أسباب ومظاهر الأزمة الخانقة للاقتصاد المصري

-+=

تمر مصر بأزمة اقتصادية خانقة، هي الأسوأ في تاريخها الحديث، وإذا كانت هناك عوامل خارجية قد ساهمت في هذه الأزمة، آخرها حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني في غزة وما واكبها من تفجر الوضع في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر بين اليمن والتحالف الذي تقوده أميركا، مما تسبب في خسائر في الإيرادات المصرية من الغاز المُصدر من الكيان الصهيوني عبر مصر أو إيرادات قناة السويس، وما سبق ذلك من تأثير الحرب الروسية الأوكرانية، التي صاحبها تباطؤ سلاسل الإمدادات وارتفاع التكاليف، وما سبق ذلك أيضاً من مشاكل للاقتصادات العالمية بسبب وباء كورونا، أدت إلى ارتفاع غير مسبوق في معدلات التضخم العالمية، إلا أن كل تلك العوامل لم تكن السبب الأساسي لأزمة الاقتصاد المصري، ولكنها كانت كاشفة عن هشاشته وانهياره أمام الصدمات والظروف الخارجية الطارئة، وأن السبب الحقيقي هو عدم وجود سياسة كلية اقتصادية شاملة ومستدامة تستهدف زيادة ثقل القطاعات الإنتاجية في الاقتصاد المصري، خاصة في الصناعة والزراعة والطاقة، وتقليل الاعتماد على الخارج في سد الاحتياجات المحلية، الاستثمارية والاستهلاكية، بالإضافة إلى الأخطاء المستمرة في السياسات المالية والنقدية والاقتصادية. وقد حذر الحزب الشيوعي المصري، بالإضافة إلى 11 حزباً تضمها الحركة المدنية الديمقراطية المصرية (12 حزباً تشمل أربعة أحزاب اشتراكية وثلاثة أحزاب ناصرية وخمسة أحزاب ليبرالية) من هذه الأخطاء طوال السنوات السبع الماضية.

وتتجلى مظاهر الأزمة الاقتصادية المصرية في الآتي:

  1. استمرار تزايد العجز في الموازنة العامة للدولة، نتيجة لتراجع دور القطاعات الإنتاجية في الاقتصاد المصري، والاعتماد على إيرادات غير  مضمونة الاستدامة أو النمو وقابلة للاهتزاز بسبب أي أحداث خارجية، مثل إيرادات السياحة وقناة السويس وتحويلات المصريين العاملين في الخارج، وأيضاً لتزايد أعباء خدمة الديون.
  2. تراكم الدين العام المحلي والأجنبي، لتتجاوز نسبة كليهما معاً إلى الناتج المحلي الإجمالي أكثر من 120%، حيث ارتفعت الديون المحلية إلى نحو 5500 مليار جنيه بنمو نسبته 303% عن حجمها عام 2014، وقفزت الديون الخارجية من 46.1 مليار دولار عام 2014 إلى 170 مليار دولار بنهاية 2023، وتجري مفاوضات حالياً مع صندوق النقد الدولي للحصول على قروض جديدة قيمتها 12 مليار دولار، لسد جزء من أعباء أقساط وفوائد الديون المطلوبة هذا العام والتي تصل إلى 26 مليار دولار، وسد الباقي عبر الإسراع في بيع الأصول المملوكة للدولة والأراضي في المواقع المميزة لمستثمرين أجانب.
  3. دخول مصر في الحلقة المفرغة لمصيدة الديون، والحاجة المتزايدة إلى الاقتراض لتغطية العجز، فتزداد خدمة الدين، فتضطر الدولة للاقتراض أكثر …. وهكذا.
  4. عدم وجود خطة للتنمية المستدامة، والاعتماد في تحقيق معدل النمو على الطلب على الأنشطة العقارية والإنشائية والريعية والخدمات، واستخدام معظم القروض السابقة في مشروعات عقارية ضخمة كالعاصمة الإدارية وغيرها، لا تدر عائداً مستداماً وليست من أولويات الاحتياجات المصرية الاقتصادية والاجتماعية، وإهمال القطاعات الإنتاجية أو بيعها، وصاحب ذلك تقزيم القطاع العام، أحد الأدوات الاقتصادية المهمة في يد أي دولة لتحقيق توازن اقتصادي واجتماعي، وذلك بتصفية العديد من قلاع الصناعة وخصخصة الكثير من الشركات الصناعية والزراعية، التي حول المستثمرون نشاطها إلى مجالات الترفيه والأبراج والمنتجعات، حتى انخفض عدد عمال القطاع العام إلى 250 ألف عامل مقابل 600 ألف عام 2017 و2.2 مليون عامل عام 1974، سنة بدء انطلاق تلك السياسات المتبنية لدمج السوق المصري في السوق الرأسمالي العالمي، وانسحاب الدولة من المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وفوضى حرية رأس المال وحرية السوق بلا تخطيط أو ضوابط، وهي السياسات التي تراكمت سلبياتها ووصلت إلى ذروتها في السنوات السبع الماضية.
  5. تزايد العجز في الميزان التجاري، نتيجة لتراجع الاهتمام بالقطاعات الإنتاجية، وتقلص الإنفاق العام على الاستثمار والخدمات الصحية والتعليمية، وتزايد الاستيراد لمعظم الاحتياجات الغذائية والدوائية، بل والاستيراد السفيه (مثل السيارات الفارهة وسلع الاستهلاك الترفيه).
  6. انهيار الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية، وهبوطه إلى مستوى لا يكاد يكفي الاحتياجات الاستيرادية لأكثر من 4 أشهر، بافتراض عدم استخدام أي جزء منه في سد أعباء خدمة الدين.
  7. اللجوء إلى بيع الأراضي والأصول المملوكة للدولة للمستثمرين الأجانب، بأبخس الأثمان تحت ضغط الحاجة للنقد الأجنبي، والتوسع في الضرائب غير المباشرة وزيادة نسبتها على ما يستهلكه المصريون من سلع وخدمات وزيادة الرسوم على المعاملات الحكومية كاستخراج رخص أو توثيق شهادات وخلافه مما يزيد أعباء المعيشة على الطبقات الكادحة وشرائح واسعة من الطبقة الوسطى.
  8. القفزات الهائلة في الأسعار ومستويات التضخم، بفعل إهمال قطاعات الإنتاج والتوسع في الاستيراد والممارسات الاحتكارية لكبار المستوردين والتجار، والحرية المطلقة للسوق بلا أي ضوابط أو رقابة، حتى قفز معدل الفقر في مصر وفق تقرير للبنك الدولي من 33% عام 2014 إلى 60% في عام 2023 ، أي أكثر من 60 مليون مواطن.
  9. التعويم المتتالي للعملة تنفيذاً لشروط صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على قروض، مما يؤدي إلى تدهور القيمة الحقيقية (القوة الشرائية) للأجور والمعاشات نتيجة للانخفاضات المتتالية في قيمة الجنيه المصري، وكان التعويم الأول عقب مفاوضات الصندوق مع الحكومة في نوفمبر 2016 ليقفز الدولار إلى 20 جنيهاً مقابل 7 جنيهات قبل التعويم، قبل أن يستقر عند 17 جنيهاً حتى بداية 2020، ثم توالت أربعة قرارات تعويم خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة ليصل الدولار إلى 31 جنيهاً في البنوك ويتراوح بين 55 و75 جنيهاً في السوق السوداء نتيجة للمضاربات في العملة، وتتفاوض مصر حالياً مع صندوق النقد الدولي للحصول على قروض جديدة، ويشترط الصندوق تعويم العملة إلى جانب الإسراع ببيع ما تبقى من القطاع العام وتخارج الدولة من الأصول المملوكة لها، ويتوقع خبراء الاقتصاد والمؤسسات المالية الدولية أن يقفز الدولار عقب التعويم المقبل إلى أكثر من 50 جنيهاً بسعر البنوك الرسمي. ويعني ذلك انهيار القوة الشرائية للأجور، أي تراجع الطلب الفعال على السلع والخدمات، والذي يشكل محفزاً ضرورياً لنمو الاستثمار والإنتاج الرأسمالي، ولهذا تعاني آلاف المصانع الصغيرة والمتوسطة من التعثر والتوقف والإغلاق.

