الصين ونظامها الاجتماعي: بين القوالب الميتة والرؤية الحية 2/1

 أصبحت الصين قوة اقتصادية عالمية في عملية تصاعدية منذ بداية التسعينات وإلى الآن، ومنذ وقت قريب، تزامن تولي شي جين بينج رئاسة الدولة ومرور الصين بعدة منعطفات كتفشي وباء كوفيد-19 والقضاء عليه وإنهاء الصين على الفقر المُدقع، باضطلاع الصين ببعض الأدوار السياسية على الصعيد العالمي والتي يغلب عليها الجانب الأيديولوجي أكثر من الجانب الفعلي أو العملي وربما يرجع هذا إلى الاعتقاد الراسخ والتاريخي للصين بعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى ولكن رغم ذلك سجلت الصين مواقف حاسمة ومؤثرة في كثير من القضايا الدولية كالحرب الروسية الأوكرانية والقضية الفلسطينية وانتقاد مواقف الولايات المتحدة والغرب.

على أي حال ذاع صيت الصين بين الناس عموماً والباحثين بوجه خاص وانتشرت المحاولات لتوصيف النظام الاجتماعي الصيني الحالي الذي بدأ تشكله بعد انطلاق سياسات الاصلاح والانفتاح في 1978 وانتهاء حقبة التنمية الاشتراكية (1949-1978) وعلى الرغم من ان النظام الصيني يَصعُب توصيفه وقولبته إلاّ انه يستثير عملية القَولبة عند الكثيرين؛ فالاقتصاديون الليبراليون يعتقدون بشكل مطلق ان الصين دولة رأسمالية. والمُنظّرون السياسيون الليبراليون يرون النظام الصيني مجتمع ديكتاتوري مغلق ينتظر ان ينفتح كما انفتح اقتصاده عبر تطبيق الليبرالية السياسية واسقاط سلطة الحزب الشيوعي. وعلى النقيض توجد النظريات الصينية “الرسمية” التي يتبناها الحزب الشيوعي كأن النظام الصيني هو عبارة عن “اشتراكية ذات خصائص صينية”.

وبين الماركسيين يزداد الأمر صعوبة فنجد من يرى الصين دولة عالم ثالث نيوليبرالية تابعة ومن يراها دولة امبريالية تسعى للهيمنة على دول العالم الثالث واستنزاف مواردها، والتوصيف السحري: رأسمالية الدولة والقالب السهل: ان الصين تلعب (أو نتمنى) نفس دور الاتحاد السوفييتي. والكثير من القوالب الجاهزة التي تعني ان هؤلاء الماركسيين فضلوا القوالب الميتة على بذل قوة العمل النظري الحيّة.

وقبل تناولنا للنظام الصيني ومحاولة سبر غوره سنتناول في عجالة تلك القوالب النظرية ومدى مطابقتها للواقع الصيني.

أولاً: هل الصين دولة نيوليبرالية تابعة؟

 من الواضح أن توافر رأس المال الأجنبي قد لعب دوراً كبيراً في نهضة الصين الاقتصادية (Robert 2018)، فالدولة قد تحكمت في ذلك الفائض عن طريق التخطيط لتحقق بعض الإنجازات التي لم تكن تستطيع تحقيقها بمفردها. 

يدَّعي البعض مثل ديفيد هارفي إن الصين دولة نيوليبرالية؛ وذلك الادعاء يحتوي على الكثير من الخطأ، لأنه لا توجد دولة نيوليبرالية بهذه الضخامة والتحكم في الحياة الاقتصادية والسوق. ونتأكد من الأمر أكثر عندما نلاحظ أن مبدأ الملكية الجماعية في الريف مازال قائماً تحت مسمى ملكية الدولة (Amin 2005, 274)، ومن الملاحظ في الدول النيوليبرالية أن الأرض يتم تسليعها أو بمعنى آخر تحدث عملية يمكن أن نسميها “بإبطال أو نزع الإصلاح الزراعي”؛ أي التنازل عن كل الإنجازات التي تم تحقيقها في حقبة التحرر الوطني سواء عن طريق الثورات الاشتراكية أو القومية والتي ساهمت في توزيع الأرض على الفلاحين. على أية حال ساهم عدم تطبيق مبدأ الملكية الخاصة في الريف الصيني في عدم تطبيق أي سياسات نيوليبرالية في هذا الشأن، بل قد تم تثبيت دعائم مبدأ الملكية الجماعية للأرض عن طريق سياسات وقوانين عديدة. 

