في الخلفية الأيديولوجية لمبدأ التكذيب البوبري و”درس القرن العشرين”

لم يخفِ كارل بوبر خلفيته الأيديولوجية، نعم الأيديولوجية، القائمة على العداء للنظرية الماركسية، فمبدأ قابلية التكذيب Falsifiability وضعه، باعترافه، لدحض النظرية الماركسية والتحليل النفسي، ممَّا يوضح براغماتية تهدف إلى تبرير برهان لا علميَّة النظرية الماركسية، والتحليل النفسي، على أساس مبدأ التكذيب الذي يحصر فيه علميَّة النظرية في قابليتها للتكذيب المتكرر، وحسب، مستخدماً في هجومه هيبة العلم “لترويع”، بحسب تعبير لويس ألتوسير، من يخالفه الرأي. ونافياً عن العمل تاريخيته. 

انتقدَ لويس ألتوسير حكم بوبر على النظرية الماركسية والتحليل النفسي بأنهما غير عِلمَيْن لأن “فرضيَّاتهما، في نظره، غير قابلة للدحض بالاختبار (الاختبار التحليليّ، واختبارات صراع الطبقات هي بالفعل غير قابلة للإعادة بالأشكال نفسها وفي أيَّ وقت وفي أيّ زمان)، وهي بالتالي قابلة لكلّ الاحتمالات كونها تضليلات”.(1) يُظهر نقد ألتوسير عقم التجريبية الميكانيكية المثالية التي يتوقف، في منهجيتها، صدق النظرية أو كذبها على إجراء تجريبي محض يغيِّب الواقع وشروطه، ويظهر الخلفية التضليلية لمبدأ قابلية التكذيب البوبري ولا علميته كمعيار وحيد للتمييز بين النظريات، فنظرية النسبيَّة لأينشتاين، مثلاً، اكتشفت قوانين تختلف عن قوانين نظرية نيوتن عن الحركة، ولكن العلم ما يزال يستخدم قوانينها على مستوى واقع مادي مختلف، كيفياً، عن مستوى الواقع المادي الذي تعمل فيه نظرية النسبيَّة وميكانيكا الكوانتم، ممَّا يدحض مبدأ قابلية التكذيب ويؤكد تنوع العالَم في وحدته. 

“درس القرن العشرين” البوبري درس في تشويه الوعي

بالعودة إلى بعض نصوص بوبر يتضح أنه يناقض نفسه بإطلاقه لأحكام تعميمية، على الرَّغم من أن مبدأ قابلية التكذيب، كما يقول قد وضعه لدحض الدغمائية والتعميم، ففي كتابه “درس القرن العشرين” حكمَ بأنه لا توجد رأسمالية كما وصفها كارل ماركس وأنها من “اختلاقه” ووصفها بأنها “نوع من الخيال الشيطاني او الرواية الشيطانية، صحيح انه كان هنالك دائما اغنياء وفقراء، وان الفقراء يعانون دائما، وان الاخلاق تقتضي ان نساعدهم وان نساعد المعوزين. واليوم ما يزال هذا المشكل مطروح علينا كذلك، ويجب التدخل الى جانب هؤلاء المعوزين”.(2) رفض بوبر تحليل ماركس للرأسمالية هو موقف أيديولوجي واضح قائم على تعميم شمولي، عنوانه العام عدم الاعتراف بالرأسمالية التي حللها ماركس من دون تحديده لنمط الإنتاج الرأسمالي الذي يقول هو به وسماته. وعلى الرَّغم من اعترافه بوجود أغنياء وفقراء، إلَّا أنه يُغيِّب أسباب الفقر، فهل الفقراء ولدوا فقراء مثلاً؟ معيداً حل مسألة الفقر إلى الواجب الأخلاقي وليس تحديد أساسه المادي، الاستغلال الطبقي، علاقات الإنتاج الرأسمالية، للقضاء عليها. تَمثُّل أمامنا في حل بوبر لمسألة الفقر تقارير صندوق النقد الدَّولي والبنك الدَّولي، التي تعجُ بصفحات تُحدِّد نسب الفقر في العالَم والجوع من دون تحديد أسبابهما، لتأتي وصفاتهما إعادة إنتاج للنظام الرأسمالي المولِّد للحروب وللفقر وللاستغلال، وتأبيد علاقة التبعية به.

