ما هو المغزى من النظام الذي يعرض فيه العلم ظاهرته؟

يضطلع العلم، المنهج، بتفسير موضوعاته وإزاحة الغموض عنها، وهو في طريقه لتحقيق غايته تلك يخلف موضوعاته في عرض مُنظم واضح، ومُحْكَم وشامل. وهو يفترض النظام المنطقي ليس فقط في عرضه للنتائج بل كمنطلق ضروري إليها. لكن تراكماً طويلاً ومعقداً (لا يأخذ شكلاً واحداً) من المطابقة الميكانيكية الساذجة بين المادة والوعي، بين العلم وموضوعه، قد خلع النظام العلمي بمضمونه الإنساني الغرضي الواعي على الطبيعة نفسها. وبكلمات أخرى جرى إغفال التمايزات والحدود بين عالم الضرورة العمياء (الطبيعة في تطورها الخالص) وبين عالم الضرورة المُدْرَكَة (المجتمع البشري في تطوره التاريخي) الأمر الذي سَبَّبَ ارتباكاً هائلاً بشأن إمكانية تَصَوُّر الطبيعة في تطورها الخالص. والطريق الوحيد لتفسير هذا التعسر، تمهيداً لتصفيته، هو في التسلل الواعي للظروف الموضوعية التي أوجبته، أي إلى خلفيته المادية التاريخية.

إن العلم بصفته ظاهرة حضارية خاصة، بصفته نشاطاً مستقلا (نسبياً) عن سائر الأنشطة الإنسانية الأخرى ويقوم على غاية مُحَدَّدَة باستخدام طرق وأدوات معينة هو ظاهرة حديثة جداً تكاد لا تملك أي زمن قياساً إلى عُمْر الكون المعروف لدينا (14 مليار سنة)، بل حتى قياساً إلى تاريخ وجود الإنسان العاقل الحالي من الناحية العضوية (النوعية البيولوجية) قبل حوالى 350 ألف سنة.

الشروط المادية التاريخية لغموض ظاهرة الوعي

لكن لماذا لا تتضح هذه المسألة ببساطة وتحسم نفسها على هذا النحو في كل مناسبة تطرحها؟ إن الإجابة على هذا السؤال تقوم في عرض الكيفية التي تطور بها الوعي في التاريخ، في تفسير التناقض بين تحققه وممارسته وبين غموض ماهيته وإنكاره. يرتبط الوعي، تماماً، بالحياة المادية الإنتاجية للبشر حتى في أكثر همومه حداثة وأشدها تجريداً، إذ أنه تمخض أساساً للوجود عن إمكانية نوعية فسيولوجية بدماغ الإنسان، إمكانية طورها العمل البدائي في سياق تلبية الحاجيات المادية المباشرة اللازمة لاستمرار صاحبها. إن هذه المسألة الأساسية جداً نجدها في صميم سائر التطورات الحضارية اللاحقة على هذا الطور البدائي، هذه المسألة التي هي مرشدنا الرئيسي لاستيعاب هذا التعقيد والتركيب الهائل للتفاعل الواقعي بين الوعي والمادة في عالم اليوم.

إن تاريخاً ضرورياً من التطور المادي الإنتاجي قد كان لازماً من أجل تحقق نشاط الوعي على وجه الاستقلال، فقبل هذا الانفصال لم يكن بمقدور المجتمع البشري بَعْد أن يتخلى عن قسم من أعضائه لصالح ممارسة التفلسف مثلاً، أو أي شكل من أشكال النشاط الذهني، بمعزل عن مجريات النشاط الإنتاجي، إذ لم تكن الوفرة الإنتاجية اللازمة لحدوث انفصال من أجل هذا الغرض قد أُتيحَت بعد. وقَبْل هذا الانفصال (انفصال العمل الذهني عن العمل اليدوي) مُورِسَ الوعي في خضم النشاط العملي ولأجله، أي كانت القوى المنتجة تطور خبراتها المعرفية في صميم عملية الإنتاج ولأجلها دون أن ينفصل الوعي في ذهنها عن العمل وهي الظروف التي يمكن، جداً، أن نسميها بأول الشروط المادية لانطلاق صيرورة غموض مصدر الوعي في التاريخ. إن تطور القوى المنتجة في التاريخ ليس مُخَطَّطاً سلفاً، فالضرورة المادية الإنتاجية وما يترتب على تلبيتها، تاريخياً، من قفزات تطورية نوعية للمجتمع البشري ومنها مثلاً تطور نشاط الوعي على وجه الاستقلال لا تَمْثُل، مُسَبَّقاً، كتصور أو غاية في ذهن أعضاء المجتمع ولكنها نتيجة لاحقة عن حل التناقضات الآنية الملحة.

