ملاحظات حول الشعبوية من منظور يساري
علينا أن نتداول أمر هذه الظاهرة المتنامية في العالم والممتدة إلى منطقتنا ومجتمعنا.
الصعلوك في اللغة هو الفقير الذي لا يملك من المال ما يعينه على أعباء الحياة. والتصعلك يأتي بمعنى التشرد ولكن المعنى الأعمّ هو ظهور آثار الفقر المدقع على جسد الإنسان فيبدو نحيلاً وهزيلاً بين الأغنياء المتخمين بالمال والشحم.
يقال: صعلكه الدهر أي أضمره وأضعفه.
ووصف الإنسان بالصعلوك ليس مسبّة كما هو الحال الآن، فأكرم العرب يداً حاتم الطائي يذكر صعلكته في معرض افتخاره بنفسه حيث يقول:
غنينا زمانا بالتصعلك والغنى
فكلا سقاناه بكأسيهما الدهرُ
فما زادنا بغيا على ذي قرابةٍ
غنانا، ولا أزرى بأحسابنا الفقرُ
وتدل الصعلكة أيضاً على الشجاعة، فقدت وردت عبارة في كتاب “مروج الذهب” للمسعودي تصف شجاعة المهلب بن أبي صفرة في مواجهة الخوارج: كان يقاتلهم بجنده مقاتلة الصعلوك.
وإذا كان الفقراء المستسلمين لقدرهم يُسمّون بالصعاليك، فإنّ معظم من اشتهر بالصعلكة، تاريخياً، هم الثائرون ضد الظلم، الرافضون للذل، المناوئون لهيمنة الأغنياء والسادة، والمعارضون للتمييز الطبقي والعرقي.
إذا كان الفقراء المستسلمين لقدرهم يُسمّون بالصعاليك، فإنّ معظم من اشتهر بالصعلكة، تاريخياً، هم الثائرون ضد الظلم.
تعددت الروايات عن أسباب ظهور الصعاليك لكن اتفقت المصادر التاريخية على أنهم رجال عانوا من الجوع والفقر والظلم والتهميش، فانتفضوا في وجه مجتمعاتهم التي يتحكم بها طبقة السادة والأغنياء وثاروا ضد التفاوت الطبقي رفضاً للعيش المًذِل كأتباع أو خدم أو عبيد أو رعاة مقابل بعض الأجور والهبات التي بالكاد تبقيهم على قيد الحياة.
وإذا كان للصعلكة عدة أسباب مختلفة، فإن لها دافع ذاتي واحد هو الوعي. فهؤلاء الرجال كانوا على مستوى عال من الوعي بكينونتهم وبوجودهم وبحقوقهم الطبيعية كبشر.
يقول الشاعر الصعلوك عمرو بن برّاقة:
متى تجمع القلب الذكي وصارما
وأنفاً حميّاً تتّقيك المظالمُ
قد يكون القلب الذكي هنا هو الوعي الذي إذا اجتمع بعزة النفس والشجاعة فإن الإنسان سيثور ضد أي شيء ينال من كرامته وحقوقه.
لهذا تصعلك الشنفرى عندما اكتشف استعباده إثر إحدى الغزوات وهو صغير، فأقسم أن ينتقم لنفسه بقتل 100 من أبناء القبيلة التي استعبدته.
أمّا تأبط شرا فقد تصعلك لرفضه الخضوع للمجتمع الذي يتحكم به السادة والأغنياء ويُجبر فيه الفقراء على القيام بالأعمال الوضيعة كالرعي بأجرة.
وسبب تصعلك السليك بن السلكة شعوره بالقهر والعار وهو يرى النساء من ذوات اللون الأسود يبعن في الأسواق الواحدة تلو الأخرى دون أن يستطيع إنقاذهن لعجزه أو شرائهن لفقره، فيقول:
أَشابَ الرَأسَ أَنّي كُلَّ يَومٍ
أَرى لي خَالَةً وَسطَ الرِحالِ
يَشُقُّ عَلَيَّ أَن يَلقَينَ ضَيماً
وَيَعجِزُ عَن تَخَلُّصِهِنَّ مالي
كان التفاوت الطبقي في المجتمع الجاهلي حاداً وواضحاً، ويزداد حدّة وضراوة في المجتمع البدوي لانعدام الزراعة أو التجارة أو الصناعة في الصحراء. لهذا نجد أن مجتمع القبيلة ينقسم إلى طبقتين:
طبقة مُلّاك الإبل وهم الأقلية الثرية وطبقة الفقراء وهم الأغلبية الساحقة. وليس أدل على سوء الأحوال الاقتصادية من قيام الفقراء بقتل أولادهم لعجزهم عن إطعامهم. هذا الوضع المجحف لم يعجب عروة بن الورد، فهاجم مجتمعه بقسوة مفرطة، متهماً إياه بالنفاق والظلم، فبينما يعاني الفقير من الجوع والذل والهوان، يعيش الغني مرفّهاً وفي رغد من العيش. ولهذا كان عروة دائم التحريض للفقراء على التمرد والثورة، وإِذا شكا إليه فَتى من فتيَان قومه أعطَاهُ فرساً ورمحاً وقال لهُ: “إن لم تستغنِ بهما فلَا أَغنَاك الله”.
