ملاحظات حول الشعبوية من منظور يساري
علينا أن نتداول أمر هذه الظاهرة المتنامية في العالم والممتدة إلى منطقتنا ومجتمعنا.
أولاً: لمحة عن التنوير ونشوء الاتجاهات التنويرية في البلاد العربية وتطورها:
غالباً ما يتم تعريف “التنوير” بالقول إنه حركة فلسفية، فيما تتفاوت بداياتها في أوروبا عند المؤرخين بين القرن السادس عشر والنصف الثاني من القرن السابع عشر، وتُربط عادةً بعصر النهضة، وإنْ كان الرأي الشائع أنّ القرن الثامن عشر هو عصر التنوير، عندما مارس التنوير تأثيره الكبير على تكوين النظرة الاجتماعية… ويتكرر التأكيد على أنّ التنوير ظاهرة أوروبية على وجه العموم، وفرنسية على وجه التخصيص.
ويُشتَهر عند الحديث عن التنوير ما كتبه كانت في مقاله المنشور عام 1784 بعنوان “جواب عن سؤال: ما التنوير؟”، وتحديداً قوله: “كن جريئاً في إعمال عقلك. هذا هو شعار التنوير”… وإنّه يعني “لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه” (مراد وهبة، المعجم الفلسفي، 2007، دار قباء الحديثة، القاهرة).
ولئن كان هناك كثيرون يطلقون على باريس اسم عاصمة التنوير، إلا أنّ هناك مَنْ يحدد هولندا في القرن السابع عشر كمركز لانطلاقة التنوير، حيث كانت أكثر دول أوروبا ليبرالية حينذاك، وكانت ملجأً للمفكرين الأحرار… وفي المقابل هناك مَنْ يرى أنّ بداية عصر التنوير ارتبطت بالثورة الانجليزية المجيدة في العام 1688، التي أطلقت “وثيقة الحقوق” وكذلك “قانون التسامح” في 1689.
ولكني أظن أنّ غالبية تعريفات مصطلح التنوير وتحديد نطاقه الزمني، تعاني من قصور يجب الانتباه إليه.
أول نقاط القصور تتمثّل في أنّ التنوير ليس مجرد حركة فلسفية، وإنما هو كذلك اتجاه سياسي اجتماعي ينطوي على قيم واخلاقيات وسلوك وأنماط حياة وأساليب في الحكم، حاول ممثلوه أن يعالجوا بها نواقص المجتمع وشروره، وذلك عبر نشر أفكار الخير والعدالة والمعرفة العلمية.
وثاني نقاط قصور هذه المحاولات لتعريف التنوير، أنها تنطلق من نزعة مثالية تركّز بالأساس على الدور المقرر للوعي في تطور المجتمع، وكأنه هو المعطى الأول، من دون ربط ذلك الوعي بالواقع وحركته وبأنه نتاج ما شهدته المجتمعات الأوروبية حينذاك من تحولات كبرى بالانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية… فالتنوير وكذلك الحداثة هما محصلة التحديث الرأسمالي، ولم يتشكلا بمعزل عنه، أي أنّ عصر التنوير يمثّل المرحلة الانتقالية من الإقطاع إلى الرأسمالية بقيادة البرجوازية الأوروبية، وهذا هو الأساس الموضوعي لتشكّل حركة التنوير وتطورها… إنّ نضال التنويريين أو المنورين كان موجهاً بالأساس ضد الأنظمة الإقطاعية وبالتبعية ضد ركائزها الدينية ممثلة في الكنيسة والجمود الديني، وموجهاً كذلك ضد التقاليد الاجتماعية السائدة، عبر نشر المعارف وإقامة “مملكة العقل”.
عصر التنوير يمثّل المرحلة الانتقالية من الإقطاع إلى الرأسمالية بقيادة البرجوازية الأوروبية، وهذا هو الأساس الموضوعي لتشكّل حركة التنوير وتطورها… إنّ نضال التنويريين أو المنورين كان موجهاً بالأساس ضد الأنظمة الإقطاعية وبالتبعية ضد ركائزها الدينية ممثلة في الكنيسة والجمود الديني، وموجهاً كذلك ضد التقاليد الاجتماعية السائدة، عبر نشر المعارف وإقامة “مملكة العقل”.
