مارس شهر رحيل الذين بذروا..

شهر مارس هو شهر الربيع، موسم تفتّح الأزهار، ولكننا هنا سنتوقف أمام جانب آخر لشهر مارس فهو شهر رحيل عدد من أبرز الشخصيات الكويتية من رواد الحركات الوطنية والديمقراطية والاجتماعية، الذين بذروا مبكراً على الأرض الكويتية أفكار التحرر الوطني والتقدم والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

***

الشهيد محمد القطامي

فقبل خمسة وثمانين عاماً من أيامنا هذه رحل الشهيدان محمد عبد العزيز القطامي ومحمد عبد العزيز المنيس، اللذان يسجل التاريخ الكويتي أنهما أول شهيدين سقطا دفاعاً عن حرية الشعب الكويتي وحقوقه الديمقراطية… ذلك أنه بعد أيام قلائل من حلّ الأمير حينذاك الشيخ أحمد الجابر مجلس الأمة التشريعي الثاني إثر اعتراض أعضائه على وصف العلاقة بين الكويت وبريطانيا بالحماية، جرت مواجهة مسلحة في “السوق الداخلي” بين أنصار المجلس و”فداوية الشيخ” ممَنْ كانوا يقودون المعتقل والشهيد لاحقاً محمد عبد العزيز المنيس إلى السجن في “بهيتة” قرب “قصر السيف”، حيث استشهد خلال تلك المواجهة محمد عبد العزيز القطامي رئيس شرطة الميناء التابعة لسلطة مجلس الأمة التشريعي الموازية لسلطة الحاكم، بعد أن أُصيب بطلق ناري…

الشهيد محمد المنيس

ولم تمضِ ساعات على تلك الأحداث الدموية، حتى صدر الأمر بإعدام الشهيد المنيس رميًّا بالرصاص، وبعدها صُلِب على عمود سارية في ساحة الصفاة ترهيباً لأنصار المجلس، وتمّ في الأيام اللاحقة اعتقال عدد من أعضاء مجلس الأمة التشريعي المنحل وأنصاره، ولوحق آخرون مما اضطرهم إلى مغادرة البلاد سرًّا.

كان هذا في التاسع من شهر مارس من العام 1939.

***

الراحل عمار العجمي

وفي 14 مارس من العام 2014 رحل عن دنيانا المناضل اليساري الكويتي عمار حمود العجمي الأمين الأول لحزب اتحاد الشعب في الكويت، الذي تمثّل الحركة التقدمية الكويتية امتداده التاريخي، وكانت الصدفة أنه توفي في يوم الذكرى التاسعة والثلاثين لتأسيس الحزب.

والراحل عمار حمود العجمي مناضل عمالي، بدأ حياته جندياً في الجيش الكويتي، ثم أصبح قائد مدرعة، وبعدها التحق بالعمل في شركة الزيت العربية اليابانية، التي كانت تزاول نشاطها في المنطقة المحايدة بين الكويت والسعودية قبل أن تصبح منطقة مقسومة، وانتخبه العمال في العام 1965 سكريتراً لنقابة عمال الشركة، وتعرّض جراء ذلك للمضايقات والملاحقات.

والتحق عمار بتنظيمات الحركة الوطنية منذ أواسط ستينيات القرن العشرين من “اتحاد شعب الجزيرة” إلى حركة القوميين العرب، ثم انفصل عنها ضمن التيار اليساري، الذي شكّل “الحركة الثورية الشعبية” في العام 1968، والتحق في العام 1969 بالجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في غور الأردن، وفي خريف العام 1974 بادر عمار العجمي إلى تأسيس حزب مستقل للطبقة العاملة في الكويت بالتعاون مع عدد من القادة النقابيين والمثقفين الثوريين، ولاحقاً في اجتماعه عقدته المجموعة المؤسسة للحزب مساء يوم 14 مارس 1975 في منزله المتواضع بمنطقة الفحيحيل جنوبي الكويت تم الاتفاق على أن يحمل الحزب الوليد اسم حزب اتحاد الشعب في الكويت، وتولى عمار العجمي، الذي كان اسمه الحزبي “يوسف ناصر” قيادة الحزب بوصفه السكرتير الأول للجنة القيادية للحزب حتى ديسمبر من العام 1992.

وكانت للمناضل اليساري عمار حمود العجمي مساهمات بارزة في بناء الحزب ومد نفوذه داخل الحركة النقابية العمالية، وهو الذي تولى تكوين جهازه الطباعي لطباعة نشرة “الاتحاد” لسان حال الحزب في مارس 1976، بالإضافة إلى طباعة البيانات والكراسات.

وشارك الراحل عمار العجمي في تأسيس المنبر الديمقراطي الكويتي في مارس من العام 1991 وجرى انتخابه عضواً في الهيئة التنفيذية للمنبر بعد المؤتمر التأسيسي الأول.