كان بيت عروة مأوى للعجزة والمرضى والمشردين والفقراء الذين تخلّى المجتمع عن مسؤولياته تجاههم، فلاذوا بعروة الذي استضافهم وعالجهم وأطعمهم وكساهم، فإذا قويت أجسادهم خرج بالقادرين منهم للغزو أمّا العاجزين، فيبقيهم في مكان بجانب بيته. وعندما يعود من الغزو، يقسّم الغنائم عليهم جميعاً:
إذا قلت قد جاء الغنى حال دونهُ
أبو صبيةٍ يشكو المعافر أعجفُ
وكان يستهدف البخلاء من الأغنياء وسادات القبائل ويتجنب الكرماء وأهل البذل منهم. وعندما سمع برجل شديد الثراء والبخل من بني كنانة، تربّص به حتى غنم إبله، وفرّقها بين الفقراء وقال منتقداً طغيان المال على القيم الإنسانية والأخلاقية:
ما بالثّراءِ يسُودُ كلُّ مُسوَّدٍ
مثر ولكن بالفعال يسود
فإذا غَنيتُ فأن جاري نيله
من نائلي ومُيسّري معهود.
استهدفت غارات الصعاليك، بالمقام الأول، الطبقة الغنية المسيطرة على المجتمع وبالأخص الأثرياء البخلاء. فكان تأبط شرا يركّز في غاراته على 3 فئات من الطبقة الغنية، هي:
ملّاك الماشية وأصحاب المزارع الخصبة، وأصحاب سمان الإبل:
فيوما على أهل المواشي وتارةٍ
لأهل ركيبٍ ذي ثميل وسنبلِ
ولكن أرباب المخاض يشفّهم
اذا اقترفوه واحدا أو مشيّعا
وقام صخر الغي المُزَني بقتل أحد الأغنياء وسلب ماله وإبله ومنحها لرجل فقير لا يملك شيئاً.
ضعفت حركة الصعاليك بعد ظهور الإسلام الذي جفّف منابع الصعلكة، فحارب التفاوت الطبقي وآسى بين الأغنياء والفقراء وشجّع تحرير العبيد. وأقام دولة مركزية بقيادة حازمة عالجت الفقر وفرضت الزكاة ووضعت حدوداً صارمة لمعاقبة قاطع الطريق والخارج على الجماعة.
نتيجة لذلك ورضوخاً للواقع الجديد، تخلى معظم الصعاليك، في صدر الإسلام، عن صعلكتهم وإن بقيت جذورها حية في وجدانهم وظهر ذلك في بعض قصائدهم التي يرثون بها رفاق الصعلكة ويبكون على تلك الحقبة التي ولّت. مثل رثاء أبي خراش الهذلي الذي رغم إسلامه إلّا أنه لم يستطع كبح جماح قريحته عندما سمع بمقتل رفيقه السابق الصعلوك زهير بن العجوة في يوم حنين:
وَلَم أَنسَ أَيّاماً لَنا وَلَيالِياً
بِحَليَةَ إِذ نَلقى بِها مِن نُحاوِلُ
فَلَيسَ كَعَهدِ الدارِ يا أُمَّ مالِكٍ
وَلكِن أَحاطَت بِالرِقاب السَلاسِلُ.
وعندما تدفّقت في العصر الأموي، غنائم الفتوحات وأموال الخراج على بيت مال المسلمين بكميات هائلة لم يعرفها العرب من قبل، ظهر التفاوت الطبقي مرة أخرى واختلت قيم العدالة والمساواة، فبدأت حركة الصعلكة بالتوهج مجدداً. ولكن أعداء الصعاليك الآن ليس الأثرياء والمجتمع بل الحاكم والدولة.
ورد في كتاب “أبو ذر والشيوعية” لمؤلفه شيخ الأزهر الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، أن الصحابي أبا ذر الغفاري ثار ضد الحكم الأموي بسبب انفرادهم بالسلطة، وإقبالهم على الحياة المترفة، واحتكارهم لثروات المسلمين ومنعها عن الفقراء.