وثالث نقاط قصور تلك المحاولات لتعريف التنوير، أنها لا تشير إلى تراجع تأثير التنوير على التفكير الاجتماعي في عصرنا الحاضر، وذلك لكون التنوير بالأساس يمثّل محطة انتقال أوروبا من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، وهي محطة تم تجاوزها هناك، بينما لما نبلغها نحن بعد في ظل التبعية من جهة، وفي ظل التخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي من جهة أخرى، وفي ظل استمرار وجود أو استمرار تأثير البنى التقليدية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية… وبتعبير آخر فإن أوروبا والمراكز الإمبريالية والرأسمالية المتقدمة تجاوزت التنوير وهي تشهد اليوم عصر ما بعد الحداثة، بينما لا نزال نحن نرزح في عصر ما قبل الحداثة.
أوروبا والمراكز الإمبريالية والرأسمالية المتقدمة تجاوزت التنوير وهي تشهد اليوم عصر ما بعد الحداثة، بينما لا نزال نحن نرزح في عصر ما قبل الحداثة.
وإذا انتقلنا إلى نشوء الاتجاهات التنويرية في بلادنا العربية، وتحديداً المشرق، في أواخر القرن التاسع عشر وتطورها وصولاً إلى انحسارها في أواخر القرن العشرين، فقد يكون أوضح من حدد المراحل التي مرّت بها حركة التنوير في البلاد العربية هو د. عبدالله حنا في مؤلفه الهام (أعلام العقلانية والتنوير ومجابهة الاستبداد، نون 4 للنشر والطباعة والتوزيع، حلب، ط1، 2010) ، حيث قسّمها إلى أربع مراحل:
المرحلة الأولى تبدأ مع التنظيمات (حركة الإصلاح) في منتصف القرن التاسع عشر وتنتهي مع انهيار الدولة العثمانية عام 1918، وقد سادت في تلك المرحلة فترة مظلمة تمثلت بحكم السلطان عبد الحميد، الذي استهل حكمه بالقيام بثورة مضادة لحركة الإصلاح.
المرحلة الثانية تمتد بين الحربين العالميتين وتتميز: بتكوين الوعي الوطني… وانتشار أفكار التنوير والعقلانية… ورفع راية النضال الوطني المناهض للإمبريالية … ووضع أسس المجتمع المدني.
المرحلة الثالثة مرحلة نيل الاستقلال الوطني بعد الحرب العالمية الثانية، ومن سماتها في الدول العربية، التي وصفها بالمتقدمة: التصنيع، الإصلاح الزراعي، التأميمات، تعاظم دور الدولة، وتضاؤل الولاءات العشائرية والمذهبية والطائفية والعائلية، مع رجحان كفة العقلانية وتقلص دائرة المحرمات.
المرحلة الرابعة تمثلت في الربع الأخير من القرن العشرين، التي تميزت بتراجع أفكار النهضة وانتعاش أفكار ما قبل النهضة وقيمها المتمثلة بعودة الطائفية والعشائرية… وخفوت وهج العقلانية… واحتلال التيارات الدينية المتشددة المساحة الأوسع في النشاط الفكري والعمل السياسي، وعودة الفكر الغيبي، وهيمنة الدولة الأمنية بالتزامن مع انتهاء دور أوروبا البرجوازية المناهضة للإقطاع واختفاء دور أوروبا الاشتراكية، وبروز الرأسمالية البربرية الأميركية، وبروز التيارات الدينية. (عبد الله حنا ص ص 7-9).