وبرحيل عمار حمود العجمي في 14 مارس من العام 2014 فقد اليسار الكويتي أحد أبرز قادته التاريخيين.

***

وفي شهر مارس من العام 2022 خسرت الحركة الوطنية الكويتية اثنين من أبرز قياداتها التاريخية، هما الدكتور أحمد الخطيب والأستاذ عبدالله النيباري.

ففي السادس من مارس من العام 2022 رحل عن هذه الدنيا الدكتور أحمد الخطيب عن عمر ناهز الخامسة والتسعين عاماً، أمضى منها أكثر من خمسة وسبعين عاماً في النضال الوطني والقومي والديمقراطي.

وبعده بنحو أسبوعين، وتحديداً مساء العشرين من مارس 2022 لحقه رفيق دربه المناضل الوطني  الكبير الأستاذ عبدالله النيباري، عن عمر يناهز السادسة والثمانين عاماً، أمضى منها أكثر من ستة عقود مناضلاً متفانياً وقائداً مرموقاً في صفوف الحركة الوطنية الكويتية وقطباً برلمانياً مشهوداً له بالكفاءة، وشخصية علمية اقتصادية متميزة، ويكفيه فخراً أنّه من جهة بطل تأميم النفط والخلاص من هيمنة الشركات الاحتكارية النفطية الأجنبية على ثروة الكويت الوطنية الأساسية.

الراحل د. أحمد الخطيب

ولا يمكن لأحد أن يتناول تاريخ الكويت السياسي في النصف الثاني من القرن العشرين من دون أن يبرز أمامه اسم الدكتور أحمد الخطيب، الذي ساهم في تأسيس حركة القوميين العرب خلال عقد الخمسينات من القرن العشرين، ودوره الوطني والديمقراطي المشهود في الكويت وضمن حركة التحرر الوطني العربية من خلال مواقعه في “النادي الثقافي القومي” ومجلة “الإيمان” وقيادته للجنة الأندية وقيادته للمسيرات الشعبية الرافضة للعدوان الثلاثي على مصر في 1956 ودعماً للوحدة العربية وقيام الجمهورية العربية المتحدة وتأييداً لثورة 14 تموز في العراق، وفوزه في انتخابات المجلس المشترك عام 1958 على الرغم من رفض السلطة لترشحه فيه.

وبعد استقلال الكويت في العام 1961 برز دور الدكتور أحمد الخطيب في المجلس التأسيسي الذي كان نائباً لرئيسه وما قام به من أجل تضمين الدستور مبادئ ديمقراطية أساسية، وكذلك تأسيسه لصحيفة “الطليعة” لسان حال الحركة الوطنية، ونادي الاستقلال الثقافي الاجتماعي، الذي حلته السلطة في أعقاب انقلابها على الدستور في 1976، ونشاطه البرلماني المميز كقائد للمعارضة من خلال عضويته في مجالس الأمة الأول والثالث والرابع والسادس والسابع، إلى حين اعتزاله العمل البرلماني في 1996.

ويسجل التاريخ تضحيات الدكتور الخطيب في العام 1959 بعد قمع تجمع ثانوية الشويخ وحل الأندية، وكذلك اعتقاله مع عدد من الشخصيات النيابية والوطنية في العام 1990 لمعارضته انتخابات ما يسمى “المجلس الوطني” غير الدستوري.

وبالإضافة لذلك هناك سجل خالد للدكتور أحمد الخطيب في إطار حركة التحرر الوطني العربية عبر دعمه المشهود في الخمسينات للثورة الجزائرية للتحرر من الاستعمار الفرنسي، وفي إسناد ثورة 14 أكتوبر 1963 ضد الاستعمار البريطاني في الجنوب اليمني بقيادة “الجبهة القومية”، وتقديمه العون إلى الثورة في ظفار عام 1965، ومساهمته في تشكيل “جبهة المشاركة العربية المساندة للثورة الفلسطينية” في بداية السبعينات بالتعاون مع الزعيم الوطني اللبناني الشهيد كمال جنبلاط، وتأسيسه في 1973 “اللجنة الكويتية للسلم والتضامن”، وعضويته في “مجلس السلم العالمي”.

الراحل عبدالله النيباري

أما الراحل الآخر في مارس من العام 2022 فكان المناضل الوطني  الكبير الأستاذ عبدالله النيباري، الذي يستحق بجدارة لقب “بطل تأميم النفط” الكويتي، حيث كان له الدور الأبرز في توعية الرأي العام الشعبي الكويتي، بل الخليجي والعربي، بقضايا النفط وارتباطها بالتحرر الاقتصادي الوطني والتنمية المستقلة، وكان للأستاذ النيباري دور محوري لا يمكن تجاهله في مجابهة شركات النفط الاحتكارية الأجنبية والتصدي لاتفاقياتها المجحفة والمطالبة بتأميمها، وهذا ما عبرت عنه مقالاته ومداخلاته المثبتة في مضابط مجلس الأمة، خصوصاً في النصف الأول من سبعينات القرن العشرين، عندما كانت تدور المعركة الوطنية المتصلة باتفاقية المشاركة ولاحقاً تأميم النفط، وواصل بعد ذلك دوره المشهود في مجال الاستغلال الوطني الأمثل للثروة النفطية والحفاظ عليها والحدّ من استنزافها والتصدي لمحاولات عودة الشركات الاحتكارية الأجنبية إلى السيطرة مجدداً على جزء من ثروتنا النفطية عبر ما سمي قانون حقول الشمال.