ووصلَ بوبر في منهجيته إلى اعتبار أن ماركس قد تراجعَ عن أطروحته المركزية القائمة على لا إمكانية إصلاح الرأسمالية ولا يمكن إلَّا تحطيمها على أساس أن المجتمع الذي كان يبحثه ماركس، وما فيه من مجاعة وظروف العمال، “لم يكن موضوع ما وصفه ماركس بالراسمالية [بالرأسمالية] التي لا يمكن اصلاحها. هذا المجتمع يمكن اصلاحه، في حين ان الاطروحة المركزية لماركس كانت تقول انه لا يمكننا الا تحطيمه. لاحقا، وافق او قبل بان انقلترا [إقرأ: انجلترا، أو انكلترا] يمكن ان تحدث فيها ثورة غير عنيفة، وهو ما يعني ان المجتمع الراسمالي [الرأسمالي] يمكن اصلاحه. لم يقل هذا بشكل صريح، ولكنه بين انه من الممكن ان يحدث التغيير من دون عنف، ولكن في انقلترا [إنجلترا، إنكلترا] فقط، وليس في أي مكان آخر”.(3)

إنَّ تأويل بوبر لأطروحة ماركس حول الرأسمالية فيه مصادرة على المطلوب استخدمها لتبرير دعوته لإصلاح المجتمع الرأسمالي، شوَّه فيها تحليل ماركس للرأسمالية ولتطوّرها في انكلترا، فقد حدَّد ماركس انه في مؤلفه “رأس المال” كان عليه “دراسة نمط الإنتاج الرأسمالي وعلاقات الإنتاج والتبادل المطابقة له. وإنكلترا هي الموطن الكلاسيكي لهذا الإنتاج حتى الوقت الحاضر. لهذا السبب أستخدم إنكلترا بمثابة نموذج رئيس لشرح أفكاري النظرية (…). فالقضية لا تتعلق في ذاتها ولِذاتها، باشتداد أو خفوت درجة تطور التناحرات الاجتماعية التي تتولد عن القوانين الطبيعية للإنتاج الرأسمالي، بل تتعلق بهذه القوانين نفسها، بهذه الميول التي تفعل فعلها وتفرض نفسها بحتمية فولاذية” (4)، قوانين رأى فيها ماركس شروطاً مادية تاريخية ناضجة لإمكان حدوث ثورة، والثورة الاجتماعية في مفهوم ماركس، والنظرية الماركسيَّة – اللينينية، ليست إصلاحاً بل تعني إحداث تغيير جذري في البنيَّة الاجتماعية الشاملة على مختلف مستوياتها الرئيسة، المستوى السياسي، والمستوى الاقتصادي، والمستوى الأيديولوجي، أي انتقال من نمط إنتاج رأسمالي ونظامه السياسي إلى نمط إنتاج نقيض له، كما أن إعطاء مكانة رئيسة للشروط المادية التاريخية في تحليل البنيَّة الاجتماعية ونمط الإنتاج الرأسمالي يعني أن الثورة ليست عمليَّة إرادوية أو فوضوية بل لها أسسها وظروفها وقواها الثورية، ففي شروط مادية تاريخية، وقوى ثورية حاملة للتغيير، قد تحدث الثورة في بلدان لم تصل فيها الرأسمالية إلى مراحل متطوّرة، روسيا على سبيل المثال قبل الثورة الاشتراكية العظمى، أي رفض الماركسية – اللينينية لميكانيكية عمليَّة الانتقال من مرحلة تاريخية وأنماط إنتاج إلى أخرى، أو ما يُعرف بتعاقب أنماط الإنتاج ومراحله، فالثورة قد تحدث بقفزات، أو بحسب تعبير لينين قفزات لولبية، كما أن عمليَّة تغيير نمط الإنتاج الرأسمالي والنظام السياسي تمر بمراحل تؤسس للوصول إلى النظام النقيض له، وليس لتأبيد النظام الرأسمالي وعلاقات إنتاجه، وفي نصوص أخرى من “رأس المال” يبرز ماركس شروط هدم نمط الإنتاج الرأسمالي وآلياته والقوى الحاملة له حيث يظهر ماركس، موقع الصراع الطبقي في عمليَّة الثورة ونقده للاقتصاد السياسي البرجوازي بتحديده أنه “ما دام الاقتصاد السياسي برجوازياً، أي ما دام يرى في النظام الرأسمالي شكلاً نهائياً ومطلقاً للإنتاج الاجتماعي، عوضاً عن ان يرى فيه مرحلة تاريخية انتقالية عابرة من مراحل تطوره، فإن هذا الاقتصاد السياسي لا يستطيع أن يبقى علماً إلّا حين يظل الصراع الطبقي كامناً، أو حين لا يبرز إلى العيان سوى في مظاهر منعزلة متفرقة”.(5) هذا التحديد يدخل في صلب نقد الترويج بأن الرأسمالية يمكن إصلاحها والاكتفاء بذلك. وحدَّد ماركس أسس مراحل التغيير وشروطه النقيض لتأويل بوبر، ففي نقده لبرنامج غوته كتب انه: “بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي، تقع مرحلة تحول المجتمع الرأسمالي تحولا ثورياً الى المجتمع الشيوعي. وتناسبها مرحلة انتقال سياسي لا يمكن ان تكون الدولة فيها سوى الديكتاتورية الثورية للبروليتاريا”.(6) النص يدحض تأويل بوبر لأطروحة ماركس حول الرأسمالية، فالمرحلة الانتقالية لا تعني في نص ماركس عمليَّة إصلاح للرأسمالية تؤبد استمراريتها، بل هي مرحلة، طور، من مراحل التحويل الثوري للمجتمع نابعة من تناقضات الرأسمالية التي تولِّد الثورة عليها، وإلغاء الاستغلال الطبقي، اضمحلال الدولة.