وعلى ضوء هذه الظروف يمكننا أن نفهم مثلاً لماذا كانت الأسطورة هي أول أشكال الوعي في التاريخ، الوعي بصفته وجوداً أو نشاطاً مستقلاً. فلم  يكن تطور ونمو ظاهرة تقسيم العمل قُبَيل هذه المرحلة، ولظروف تقيدها بحالة إنتاجية معينة، أن توفر الشروط اللازمة لتبلور نشاط الوعي المستقل الناضج إلى الدرجة التي تُمَكِنُه من أن يعرف مصدره وظروف تحققه، أي أن ينظر إلى ذاته باعتبارها موضوعاً، الأمر الذي جعل من التفسيرات الأسطورية والدينية أولى محاولات الإنسان لفهم العِلَّة من وجوده ووجود عالمه.

وامتداداً لهذا التعقيد الذي تبلور به نشاط الوعي مستقلاً في التاريخ اقترنت عملية انفصال العمل الذهني عن العمل اليدوي، لاحقاً، بانفصال آخر وهو انقسام المجتمع البشري نفسه لأول مرة إلى طبقات اجتماعية تتحدد تبعاً لموقعها من ملكية وسائل الإنتاج. لقد أدى مبدأ الوفرة ذاته الذي سمح بانفصال العمل الذهني عن العمل اليدوي إلى ظهور طبقة لا تساهم بأي قسط في عملية الإنتاج بل تديرها لصالحها وتستحوذ على ثمارها. ومنذ نشأة المجتمع العبودي واستقراره لم تعد ظاهرة تشوش ماهية الوعي ومصدره خاضعة فقط للتطور (السلمي) لعملية تقسيم العمل، أي الذي تحدده شروط مادية إنتاجية محايدة، بل أن تطور القوى المنتجة وتطور وسائل الإنتاج وعملية الإنتاج برمتها أصبحت خاضعة في تطورها إلى مُحَدِد اجتماعي رئيسي جديد وهو الصراع الطبقي، وأن العزلة التي حاقت بنشاط الوعي منذ انفصاله عن النشاط العملي الإنتاجي المباشر أخذت تتشدد بفعل اعتبارات السيادة الطبقية واستقرارها. 

ما هي المعرفة؟

تُعْرَف عملية إنتاج المعرفة بأكثر ضروراتها أولية وهي التجريد. ونشاط التجريد هو نشاط ذهني متطور تماماً عن العمليات الذهنية اليومية التي يقوم بها الإنسان في مجريات نشاطه الحياتي العادي. وعلى العكس من الممارسة الفطرية لنشاط التفكير التي تتصل مباشرة بواقعة عيانية فردية وملموسة فإن التفكير المجرد يهدف إلى معالجة الظواهر بصفتها الكلية. والعلم إذ يسعى لهذه الكلية والشمول في تفسيراته فهو يجرد موضوعه من ملابساته الجزئية الحسية العابرة حتى يضعنا في النهاية أمام مفاهيم وتصورات تتجاوز الموضوعات والظواهر في عيانيتها وتستوعبها في آن. والعلم إذ يعزل موضوعاته عن نسبيتها ويحملها في تصورات عمومية فإنما بغرض تفسيرها والعودة الواعية لفاعليتها الحياتية. وبإمكاننا فهم النظام المنطقي للعلم والتفكير المجرد على أنه السلسلة التي يتدرج فيها نشاط التجريد بإزاء فحصه لموضوعاته. فالوصول إلى تصورات كلية، إلى قوانين، هي عملية تنطلق من أبسط المفاهيم وصولاً إلى أعقدها، أو هو تفكيك الظاهرة في مفاهيم تعرض خصائصها المفردة على حدة تمهيداً إلى تركيبها مفاهيمياً على نحو سليم. وعلى اختلاف المذاهب العلمية والفلسفية في التاريخ وعلى تباين صحة نتائجها بشأن موضوعاتها فإنها جميعاً تعمل بهذه الطريقة، أي النظام المفاهيمي.

ديالكتيك العلاقة بين المعرفة والواقع

لكن تاريخاً طويلاً من استقلال النشاط المعرفي  بمعزل، نسبياً، عن النشاط الإنتاجي، وكلياً (تعسفياً) في أذهان المفكرين والعلماء، قد خَلَّفَ فهماً مثالياً للعلاقة بين منظومية العلم ونسقيته وبين موضوعه، أي المطابقة الصورية القسرية بين حركة الواقع المادي بشقيه الطبيعي والاجتماعي وبين العلم الذي ينقل هذه الحركة للوعي. فبدلاً من العودة المستمرة للواقع وفحص الموروث المنهجي وتنقيحه على ضوء التطورات المادية المتلاحقة أُقْحِمَ المنهج باستمرار على الطبيعة والمجتمع من خارجهما، الأمر الذي لم يؤد فحسب إلى نتائج ساذجة ومشوَهَة بل انتهى إلى عقلنة الكون وغائية الطبيعة. 