وللراحل الكبير ممارسات نضالية مشهودة على الأرض، حيث بذل جهده وضحى بحريته من أجل مبادئه وقضايا الشعب والوطن، وكان ضمن مجموعة المعتقلين من القيادات والعناصر الديمقراطية في مايو من العام 1990 الذين تصدوا للسلوك الأمني الاستفزازي حينما جرى اعتقال الزعيم التاريخي الكبير الدكتور أحمد الخطيب من ديوانه في الروضة خلال فترة الانقلاب الثاني على الدستور.

وهو أحد مؤسسي “المنبر الديمقراطي الكويتي” ممثلاً عن “حركة التقدميين الديمقراطيين” ذلك الائتلاف الوطني الديمقراطي التقدمي في الثاني من مارس من العام 1991 بعد تحرير الكويت بأيام قلائل، إلى جانب قيادات الحركة الوطنية الكويتية الآخرين في “حزب اتحاد الشعب” و”التجمع الوطني”، حيث تولى قيادة المنبر عند تأسيسه وكذلك في فترات لاحقة من مسيرته.

وللأستاذ عبدالله النيباري دور مشهود في مكافحة الفساد، وكاد أن يفقد حياته إثر محاولة اغتيال لئيمة تعرّض لها في صيف العام 1997 على أيدي عصابة مرتبطة بأحد مراكز الفساد.

وبرحيل الدكتور أحمد الخطيب والأستاذ عبدالله النيباري في مارس من العام 2022 خسرت الكويت اثنين من قياداتها الوطنية التاريخية، التي بذرت منذ الخمسينات على الأرض الكويتية قيم التحرر والديمقراطية والتقدم.

***

واليوم في ذكرى رحيلهم، كم نفتقد تلك الكوكبة من الباذرين المبادرين الرواد.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

المواجهات المسلحة الفلسطينية الأولى في محيط عربي محتل

بحلول شهر نوفمبر 2024، وفي خضم الحرب الدائرة منذ أكتوبر 2023 في غزة والضفة والجنوب اللبناني بين قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية من جهة وقوات الاحتلال الصهيوني بمشاركة أميركا من جهة أخرى، يكون قد مضى 89 عاماً على المواجهات المسلحة الأولى للشعب الفلسطيني ضد التشكيلات الصهيونية المسلحة القادمة من مختلف بلدان العالم لاحتلال فلسطين وإقامة دولة دينية لليهود طبقاً للمشروع الاستعماري بقيادة بريطانيا، أقوى دولة استعمارية في تلك الفترة.

إضراب عمال أرامكو عام 1953

إن دراسة التاريخ بتناقضاته وتطوراته تساهم في تجنب الأخطاء وتطوير ما كان صحيحاً. فالأحداث التاريخية تبقى في ذاكرة المجتمعات. هذه الأحداث قد لا يُرى تأثيرها وقت حدوثها، لكن تضاف إلى جينات هذه المجتمعات ومفعولها يورَّث جيلاً بعد جيل. إذاً، من المهم أن يتم تدوين واستذكار التجارب، الإيجابية منها والسلبية، بين فترة وأخرى حتى تدُرس كيلا تنسى وتندثر وتفقد الأجيال القادمة الإحساس بمدى أهميتها وتأثيرها على حياتهم.

قرن من النضال: ضوء على خبرات الحزب الشيوعي اللبناني ومخزون تجاربه المتنوعة

محاولة لتسليط بعض الضوء على جوانب مهمة من مسيرة الحزب تتعلق بما تميّز به نضال هذا الحزب الطليعي ودوره وخبراته وتجاربه المتنوعة، التي تشكّل له رصيداً نضالياً تاريخياً غنياً ويفترض أن تكون مصدر إلهام للمناضلين العرب.

وقائع تأسيس الحركة الطلابية الكويتية قبل ستين عاماً

ضمن حالة النهوض العامة، التي شهدتها الحركة الوطنية الديمقراطية الكويتية في النصف الأول من ستينات القرن العشرين، وامتداداً للمسار التاريخي الممتد منذ الخمسينات لنضال الحركة الطلابية الكويتية، تأسست في ديسمبر من العام 1964 المنظمتان الطلابيتان الديمقراطيتان: الاتحاد الوطني لطلبة الكويت والاتحاد المحلي لطلبة الكويت “الثانويين”.