الثورة:” القضاء على نظام العمل المأجور! “

يتضح في نص بوبر سعيه لربط الثورة بالعنف بمعناه الفوضوي في محاولة منه لتشويه مفهوم الثورة والعنف الثوري بمعناه العلمي وإظهارها كعمل دموي وحسب، وكأن العنف تمارسه الثورة وليس النظام السياسي الذي يمارس أبشع أشكال العنف اليومي ويأبى أن ينهار من دون عنف؛ ففي العديد من نصوص ماركس وانجلز نقد للعنف الفوضوي، يتضح ذلك في تحليلهما لثورة 1848 وكومونة باريس وما تخلل تلك المرحلة التاريخية من إخفاقات، لأخذ الدروس منها لنقد العنف الفوضوي والمدافعين عنه ونزعة تحطيم الآلات وضد العفوية، فالثورة، وممارستها على أرض الواقع في فعل نضالي، مرتبطة ببرنامج سياسي اقتصادي – اجتماعي للتغيير يحدد الشروط المادية التاريخية للثورة في مواجهة عنف السلطة السياسية وعنف علاقات الاستغلال، أي يحدد الأساس المادي المولَّد للعنف، علاقات الإنتاج الرأسمالية، في نمط إنتاجها الرأسمالي، للوصل إلى السلطة السياسية، إذن هي عملية تحديد لأسباب الثورة فقد حدَّد ماركس بوضوح أن قوى الإنتاج عندما تصل إلى درجة معينة من تطورها “تدخل في تناقض مع علاقات الانتاج الموجودة  التي كانت الى ذلك الحين تتطور ضمنها. فبعد ما كانت هذه العلاقات اشكالا لتطور القوى المنتجة، تصبح قيوداً لهذه القوى. وعندئذ ينفتح عهد الثورة الاجتماعية“. والمعروف أن الثورة الاجتماعية لا تعني إصلاح علاقات الإنتاج الرأسمالية، بل هدمها. 