هذه أهم مظاهر الأزمة الاقتصادية الخانقة في مصر، الناتجة عن التمسك بسياسات ثبتت نتائجها الكارثية، وتجاهل السياسة والرؤية البديلة لإنقاذ الاقتصاد المصري، التي يتواصل طرحها من قبل أحزاب المعارضة الوطنية، وفي قلبها الحزب الشيوعي المصري والأحزاب الاشتراكية والناصرية، طوال السنوات السبع الماضية، وهذا ما يمكن التعرض له تفصيلاً في مقال آخر.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

القضايا القومية من منظور التقدميين الكويتيين

إن طريق شعوب الأمة العربية نحو التقارب والاتحاد مرتبط بالضرورة بالتحرر الوطني والقومي، فالوحدة العربية ليست مجرد حلم قومي مأمول، وإنما هي خطوة مستحقة على طريق استكمال التحرر الوطني والقومي، بما في ذلك إزالة التجزئة.

مآلات العدوان الصهيوني الأميركي على إيران

التحدي الذي يواجه طهران اليوم يتمحور في كيفية التعاطي مع التطورات التي سبقت وأعقبت العدوان، وأهمها الاختراقات الأمنية التي كادت أن تحدث فرقاً كبيراً، وفي التعاطي مع الداخل الإيراني الذي أكد مجدداً الانتماء لبلده

شبح الإستعمار الترامبي ودفتر الشروط والشيكات 

مسار الصراع الوطني والطبقي في المنطقة عسير وخطير، وأمام اليسار وقوى التحرر والديمقراطية امتحان فكري وسياسي وتنظيمي، ومراجعة للتخلص من الفئوية والرمادية والتشرذم، وبناء أواصر الثقة مع الفئات الكادحة، وإطلاق ورشة عمل لتوحيد الصفوف وتنظيمها

لا مجد في الحرب

تُستقى حكمة المعركة الحقيقية من فنادق الخمس نجوم حيث تُعقَد صفقات السلاح، ومن الغرف المغلقة حيث تتفاوض النخب عبر الحدود لتسوية الأمور لمصلحتها.