادى بها جمال الدين الأفغاني، واتبعها واستمسك بها كلا الزعيمين الوطنيين مصطفى كامل ومحمد فريد وسائر البورجوازية المصرية أثناء نضالها ضد الانجليز قبل ثورة 1919، باعتبار مصر من رعايا الدولة العثمانية وخليفة المسلمين القابع على عرشه في الآستانة إلا أنه بعد الثورة وطريق مرير من النضال المصري ضد الانجليز والقصر وأعوانهما في فترات العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن المنصرم، بدأت أفكار الهوية واللغة القومية المصرية تجد طريقها في كتابات تتسق مع سياقات التغير السوسيو- سياسي الحادث، بالإضافة إلى الأسباب آنفة الذكر نجد سبباً آخر قد لعب دوراً حيوياً وهاماً في ظهور أفكار الهوية، وهو دور البعثات التعليمية التي كان يرسلها محمد علي إلى فرنسا واُستأنفت بعد فترة توقف (في عهدي عباس باشا وسعيد باشا) في عهد الخديوي إسماعيل، فكان التعليم في مدارس وجامعات أوروبا الغربية له أبلغ الأثر على عقول البورجوازية المصرية، أما انعكاس ذلك على الأدب فإن ظهور أحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل ومحمود تيمور ومحمد تيمور وفريد أبو حديد وسلامة موسى وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وعباس العقاد غيرهم من قامات سامقة في الثقافة المصرية، هو ظهور معكوس لتلك التحولات والتمظهرات، ومن ثم اتخذت أشكال كتاباتهم وأفكارهم شكل العودة إلى الذات المصرية والتمحور حولها بعد أن كانت في كنف العثمنة والجامعة الإسلامية طوال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فقاموا بالبحث في أعماق بنية المجتمع وسبر أغوار طبقاته والغوص في تلافيف الشخصية المصرية لا تقتصر فقط على طبقاته العليا الحاكمة، فضلاً عن تناول البنية الفوقية بشكل ناقد وقوي باحثين عن ركام العقل المصري مع اختلاف رؤية ومنهج كلا منهم.
على سبيل المثال لا الحصر يظهر كتاب طه حسين المثير للجدل العقلي “في الشعر الجاهلي” كما ينسب الفضل إليه في إدخال جانب التحليل السيكولوجي للشخصية المصرية والتي ظهرت بجلاء في رواية “الأيام”، ويتجلى كتاب “الإسلام وأصول الحكم” لعلي عبد الرازق ليثير قضية الحكم وترتيباته وإعادة النظر في قداسة منصب الحاكم وتبيان تهافت نظام الخلافة الإسلامي، وهي إشارة عن مقاومة ونقد عنيف للدولة العثمانية تُظهر مدى اشعاع تيار القومية المصرية، من خلال تبيان أهمية التعددية والحرية مقابل هيمنة استبداد وقمع نظام الخلافة الدينية لكنها حرية وتعددية آخذة طابع وصياغة إسلامية، ثم تهل علينا رائعة “عودة الروح” لتوفيق الحكيم الذي كان يتوق إلى عودة روح وحرية المجتمع بعد فترة قيد وتبعية، ثم تخرج إلينا ثلاثية نجيب محفوظ التاريخية “عبث الأقدار” و”رادوبيس” و”كفاح طيبة”؛ لتخاطب الذات المصرية وقد استلهم فيها محفوظ من تاريخ مصر القديم وكأنه وجد ضالته في ايقاظ الروح المصرية؛ ليتعمق في بنية الطبقات المختلفة خصوصاً الطبقة الوسطى بشرائحها الوسطى والصغيرة.
لكن هل يعتبر ذلك التعبير عن تيار القومية المصرية الحديثة قطيعة ابستمولوجية مع الماضي السحيق وأقصد به الحضارة المصرية القديمة أو ما يسمى بالتاريخ الفرعوني؟، الذي – من وجهة نظري – لم يعد يصلح لينبني عليه نهضة حداثية كما فعلت أوروبا أثناء عصور نهضتها، وربما هذا يساعد إطلاق الاتهامات بالوقوع في مزالق ميكانيكية التفسير التاريخي من حيث القول بالقطيعة المعرفية، ما يعني في حقيقته القطيعة السوسيو- تاريخية مع الماضي في حين تراكمه.