 أمَّا تدليل بوبر على صحة فرضيته بأن ماركس قد وافق على انه يمكن أن تحدث في انكلترا، فقط، ثورة غير عنفية، من خلال قوله انه “خلال حياة ماركس حدثت اصلاحات كثيرة، اصلاحات هامة وكبيرة في انقلترا [انجلترا، انكلترا] وفي غيرها من البلدان وخاصة في المانيا في عهد ”بيسمارك“. ان ما قاله في موضوع ان الراسمالية [الرأسمالية] التي لا يمكن اصلاحها قد تم رفضه واقعيا، وهو على قيد الحياة” (7)، فيه تشويه لعمليَّة حدوث الإصلاحات وفيه تغييب لموقف كارل ماركس النقدي لإصلاحات “بيسمارك” والإصلاحات التي حدثت في انكلترا، بما هي إصلاحات لا تلغي الاستغلال بل تؤبده، وهي نابعة من رحم العلاقات الرأسمالية لإعادة إنتاجها والمحافظة عليها، يظهر ذلك من خلال المفهوم الماركسي للدولة  بما هي جهاز للجم صراع الطبقات، وأنها، في بعض مراحل تطورها شهدت حالات استثنائية “مراحل تبلغ فيها الطبقات المتنازعة درجة من توازن القوى تنال معها سلطة الدولة لفترة معينة نوعاً من الاستقلال حيال الطبقتين، مظهر وسيط بينهما (…). هكذا كانت البونابارتية في الإمبراطورية الأولى ولاسيما في الإمبراطورية الثانية في فرنسا، إذ كانت تحرض طبقة البروليتاريا على طبقة البورجوازية والطبقة البورجوازية على البروليتاريا. وأحدث إنجاز في هذا المضمار يبدو معه الحاكمون والمحكومون بشكل مضحك بالقدر نفسه، إنما هو الإمبراطورية الألمانية ذات الأمة البسماركية: فهنا يحافظ على التوازن بين الرأسماليين والعمال، المتضادين فيما بينهم وجميعهم يتعرضون بالقدر نفسه للغش والخداع لما فيه مصلحة اليونكر(الإقطاعيين) البروسيين النائين المفتقرين”(8)، كما يطمس بوبر حقيقة أن بسمارك قد وحدَ ألمانيا بالقوة، أي بسحب لغة بوبر، بالعنف. وبالطبع يُغيِّب مفهوم ماركس للأزمة البنيوية الدورية للرأسمالية الذي يؤكد فيه أن الرأسمالية غير قابلة للإصلاح بطروحات ومعالجات رأسمالية، وهي أزمات نعيشها في يومنا الراهن وندفع ثمن إصلاحاتها التي تحافظ على تأبيد علاقات الإنتاج الرأسمالية، الاستغلال. وبالتالي فإن تأويل بوبر لأطروحة ماركس حول الرأسمالية، وتأويله لتطوير ماركس وانجلز لبعض أفكارهما، يضعهما في غير سياقهما لتبرير هجومه على النظرية الماركسية بناء على مبدأ قابلية التكذيب البراغماتي، أي أنه ليس مسألة خطأ في التأويل أو في فهمه للأطروحة، بل هو موقف متعمد مسبق يهدف إلى تشويه النظرية الماركسيَّة بأية طريقة كانت لتشويه الوعي الثوري، معادٍ للماركسية، وهذا ليس اتهاماً بل بوبر جاهر بذلك في كتاباته، إنه موقف أيديولوجي يؤبد نظام الحكم الرأسمالي وأيديولوجيته، والموقف الأيديولوجي يعكس الموقع الطبقي، وحقيقة الصراع الطبقي بين طبقتَيْن على طرفَي نقيض الطبقة البرجوازية المسيطرة على الحكم، والطبقة العاملة المناضلة من أجل إحداث الثورة على نظام الاستغلال الطبقي، بينهما صراع لا هوادة فيه. إنه صراع طبقي مفتوح ضد “المجتمع المفتوح” على الاستغلال الطبقي وتأبيد حكم الطبقة البرجوازية الحاكمة باسم العلم ومعاييره المعبرة عن الأيديولوجية المعادية لفعل التغيير الذي يقرن الفلسفة، والنتاج الثقافي، بالممارسة الثورية البراكسيس. 

ويغيّب بوبر أن للثورة عدة أشكال، تفرضها الشروط المادية التاريخية الموجودة فيها، وما تنتجه من تناقضات، على هذا الأساس فإن إمكان حدوث ثورة من “دون عنف”، في مجتمع رأسمالي متطور، انكلترا بحسب بوبر، يطرح سؤال هل السلطة السياسية ستقابله باللا عنف وتأمر أدواتها القمعية، الجيش والشرطة، برمي الثوار بالورود؟! التاريخ يشهد على تكذيب ادعاء السير كارل بوبر، فالإصلاحات التي قال بوبر إنها حدثت في إنكلترا خلال حياة ماركس لم يقدمها النظام الرأسمالي وقتذاك، على طبق من ذهب للعمال بل فرضت عليه بنضال الطبقة العاملة وسقط شهداء على طريق حقوقهم ومكتسباتهم. وما يزال النظام الرأسمالي العالمي الإمبريالي ينقض على حقوق العمال ومكتسباتهم لتدفيعهم أثمان أزماته البنيوية، ويعتبرها، بخاصة، بعد سقوط التجربة الاشتراكية المحققة في الاتحاد السوفياتي، والبلدان الاشتراكية، التي كانت ملهماً ودافعاً كبيراً لنضال الطبقة العاملة العالمية، كغنيمة حرب، بعد الحرب الباردة، وما يزال النظام الرأسمالي العالمي، الامبريالي، يشن الحروب ضد شعوب العالم، للخروج من أزماته بالدم والقتل والنهب والاحتلال، فعن أي إمكان إصلاح يتكلم السير بوبر، وعن أي لا عنف ينظر له ومن يمارس العنف بالأساس هو النظام الرأسمالي وعلاقات إنتاجه.   