ثانياً: العوامل التي ساهمت في تشكّل الاتجاهات التنويرية في البلاد العربية:
وهنا نتوقف أمام تأثيرات حركة إصلاح النظم الإدارية وأساليب الحكم في الدولة العثمانية وفق مصالح البرجوازية التركية الناشئة على الأوضاع في البلاد العربية التابعة، من خلال ما عرف باسم “عهد التنظيمات” بين 1838 وصولاً إلى إعلان دستور “المشروطية” في 1876، وذلك قبل أن يتم الانقضاض عليها في عهد السلطان عبد الحميد سنة 1878، وكانت تلك الحركة الإصلاحية والدستورية تعبيراً عن محاولة البرجوازية التركية إزاحة السطوة الإقطاعية وتحقيق الثورة البرجوازية الديمقراطية بتأثير مما حدث في أوروبا، ومنها امتدت تأثيراتها إلى البلاد العربية التابعة للدولة العثمانية… ثم تكررت حركة الإصلاح عبر انقلاب عسكري فوقي في العام 1909 بإزاحة السلطان عبد الحميد وعودة الدستور وقيام الأحزاب وإطلاق الحرية النسبية للصحافة، إلى أن انهارت الدولة العثمانية في 1918 ما مهد الطريق أمام بروز حركة الاستقلال والتحرر الوطني العربية.
ثالثاً: التحديات والمشكلات والعوائق التي عرقلت نمو الاتجاهات التنويرية في البلاد العربية:
رابعاً: إطلالة على تعدد الاتجاهات التنويرية في البلاد العربية:
هناك نظرة سائدة في معظم الكتابات المتصلة بالتنوير في البلاد العربية تحصر الاتجاهات التنويرية ضمن ثلاثة توجهات:
كما أنّ هذه النظرة السائدة تحصر نطاق الاتجاهات التنويرية في بلدان المشرق العربي متجاهلة الاتجاهات التنويرية في البلدان العربية المغاربية من جهة، وفي البلدان العربية في الخليج والجزيرة العربية من جهة أخرى.
هناك نظرة سائدة في معظم الكتابات المتصلة بالتنوير في البلاد العربية تحصر الاتجاهات التنويرية ضمن ثلاثة توجهات: التوجّه الديني المستنير – التوجّه الليبرالي – التوجّه القومي أو العروبي الاستقلالي.
هذه النظرة السائدة تحصر نطاق الاتجاهات التنويرية في بلدان المشرق العربي متجاهلة الاتجاهات التنويرية في البلدان العربية المغاربية من جهة، وفي البلدان العربية في الخليج والجزيرة العربية من جهة أخرى.
وأتوقف هنا أمام ثلاثة أمثلة يتم استثناؤها في الغالب:
أولهما: التوجّه الماركسي والاشتراكي، الذي يجري تجاهل أهميته وتهميش دوره في حركة التنوير، مع أنّ هناك أسماء بارزة من رواد التنوير هم من الماركسيين والاشتراكيين، مثل: فرح أنطون، ورفيق جبور، أحد مؤسسي الحزب الشيوعي المصري في العشرينات… والماركسي العراقي منذ العشرينات عبد القادر إسماعيل البستاني، واليساري العراقي خريج الجامعة الأميركية في بيروت عبد الفتاح إبراهيم مؤسس حزب الاتحاد الوطني في العراق، والسياسي العراقي الديمقراطي المستنير كامل الجادرجي، والمثقفان المصريان الكبيران محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس صاحبا كتاب “في الثقافة المصرية” في العام 1955، والمفكر والأديب اللبناني رئيف خوري، والمعماري انطوان ثابت، وعبد الله باذيب في عدن، وغيرهم كثيرون.
وعلى نحو ملموس وعلى أرض الواقع، وأبدأ بأهم مشروع تحديث تقدمي شهده وطننا العربي الكبير، يتمثّل في تجربة اليمن الديمقراطي في ظل قيادة الجبهة القومية، التي حررت جنوبي الجزيرة العربية من الاستعمار البريطاني ووحدت إماراتها وسلطناتها التي زادت عن الأربع والعشرين إمارة وسلطنة ومشيخة لتشكّل دولة حديثة هي جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بين نوفمبر/ تشرين ثاني 1967 ومايو/ أيار 1990، قبل اندماجها في إطار الجمهورية اليمنية، حيث تبنى المؤتمر العام للجبهة الذي انعقد في مارس/ آذار من العام 1968 بعد أربعة أشهر من الاستقلال أهدافاً تنموية طموحة تمثلت في: تنفيذ الإصلاح الزراعي فوراً، وتحويل الاقتصاد من الخدمات إلى الصناعة، ومكافحة الأمية في الريف.