الرد على الاتهامات المتوقعة:
بالنظر إلى مسألة التراكمات في مصر والشرق ونظيره الغرب، سنجد أن الغرب الأوروبي نجح في الإفادة من الإرث اليوناني والروماني القديم لعدة أسباب منها:
أما التراث المصري القديم فلم يعد قابل للاستمرار بل أصبح عاجزاً عن مسايرة التطور والتغير التاريخي لأسباب منها: عامل اللغة وتطورها، فاللغة المصرية القديمة لغة ديناصورية منقرضة لم تعد موجودة كممارسة فعلية في المجتمع، حتى علومهم وفنونهم كانت في ظل عدم وجود أي عوامل وظروف تكنولوجية لأنها لم تخترع بعد في عصرهم عكس أوروبا التي دخلت مجال الكشوف الجغرافية واكتشاف الآلات، ما يدفعنا في تلك اللحظة إلى وصف هذه القطيعة بالقطيعة التقنية والأداتية معرفياً؛ لذلك فإن فكرة القطيعة المعرفية هي بمثابة حتمية التجاوز للانتقال إلى الحداثة، لكنها حداثة بعيدة عن العثمنة والخلافة، واحلال تساؤلات الهوية واللغة المصرية محلها، وفي نفس الوقت ليست قطيعة سوسيو- تاريخية بقدر ماهي تراكم أدى إلى تحولات سياسية وفكرية كبرى.
قصارى القول إن الوعي الذي أنتج الأدب والفن هو وعي مصري حديث في ذاته، قام بنقد القديم وامتلأ بتفجر طاقات كانت كامنة، ثم انفجرت في وجه الثوابت، وما كان يُظن أنه ثوابت، وانفجر ضد الاستعمار وضد الفكر الديني السياسي وضد مفاسد المجتمع والطبقة الحاكمة محرضاً على الثورة على القديم وطرحه أرضاً، مما يحرضنا على محاولة استقراء واستكشاف ما تختاره الذاكرة المصرية في زمن القلق.
علينا أن نتداول أمر هذه الظاهرة المتنامية في العالم والممتدة إلى منطقتنا ومجتمعنا.
علاقة الفكر بالواقع، وعلاقة الأسبقية بينهما، والبراكسيس قضايا تُشكل أحد المباحث الرئيسة في النظرية الماركسية – اللينينية التي أدخلت من خلالها جديدها في الفلسفة النفيي لمفهومها المثالي والمادي الميكانيكي في آن معاً. فالفكر (الوعي) غير منفصل عن الواقع وتناقضاته وهي علاقة توجب تمييز مفهومها، ولتحديد تلك العلاقة هناك ضرورة، منهجية، لتحديد كيفية ارتباط الفكر بالواقع وبالبراكسيس ودورهم في التغيير.
نظام تعليمي لا يملك المواطن القدرة العقلية والإرادة المعنوية التي تساعده على اكتساب المهارات لقراءة وفهم واقعه للوصول إلى حقيقة وجوهر ما يدور حوله من ظواهر وأحداث. ولا يهتم برغبات التلميذ ولا يلبي حاجاته ولا يطور القدرات التي تمكن التلميذ من الخلق والابتكار والإبداع أو تملكه مهارات التحليل والتركيب والقبول والرفض والرؤى النقدية.
عُرِفَ الشعب الإيرلندي كأكثر الشعوب الغربيّة تأييداً للقضيّة الفلسطينيّة، حيث برز هذا التضامن في السنوات الأخيرة وخصوصاً بعد أحداث السابع من أكتوبر. ففي الأشهر الماضية، خرج الإيرلنديون بأعداد ضخمة في وقفات تضامنية في العاصمة الإيرلندية دبلن للتعبير عن دعمهم لفلسطين واستنكارهم لجرائم الاحتلال الإسرائيلي.