إن مفهوم الثورة الماركسي نقيض للاكتفاء بالإصلاحات كما يدعي السير كارل بوبر، حتى في انجلترا، ففي تحليله للإصلاحية، عام 1869، أظهر ماركس في تحليله لعملية الصراع بين الرأسمالية والعمل حول الأجور في مؤلفه “الأجور والأسعار والأرباح” أنه “على العمال أن يدركوا أن النظام الحالي، بكل ما يحمله من بؤس، يولد في الوقت نفسه الشروط المادية والأشكال الاجتماعية الضرورية من أجل إعادة البناء الاقتصادي للمجتمع. وبدلاً من الشعار المحافظ القائل:”أجرة عادلة ليوم عمل عادل!“يجب ان يسجل العمال على رايتهم الشعار الثوري:”القضاء على نظام العمل المأجور!“”. يكمل ماركس أن على النضال النقابي استخدام قواه “المنظمة كرافعة من أجل تحرير الطبقة العاملة نهائياً، أي من أجل القضاء النهائي على نظام العمل المأجور”.(9) نص ماركس يدحض تأويل بوبر لطروحات ماركس وإظهار أنه قد قال بإمكان إصلاح النظام الرأسمالي، كما أن نص ماركس يظهر مسألة في غاية الأهمية، وهي أن الصراع الطبقي الذي تخوضه الطبقة العاملة، بأي شكل من أشكال نضالها ومنها النضال من أجل الإصلاح الاقتصادي، يجب أن يركز على أساس الاستغلال لإلغائه، علاقات الإنتاج الرأسمالية، في إطار برنامج سياسي ثوري، كيلا تقع في الاقتصادوية وكيلا يتوقف التغيير عند إصلاحات تبقي الأساس المادي للاستغلال، علاقات الإنتاج الرأسمالية، أي أن الإصلاح الاقتصادي هو جزء من النضال الثوري على مختلف مستويات البنية الاجتماعية،  فكل “صراع طبقي هو صراع سياسي”، لا يفصل فيه السياسي عن الاقتصادي، ونجد اليوم الاستمرار في محاولات  فصل السياسي عن الاقتصادي، وعدم ربطهما ببرنامج سياسي للتغيير تحت شعار “الحياد الأيديولوجي” في طروحات منظمات المجتمع المدني، بمفهومه البرجوازي، ومحاولات الاستعاضة عن النضال السياسي بطروحات تبقى ضمن المطالب الفئوية والاصلاحات في إطار النظام الرأسمالي. وهذا موقف أيديولوجي بامتياز، لأن ادعاء “الحياد الأيديولوجي” هو موقف أيديولوجي، يشوه الوعي الثوري ومفهوم التغيير الثوري بما يخدم الأيديولوجية القائمة ويؤبد نظام الاستغلال.

الصراع الطبقي الذي تخوضه الطبقة العاملة، بأي شكل من أشكال نضالها ومنها النضال من أجل الإصلاح الاقتصادي، يجب أن يركز على أساس الاستغلال لإلغائه، علاقات الإنتاج الرأسمالية، في إطار برنامج سياسي ثوري، كيلا تقع في الاقتصادوية وكيلا يتوقف التغيير عند إصلاحات تبقي الأساس المادي للاستغلال، علاقات الإنتاج الرأسمالية، أي أن الإصلاح الاقتصادي هو جزء من النضال الثوري على مختلف مستويات البنية الاجتماعية. 