وشهدنا على الأرض في اليمن الديمقراطي أسرع وأنجح تجربة لمحو الأمية، في بلد ريفي صحراوي، حيث أعلنت اليونسكو في 6 أبريل/ نيسان من العام 1985 أن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية تحتل المرتبة الأولى من حيث التعليم في دول شبه الجزيرة العربية، ومعظمها دول نفطية ثرية، وكانت نسبة الأمية حينذاك في اليمن الديمقراطي لا تتعدى 2% من عدد السكان، وذلك فقط بعد نحو 18 عاماً على الاستقلال .
وشكّل قانون الأسرة (الأحوال الشخصية) الذي صدر في الأول من يناير/ كانون الثاني من العام 1974 خطوة كبيرة في اتجاه الإقرار بحقوق المرأة وتكافؤ الفرص بينها وبين الرجل، وهو قانون متقدم لا يقل أهمية عن القانون التونسي بشأن المرأة الصادر في العام 1956 وقانون الأحوال الشخصية العراقي الصادر في العام 1959، ولا ننسى هنا أن نشير إلى أنّ أحد أبرز قادة تلك التجربة هو المناضل المثقف والشاعر عبد الفتاح إسماعيل.
أما التجربة التحديثية الأخرى في الجزيرة العربية، التي قلما يجري الحديث عنها، فقد تمثلت في الانجازات الاجتماعية والثقافية التي حققتها الجبهة الشعبية ذات التوجه الماركسي عندما كانت تقود الثورة في إقليم ظفار جنوبي عمان بين 1965 و1975 في ظل ظروف التخلف والبؤس والفقر والاستبداد، ناهيك عن الهيمنة الاستعمارية البريطانية، حيث حررت آلاف العبيد في “المناطق المحررة” التي تمكنت من السيطرة عليها، ومنعت استخدام كلمة “حريم” واعتمدت تعبير “نساء” ودفعت باتجاه تحرير المرأة ومنع التمييز ضدها ووضعت قواعد تقدمية للأحوال الشخصية، وخصوصاً في قضايا الزواج والمهور والطلاق، وأطلقت حملة مكثفة لمحو الأمية، وكانت نواتها “مدرسة لينين” التي أسستها المناضلة البحرينية الراحلة هدى (ليلى فخرو)، وأوفدت بعثات تعليمية للدراسة والتدريب وإعداد الكوادر المهنية إلى عدد من الجامعات والكليات والمعاهد في الاتحاد السوفياتي السابق وبلدان شرقي ووسط أوروبا وكوبا وبعض البلدان العربية.
أما ثاني التوجهات التنويرية التي يجري تجاهلها عند الحديث عن التنوير والتحديث في بلدانا العربية، فهو التوجّه السلطوي التنويري والتحديثي بالاعتماد على الريع النفطي وجهاز الدولة، وليس بالانطلاق من دور العناصر المستنيرة في المجتمع من البرجوازية الوليدة والضعيفة، وهي أمثلة شبيهة إلى حد ما بالتجربة الرائدة لمحمد علي في مصر، وتتمثّل على نحو ملموس في التوجّه التحديثي والتنويري الذي قاده بعض شيوخ القبائل من الارستقراطيات العشائرية الحاكمة في بلدان الخليج، وهذا ما نجد أبرز نماذجه بعيداً عن أية أوهام حول طبيعته الطبقية أو مبالغات حول مداه وأبعاده أو تبجيل تتمثّل في الشيخ عبد الله السالم بالكويت، المثقف الموسوعي المستنير، الذي رأس مجلس الأمة التشريعي في العام 1938 على الرغم من كونه أحد أقطاب الأسرة الحاكمة، وذلك قبل الانقضاض السلطوي الاستعماري البريطاني عليه، وما أحدثه لاحقاً من إصلاحات واسعة وتحديث وتغييرات في بنية المجتمع والدولة عندما استلم الإمارة في العام 1950 قبل الاستقلال… وكذلك الشيخ زايد في أبو ظبي، الذي قاد أهم تجربة اتحادية ناجحة في البلاد العربية بقيام دولة الإمارات في بداية السبعينات بعد الانسحاب البريطاني… وما أنجزه سلطان عمان قابوس من تحديثات سريعة في المجتمع والدولة، بعدما أزاح والده السلطان الرجعي سعيد بن تيمور لقطع الطريق على نمو الثورة في ظفار وامتدادها إلى مناطق أخرى من عمان والخليج.