وثار مالك بن الريب ضد ظلم وقسوة الولاة والأمراء الأمويين على الفقراء وعامة الناس وجمع حوله مجموعة من الصعاليك وانضم إليهم العديد من الثائرين وأخذوا يهاجمون قوافل الأثرياء والتجار ويقسّمون الغنائم على الفقراء والمحتاجين.
ولم يكن الحال في العصر العباسي بأفضل من سابقه الأموي، فقد ازدادت الفروقات المعيشية بين القلة الغنية والأغلبية الفقيرة. وكان الخلفاء والدائرة المحيطة بهم من الأمراء والوزراء والقادة يتنعمون بترف الحياة عبر الأخذ المباشر من بيت مال المسلمين في حين عانى الناس البسطاء من الفقر وصعوبة العيش. فبرزت الصعلكة مجدداً ولكن بشكل مختلف ينسجم مع طبيعة العصر العباسي الذي كان مغايراً للعصور السابقة، فالصحراء لم تعد الموطن الأساسي للعرب لأن شطراً كبيراً من القبائل العربية قد استوطن المدن والبيئات الزراعية وعاش أبناؤها نمطاً مختلفاً عما عاشه أجدادهم في السابق.
فاقتصر دور صعاليك المدن على الشعر. وظهرت مجموعة من الشعراء الصعاليك، مثل أبي فرعون الساسي، أبي الشمقمق، أبي الينبعي، والحمدوني.
كانوا يهجون الأغنياء والأمراء والولاة. هجا أبو الشمقمق داود بن بكر والي الأهواز وفارس:
ولهُ لحية تيسٍ…. وله منقار نسرِ
وله نكهة ليثٍ…. خالطت نكهة صقرِ
ومن هؤلاء الشعراء من مات مقتولاً ومنهم من مات في السجن.
أما أبناء القبائل التي لم تبرح مواطنها الأصلية في الصحراء، فقد حافظوا على رواسب الصعلكة التقليدية في نفوسهم وعندما اضطروا إليها، مارسوها على طريقة أسلافهم.
مثل جعفر بن علبة الحارثي الذي ضم إليه علي بن جندب والنضر بن مضارب وكانا من الفتّاك الشجعان، وأخذوا يغيرون على القبائل والقوافل، فتصدى لهم والي مكة لكنهم أعجزوه.
وعندما علم أبو جعفر المنصور بأمرهم، جدّ في طلبهم حتى قتل جعفر والنضر وفرّ بن جندب.
وبرز الأحيمر السعدي الذي كان يستغرب أن أغلب الناس في المجتمع لا يملكون بعيراً واحداً في حين تملك القلة من الناس المئات من الإبل!
وهذه الإبل هي ملك الله وليست ملك أحد، فيرفض هذا الواقع المقلوب ويعلن بأنه شريك في إبل الله وسيأخذها بالقوة لا بالسؤال:
وإني لأستحيي من الله أن أُرى
أجرّر حبلاً ليس فيه بعيرُ
وأن أسأل المرء اللئيم بعيرهُ
وبعران ربيّ في البلاد كثيرُ
وأيضاً ظهر بكر بن النطّاح الشاعر والصعلوك الذي قضى معظم شبابه يقطع الطرق وينشد قصائد الهجاء في الأغنياء والسادة وقال قصيدة نال فيها من الحكم العباسي الوراثي الظالم، وهو ما أغضب عليه هارون الرشيد فهمّ بقتله لكن تشفّع له قادة الجيوش لشجاعته المعروفة، وضمّوه للجيش.
وكان في أوقات راحته من الجيش، يعود للتصعلك مؤقتاً، قبل أن يعود للقتال مع الجيش!
ويجب أن أُشير هنا إلى تطور نوعي لافت في تاريخ الصعلكة بفعل الزمن والتطور، تمثّل في ظهور فِرق جديدة تكوّنت من خليط حديث بين بيئة جديدة وأعراق جديدة:
ظهر العيّارون والشطّار في المدن (بغداد- البصرة وغيرها من مدن الحواضر) وكانت هذه الفرق تضم العرب ومعهم الأكراد والفرس والترك وغيرهم.
ففي العاصمة بغداد ظهر العيّارون وهم جماعة من الناس يتشابهون مع الصعاليك في بضعة أشياء مثل الفقر والشجاعة والمهارة في الأسلوب.