لقد أوضح إنجلس هذه المسألة ببراعة في معرض دحضه لمذبحة دوهرنغ الغائية قائلاً: “لكنه كما هي الحال في مختلف أجنحة الفكر، فإن القوانين التي اُستخلِصَت من العالم الواقعي تفترق في مرحلة معينة من التطور عن هذا العالم الواقعي وتُجَابَه به على اعتبارها شيئاً مستقلاً، على اعتبارها قوانين آتية من الخارج ينبغي للمجتمع أن يتطابق معها. هكذا حدثت الأمور مع المجتمع والدولة، وبهذه الطريقة وليست بأية طريقة أخرى، طُبِّقَت الرياضيات المحضة لاحقاً على العالم على الرغم من أنها مستعارة من العالم نفسه وهي لا تمثل سوى جزء واحد من الأشكال التي تركبه وهي إنما يمكن تطبيقها لهذا السبب وحده”

إن كلمات إنجلس توضح لنا العلاقة الحقيقية الجدلية بين النظام الفلسفي العلمي وبين الواقع الموضوعي، فليس الإقرار بإنسانية العلم الحقيقي نفياً لموضوعيته، وفي المقابل لا تلغي موضوعية العلم واستقلال موضوعه التدخل الواعي فيه، إنما العلاقة بينهما جدلية، يأخذ كل منهما مكانه الصحيح فيها، علاقة وحدة بين نقيضين يحتفظان بتمايزاتهما وحدودهما داخلها. وإن النظام المنطقي الذي يتمتع به العلم إنما هو عملية متطورة أبداً تغتني بحل التناقضات التي لا تمَل الطبيعة من طرحها في طريق الإنسان كلما نجح مرحلياً في تذليلها واستيعابها.

انتصار المادية الديالكتيكية مسألة صراع طبقي

لكن كما أوضحنا سابقاً، لم تعد مسألة رد الاعتبار إلى مادية الطبيعة والمجتمع وجدلية علاقتهما بالمعرفة بمعزل عن الصراع الطبقي. إن قوى الإنتاج ومنذ انقضاء المجتمع المشاعي القبلي واستقرار المجتمع الطبقي في التاريخ، بادئاً بطوره العبودي، لم تعد تكافح الطبيعة وحدها بل أن انتصار نضالها بالعمل الواعي من أجل إخضاع الطبيعة وإعادة إنتاج شروط الحياة على نحو أرقى أصبح مشروطاً بنضالها الطبقي المفتوح على تصفية نمط الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ضد القوى الاجتماعية الرجعية التي لا تهدد فقط تطور قوى الإنتاج وتعيقه، بل تهدد بتصفية كل منجز تاريخي بشري، وهو الصراع الذي يفصح عن ذروته اليوم في نضال الطبقة العاملة لتهشيم الإمبريالية وسحقها.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

الطوفان وأزمة عزمي بشارة

إن صلب أزمة بشارة مع الطوفان أن صوت الأكاديميا والتنظير الحبيس في الصالونات الثقافية ودفات الكتب يدخل في امتحان حقيقي ما إن تقع المعركة، وفي هذا الامتحان برزت هشاشة منظور بشارة ولتذهب كل الجهود والموارد التي عمل عبرها في تقديم أطروحته.

في مفهوم أسبقية الواقع على الفكر والبراكسيس والتغيير

علاقة الفكر بالواقع، وعلاقة الأسبقية بينهما، والبراكسيس قضايا تُشكل أحد المباحث الرئيسة في النظرية الماركسية – اللينينية التي أدخلت من خلالها جديدها في الفلسفة النفيي لمفهومها المثالي والمادي الميكانيكي في آن معاً. فالفكر (الوعي) غير منفصل عن الواقع وتناقضاته وهي علاقة توجب تمييز مفهومها، ولتحديد تلك العلاقة هناك ضرورة، منهجية، لتحديد كيفية ارتباط الفكر بالواقع وبالبراكسيس ودورهم في التغيير.

السودان.. التعليم وبناء الإنسان

نظام تعليمي لا يملك المواطن القدرة العقلية والإرادة المعنوية التي تساعده على اكتساب المهارات لقراءة وفهم واقعه للوصول إلى حقيقة وجوهر ما يدور حوله من ظواهر وأحداث. ولا يهتم برغبات التلميذ ولا يلبي حاجاته ولا يطور القدرات التي تمكن التلميذ من الخلق والابتكار والإبداع أو تملكه مهارات التحليل والتركيب والقبول والرفض والرؤى النقدية.

[zeno_font_resizer]