والأهم أو الأبرز ما تشهده السعودية من عملية تحديث واسعة في إطار مشروع بناء دولة رأسمالية إقليمية بقيادة رأسمالية الدولة التابعة والمعتمدة على الريع النفطي، حيث لم يقتصر هذا المشروع على مشروعات سياحية وعقارية مثلما هي الحال في بعض دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، التي تحولت بعض مدنها إلى مدن كوسموبوليتية، ولم يحصر هذا المشروع الجاري في السعودية نفسه ضمن نطاق التحديث بمعناه الاقتصادي والتقني رغم أهميته، والذي تتمثّل أبرز عناوينه في الاستراتيجية الوطنية للصناعة التي تستهدف إنشاء نحو 25 ألف مصنع قبل العام 2035 منتشرة في مختلف أنحاء السعودية وليس في منطقة انتاج النفط في المنطقة الشرقية مثلما هي الحال منذ الأربعينات، مع دمج جدي لقوة العمل السعودية عبر سياسة حازمة لما يطلق عليه هناك “السعودة”، وإنما ارتبط هذا التحديث الاقتصادي والتقني بتدابير ذات أبعاد حداثية وتنويرية تمثلت في تقليم أظافر المؤسسة الدينية وتحجيمها، خصوصاً هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوسيع هامش الحريات الشخصية بعيداً عن وصاية المؤسسة الدينية، على الرغم من عدم توسيع هامش الحريات السياسية والعامة، وإدخال تعديلات ملموسة وتحديثات على مناهج التعليم، والانفتاح الفني والثقافي على نحو ملحوظ في المهرجانات الفنية والفعاليات الثقافية ومعارض الكتب.
ولعله من غير الممكن تجاهل هذه العملية التحديثية ذات الأبعاد الحداثية، التي تجري في السعودية، والاستخفاف بها، ولكن في الوقت نفسه سيكون من الخطأ الاكتفاء بالانبهار بها والحماس المفرط تجاهها، وإنما لا بد من متابعتها في حركتها وتطورها ودراستها وتحليلها والانتباه إلى ما تنطوي عليه من تحديات جدية وما يعتمل داخلها من تناقضات وصراعات قائمة، وإن كانت محكومة، وكذلك استشراف ما ستفرضه عملية التحديث هذه بأبعادها الحداثية من استحقاقات مستقبلية ستفرض نفسها على مستوى البنية السياسية للدولة السعودية، وخصوصاً استحقاق الحريات السياسية والمشاركة الشعبية، بالإضافة إلى استحقاقات العدالة الاجتماعية في ظل سطوة التوجهات النيوليبرالية.
وثالثاً، من حيث النطاق الجغرافي عند الحديث عن الاتجاهات التنويرية في البلاد العربية، فإنه قلما جرى الالتفات نحوه عند تناول التنوير وتاريخ التنوير في بلادنا العربية، وهو الصراع حول التنوير، الذي شهدته مجتمعات الخليج والجزيرة العربية، التي جرى التعامل معها وكأنها صحراء قاحلة وبداوة جاهلة وأطراف مستبعدة وحقول نفط مستنزفة… وكثيراً ما تردد مثال متعالٍ يستخف بعرب الصحراء، بالقول: لو ركب البدوي الذي يمتطي الجمل سيارة حديثة فإنه سيبقى بدوياً، ولكن الواقع أبرز على نحو ملموس أنّ البدوي لم يكتفِ بأن يكون راكباً، بل إنه ساق السيارة وأمسك بمقودها وعرف كيفية تشغيلها وقيادتها، ولاحقاً تدرب كحرفي على كيفية إصلاح أعطالها، بل أنّه هناك في بعض بلدان الخليج اليوم بدايات لمصانع سيارات، تبدأ بالتجميع نعم، ولكنها تجاوزت بالتأكيد الاكتفاء بجلوس البدوي على مقعد السيارة، مثلما يفترض المتعالون من أصحاب هذا المثال الكاريكاتوري.