استخدمهم بعض الخلفاء في صراعات السلطة:
خرّجت هذه الحروب رجالاً
لا لقحطان ولا لنزارِ
واحد منهم يشد على الفيــن
عريان ما له من إزارِ
ويقول الفتى إذا طعن الطعــنة
خذها من الفتى العيّار
(البيت الأول إشارة الى أنهم ليسوا من القبائل)
كما ظهرت فرقة الشطّار وهي شبيهة بالعيّارين ولكنها متطورة سياسياً الى درجة أنها نجحت في السيطرة على عدة مدن وتنصيب رؤساءهم عليها ومن بينها مدينة بيهق في خراسان. ومثلهم ظهر الزنج والقرامطة وغيرهم من الحركات المتمردة والثائرة.
وظهر الحرافيش والبطّالين في مصر خلال العصر الفاطمي والزعّار في الشام خلال العصر المملوكي.
وظهر الصعاليك (أفراداً وفِرقاً) في كل العصور والبقاع والأمم وحيثما تفشّى الظلم والفقر والقهر والاختلال الطبقي.. فالصعلكة أو الثورة تُعد سلاحاً ماضياً في يد المستضعفين يلجؤون إليها متى ما شعروا بالظلم أو الفقر أو الإجحاف الطبقي في المجتمع الذي يعيشون فيه.
لم تكن ثورة الصعاليك مقتصرة على الغزو والهجمات المسلحة ضد الطبقة الغنية المسيطرة على المجتمع، بل تضمنت حراكاً ثقافياً متمرداً، فقد نفخ الصعاليك في قصائدهم روح الثورة، فحملت معاني وأفكار وقيم كل ثورة شعبية حدثت في التاريخ وفي كل الحضارات.
ولو نظرنا بعين الإنصاف لصعاليك الجاهلية والعصور التالية، لوجدنا أنهم لم يطالبوا بأكثر من حقوقهم الطبيعية في الحياة الكريمة القائمة على العدالة والمساواة وهي مطالب كل البشر في كل العصور.
معظم كتبة المصادر التاريخية التي نقلت أخبار الصعاليك وحركات التمرد، لم تكن منصفة.
معظم كتبة المصادر التاريخية التي نقلت أخبار الصعاليك وحركات التمرد، لم تكن منصفة وخصوصاً “مؤرخو البلاط” الذين حاولوا وسم الصعاليك والمتمردين بالفساد والفسوق والانحراف عن الدين والخروج على الدولة وتجاهلوا الأسباب الحقيقة التي دفعتهم للتمرد والثورة وهي الظلم والفقر والإهمال والتهميش والتفاوت الطبقي.
*هذا المقال جزء من بحث للكاتب عن الصعاليك.
المصادر:
كاتب تقدمي من الكويت. حائز على جائزة الدولة التشجيعية في مجال الآداب - جائزة القصة القصيرة.
علينا أن نتداول أمر هذه الظاهرة المتنامية في العالم والممتدة إلى منطقتنا ومجتمعنا.
علاقة الفكر بالواقع، وعلاقة الأسبقية بينهما، والبراكسيس قضايا تُشكل أحد المباحث الرئيسة في النظرية الماركسية – اللينينية التي أدخلت من خلالها جديدها في الفلسفة النفيي لمفهومها المثالي والمادي الميكانيكي في آن معاً. فالفكر (الوعي) غير منفصل عن الواقع وتناقضاته وهي علاقة توجب تمييز مفهومها، ولتحديد تلك العلاقة هناك ضرورة، منهجية، لتحديد كيفية ارتباط الفكر بالواقع وبالبراكسيس ودورهم في التغيير.
نظام تعليمي لا يملك المواطن القدرة العقلية والإرادة المعنوية التي تساعده على اكتساب المهارات لقراءة وفهم واقعه للوصول إلى حقيقة وجوهر ما يدور حوله من ظواهر وأحداث. ولا يهتم برغبات التلميذ ولا يلبي حاجاته ولا يطور القدرات التي تمكن التلميذ من الخلق والابتكار والإبداع أو تملكه مهارات التحليل والتركيب والقبول والرفض والرؤى النقدية.
عُرِفَ الشعب الإيرلندي كأكثر الشعوب الغربيّة تأييداً للقضيّة الفلسطينيّة، حيث برز هذا التضامن في السنوات الأخيرة وخصوصاً بعد أحداث السابع من أكتوبر. ففي الأشهر الماضية، خرج الإيرلنديون بأعداد ضخمة في وقفات تضامنية في العاصمة الإيرلندية دبلن للتعبير عن دعمهم لفلسطين واستنكارهم لجرائم الاحتلال الإسرائيلي.