إنَّ إرهاب العقل وفرض معايير عليه، وفصل المعرفة، بكل فروعها، الفلسفة والثقافة والعلم، عن الواقع المادي ودورها في تغييره، يتطلب المواجهة، كيلا يصبح حالنا كحال المسجل لنسب الفقر والبطالة والجوع التي تتحفنا فيها تقارير المنظمات الدَّولية، بمختلف مسمياتها، وكيلا يصبح حالنا كحال المسجل لبيانات التجربة وأدوات المراقبة، والملقن للنظريات الفلسفية والعلميَّة من دون تحديد تاريخيتها، وخلفيتها الأيديولوجية وموقعها في البنية الاجتماعية وعلاقات إنتاجها القائمة، وتكذيب النظريات من أجل التكذيب، مواجهة تعكس ضرورة النظرية الماركسية – اللينينية، بمنهجها المادي الديالكتيكي الذي يحث على اكتشاف قوانين الواقع وتمييز كونية قوانينها لا تطبيقها عليه، لشن هجوم مضاد على محاولات تعطيل الوعي الثوري العلمي وتشويهه، إنها العلاقة المادية الديالكتيكية بين النظرية والممارسة، البراكسيس، في النضال ضد العنف اليومي الذي يمارسه النظام الرأسمالي العالمي الإمبريالي ضد عمال العالم على امتداد أرض الإنسان، سرقة قوة عملهم، ونهب ثروات العالم وفرض علاقات التبعية به. إنه نضال طبقي أممي من أجل التغيير والانتقال من نمط الإنتاج الرأسمالي إلى نمط الإنتاج الاشتراكي. فيا “عمَّال العالم ويا أيتها الشعوب المضطهدة اتحدوا”.

المصادر:

(1)- ألتوسير لويس، تأهيل إلى الفلسفة للذين ليسوا بفلاسفة، ترجمة إلياس شاكر، دار الفارابي، بيروت، ط1، 2017.ص. 149.

(2)- بوبر كارل، درس القرن العشرين، ترجمة الزواوي بغورة ولخضر مذبوح، ط 1، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2008، ص. ص 30 – 31.

(3)- المصدر نفسه، ص. 31.

(4)-  ماركس كارل، رأس المال، 3مج مج1، ترجمة فالح عبد الجبار، دار الفارابي، لا. ط. بيروت، ص. ص. 16- 19.

(5)- المصدر نفسه، ص. 29.

(6)- ماركس، كارل، نقد برنامج غوتا، ترجمة الياس شاهين، لا. ط، دار التقدم، موسكو، لا. تاريخ، ص. 33.

(7)- بوبر كارل، درس القرن العشرين، مصدر سابق، ص. 31.

(8)- إنجلز فريدريك، أصل العائلة والملكية الخاصة للدولة، ترجمة أديب يوسف، ط1، دار الفارابي، بيروت، يناير/ كانون الثاني 2016، ص. 287.

(9)- ماركس كارل، الأجور والأسعار والأرباح، ترجمة الياس شاهين، دار التقدم، موسكو، لا ط. لا. ت، 61.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

الطوفان وأزمة عزمي بشارة

إن صلب أزمة بشارة مع الطوفان أن صوت الأكاديميا والتنظير الحبيس في الصالونات الثقافية ودفات الكتب يدخل في امتحان حقيقي ما إن تقع المعركة، وفي هذا الامتحان برزت هشاشة منظور بشارة ولتذهب كل الجهود والموارد التي عمل عبرها في تقديم أطروحته.

في مفهوم أسبقية الواقع على الفكر والبراكسيس والتغيير

علاقة الفكر بالواقع، وعلاقة الأسبقية بينهما، والبراكسيس قضايا تُشكل أحد المباحث الرئيسة في النظرية الماركسية – اللينينية التي أدخلت من خلالها جديدها في الفلسفة النفيي لمفهومها المثالي والمادي الميكانيكي في آن معاً. فالفكر (الوعي) غير منفصل عن الواقع وتناقضاته وهي علاقة توجب تمييز مفهومها، ولتحديد تلك العلاقة هناك ضرورة، منهجية، لتحديد كيفية ارتباط الفكر بالواقع وبالبراكسيس ودورهم في التغيير.

السودان.. التعليم وبناء الإنسان

نظام تعليمي لا يملك المواطن القدرة العقلية والإرادة المعنوية التي تساعده على اكتساب المهارات لقراءة وفهم واقعه للوصول إلى حقيقة وجوهر ما يدور حوله من ظواهر وأحداث. ولا يهتم برغبات التلميذ ولا يلبي حاجاته ولا يطور القدرات التي تمكن التلميذ من الخلق والابتكار والإبداع أو تملكه مهارات التحليل والتركيب والقبول والرفض والرؤى النقدية.

[zeno_font_resizer]