عند الحديث عن الاتجاهات التنويرية في البلاد العربية، فإنه قلما جرى الالتفات نحوه عند تناول التنوير وتاريخ التنوير في بلادنا العربية، وهو الصراع حول التنوير، الذي شهدته مجتمعات الخليج والجزيرة العربية، التي جرى التعامل معها وكأنها صحراء قاحلة وبداوة جاهلة وأطراف مستبعدة وحقول نفط مستنزفة…
وسأضرب أمثلة على الحال في الكويت، حيث شهد المجتمع الكويتي منذ بدايات القرن العشرين سلسلة من الصراعات الجدية والمعارك المتتالية بين عناصر الاستنارة والإصلاح والتحرر والتحديث من جهة وبين قوى الرجعية السياسية والدينية والاجتماعية من جهة آخرى، التي تستحق إبرازها كعناوين لمعارك التحديث والتنوير، ومن بينها:
خامساً: هل تواجه الاتجاهات التنويرية في بلادنا العربية مشكلات عابرة قادرة على تجاوزها؟ أم أنها تواجه أزمة مستعصية؟
هناك مَنْ يرى أنّ التنوير العربي قد فشل، وهناك مَنْ يرى أنّ التنوير العربي لم يفشل لأنه لم يبدأ، وآخرون يرون أنّ التنوير العربي تعطّل ولم يفشل ولكنه لما يكتمل بعد.
وأقترح هنا قراءة مقالة هامة للأستاذ الدكتور صالح شقير تحت عنوان “إخفاق التنوير العربي” نشرها في (مجلة جامعة دمشق، المجلد 30، العدد 1+2 العام 2014، الصفحات من 393 إلى 438). ومما جاء في تلك المقالة: “ليس منطقياً أن نحكم بالإخفاق على بدايات تجربة “التنوير” العربية” التي لم تتضح لنا تماماً، ولم تستمر، ولم تكتمل، إذ كانت الجهود أشبه بالفردية، فلم يشكّل التنويريون تياراً مترابطاً يرتكز على إنتاج معرفة جديدة، انطلاقاً من توجهات فلسفية، فالقاسم المشترك بين كثير منهم هو تأثرهم بالثقافة الغربية، خاصة الفرنسية، ومن ثمّ بفلسفة الأنوار الأوروبية، إلا أنهم لم يمارسوا القطيعة المعرفية التي تؤدي إلى نقد عميق للإرث الثقافي وشوائبه” (ص 394).
وفي موقع آخر من مقالته الهامة يطرح الأستاذ الدكتور صالح شقير في أسئلة مثل “لماذا أخفق وانتكس فكر التنوير ومشروع النهضة العربية منذ نشوئه في أواسط القرن التاسع عشر؟ ولماذا نجحت مشاريع متزامنة معه أو لاحقة عليه في مناطق ومجتمعات أخرى من العالم؟ وهل هناك إمكانية لاستئناف ذلك المشروع من جديد في مفاصله الأساسية ضمن بيئة وظروف داخلية وخارجية مغايرة ومعقدة؟” (ص 428).
كما ينقل الأستاذ الدكتور صالح شقير في مقالته عن المفكر طيب تيزيني أن سبب إخفاق التنوير العربي يعود إلى مسألتين: الأولى تزامن مرحلة النهضة الأولى مع ظاهرة الاستعمار، بحيث طغت قوة الاستعمار على فكر التنوير العربي الناشئ… والثانية هي التأثيرات السلبية للريع النفطي والانقلابات العسكرية والنظام العالمي الجديد.(ص 429).
فيما يستنتج الأستاذ الدكتور صالح شقير “أنّ أسباب انتكاس متعددة ومتنوعة بلا ريب، ولكن السبب جوهري يبقى في نظرنا غياب الدولة المدنية الحديثة القائمة على مؤسسات دستورية…” (ص 432).
ولست هنا في موضع التقليل من أهمية هذه العوامل والأسباب، ولكني أرى أنّ موضع العوامل والأسباب الأساسية التي تقف وراء تعثّر التنوير العربي يقع في مكان آخر، يتمثّل:
سادساً: سبل خروج التنويريين العرب من أزمتهم:
إنّ خروج التنويريين العرب من أزمتهم مرتبط بالأساس بفهم لأسباب هذه الأزمة وللعوامل التي أدت إلى تعطيل التحديث والتنمية وكرست التخلف.
وأظن أنه من الوهم انتظار تشكّل برجوازيات وطنية مستقلة في بلداننا، فهي بحكم مصالحها وارتباطاتها وظروف تشكلها ضعيفة وتابعة ومرتبطة باقتصادات وأنشطة ريعية وطفيلية مضاربية، والبديل في الغالب قد يكون عبر تشكّل بدايات مشروعات رأسماليات دولة، أو عبر طريق التنمية الوطنية المستقلة المعتمدة على الذات بالاستناد إلى مصالح الجماهير الشعبية الواسعة، ومن خلال إصلاحات سياسية ديمقراطية تفرضها حركة الجماهير وقواها التقدمية والوطنية والديمقراطية، أو تفرض التغيير بتحقيق مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية بمعزل عن دور قيادي للبرجوازية الوطنية مثلما كان سائداً.
من الوهم انتظار تشكّل برجوازيات وطنية مستقلة في بلداننا، فهي بحكم مصالحها وارتباطاتها وظروف تشكلها ضعيفة وتابعة ومرتبطة باقتصادات وأنشطة ريعية وطفيلية مضاربية، والبديل في الغالب قد يكون عبر تشكّل بدايات مشروعات رأسماليات دولة، أو عبر طريق التنمية الوطنية المستقلة المعتمدة على الذات بالاستناد إلى مصالح الجماهير الشعبية الواسعة، ومن خلال إصلاحات سياسية ديمقراطية تفرضها حركة الجماهير وقواها التقدمية والوطنية والديمقراطية، أو تفرض التغيير بتحقيق مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية بمعزل عن دور قيادي للبرجوازية الوطنية مثلما كان سائداً.
وبحيث يتحقق في هذا السياق:
*الصورة: جدارية 100 عام من التنوير للفنان التشكيلي المصري صلاح عناني
علينا أن نتداول أمر هذه الظاهرة المتنامية في العالم والممتدة إلى منطقتنا ومجتمعنا.
علاقة الفكر بالواقع، وعلاقة الأسبقية بينهما، والبراكسيس قضايا تُشكل أحد المباحث الرئيسة في النظرية الماركسية – اللينينية التي أدخلت من خلالها جديدها في الفلسفة النفيي لمفهومها المثالي والمادي الميكانيكي في آن معاً. فالفكر (الوعي) غير منفصل عن الواقع وتناقضاته وهي علاقة توجب تمييز مفهومها، ولتحديد تلك العلاقة هناك ضرورة، منهجية، لتحديد كيفية ارتباط الفكر بالواقع وبالبراكسيس ودورهم في التغيير.
نظام تعليمي لا يملك المواطن القدرة العقلية والإرادة المعنوية التي تساعده على اكتساب المهارات لقراءة وفهم واقعه للوصول إلى حقيقة وجوهر ما يدور حوله من ظواهر وأحداث. ولا يهتم برغبات التلميذ ولا يلبي حاجاته ولا يطور القدرات التي تمكن التلميذ من الخلق والابتكار والإبداع أو تملكه مهارات التحليل والتركيب والقبول والرفض والرؤى النقدية.
عُرِفَ الشعب الإيرلندي كأكثر الشعوب الغربيّة تأييداً للقضيّة الفلسطينيّة، حيث برز هذا التضامن في السنوات الأخيرة وخصوصاً بعد أحداث السابع من أكتوبر. ففي الأشهر الماضية، خرج الإيرلنديون بأعداد ضخمة في وقفات تضامنية في العاصمة الإيرلندية دبلن للتعبير عن دعمهم لفلسطين واستنكارهم لجرائم الاحتلال الإسرائيلي.