ومناقشتنا للمال الأجنبي يجب أن تلحق بمناقشة علاقة الصين بالقوى الغربية (الولايات المتحدة-أوروبا الغربية-اليابان) لأن المال الأجنبي يتم تمثيله عن طريق تلك القوى السياسية. وسنجد علاقة الصين بهؤلاء مصحوبة دائمًا بالشد والجذب أو العداء والهدوء (وليس الصداقة)، يرجع ذلك التناقض إلى أن القوى الغربية تمثل رأس المال الأجنبي الذي يستثمر ويربح في الصين ولكن تلك السلطة السياسية، تمثل عامل الكبح الذي يمنع رأسماليته من ارتكاب أخطاء لها آثار سيئة على المدى الطويل يمكنها أن تؤثر على الربح؛ فالاستثمار الأجنبي قد جاء إلى الصين أثناء الأزمة الاقتصادية في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، وهنا كانت القوى الغربية مؤيدة لصعود الصين لإنقاذ معدل الربح من الهبوط وزيادة الطلب العالمي. ولكن بعد تصاعد الصين في الألفية الجديدة، تعلم القوى الغربية أن الصين تستفيد أقصى استفادة من الاستثمار الأجنبي وأنها ليست دولة نيوليبرالية، وأنها تحاول التغريد خارج قوانين النظام العالمي عن طريق اللعب داخله والتحايل عليه، وبالتالي يزيد العداء التدريجي ناحية الصين حتى في مجال الاستثمار الأجنبي، حيث الكثير من الشركات التابعة للدول الإمبريالية بدأت تنقل عملياتها الاقتصادية تدريجياً من الصين لتعود مرة أخرى لبلادها reshoring.

ان المنجزات الاجتماعية التي حققتها الصين كالقضاء على فيروس كورونا والقضاء على الفقر المدقع ورفع مستوى معيشة الطبقات الشعبية وتطوير النظام الصحي والاسكان والتقدم التكنولوجي الهائل الذي يكاد ان يناطح الغرب المتقدم والتطور الكبير في الاعداد العسكري، كل ذلك ينفي عن الصين صفة النيوليبرالية أو النيوكولونيالة، نعم مازالت الصين دولة عالم ثالث لكنها  ليس مثل الهند أو البرازيل أو حتى روسيا، ان وصف الصين بذلك قد بدأ بعد الاصلاحات الاقتصادية في الثمانينات عندما ارتفعت حدة اللامساواة والفقر والجريمة وشتى الامراض الاجتماعية ولكن الآن قد ضَعُف هذا الوصف أو القالب كثيراً.

ثانياً: علاقة الصين بدول العالم الثالث أو هل الصين أمة إمبريالية؟ 

ومن أسباب العداء المتفاقم تجاه الصين علاقتها مع العالم الثالث وخصوصاً مع الدول المغردة خارج السرب مثل إيران وفنزويلا وكوبا وغيرها. بالطبع توجه إلى الصين اتهامات عديدة وتحذر القوى الغربية دول العالم الثالث من الانخراط مع الصين في مشاريع أو الاستدانة من البنوك التابعة لها مرة بالترغيب ومرة بالترهيب من خلال خلق فزاعات مفادها ان الصين تريد استغلال دول العالم الثالث والاستحواذ على مقدراتها عبر أفخاخ الديون. ويوجه بعض المفكرين اليساريين نفس الاتهام إلى الصين ولكن باستخدام مصطلح الإمبريالية الصينية. وسنحاول مناقشة تلك الادعاءات بشكل موضوعي بعد استعراض سريع لعلاقة الصين بدول العالم الثالث.

احتاجت الصين في بداية انطلاق ماراثونها الاقتصادي إلى العديد من السلع أهمها مصادر الطاقة وبعض السلع الغذائية، وعلى ذلك الأساس تعاملت الصين مع دول العالم الثالث. ولكن الفرق بين تعامل الصين وتعامل الغرب مع تلك الدول هو أن الغرب لا يقوم بشراء مصادر الطاقة وكفى، ولكنه يفرض نظاماً اقتصادياً وسياسياً وأيديولوجياً على تلك الدول كشرط أساسي حتى يتسنى للغرب التجارة معها؛ أي أن أية دولة تريد أن تبيع مصادر طاقتها للغرب بهدف جمع الأرباح لتحقيق التنمية أو التصنيع أو إحلال الواردات أو تطبيق برامج رفاه اجتماعي، يجب على تلك الدولة أن تقوم بعمل “إصلاحات هيكلية أو انفتاح اقتصادي” (كما تسميه المؤسسات الغربية). وتحتوي تلك البرامج والروشتات التي يفرضها صندوق النقد الدولي على بيع أصول الدولة (التراكم البدائي عبر الانتزاع) وخصخصة الخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم والنظافة والكهرباء والمياه.. الخ. ورفع الدعم عن الغذاء والمحروقات.. الخ. وإضعاف سلطة الدولة عبر فتح المجال أمام منظمات المجتمع المدني الغربية لتقوم بتنظيم المجتمع وبتوفير الخدمات للمحتاجين (كما يُراد بها أن تفعل وهذا بالطبع مشكوك في أمره)، وتفكيك الثقافة الوطنية الشعبية واستبدالها بثقافة حقوقية غربية بالإضافة إلى الديمقراطية الغربية الإجرائية. كل ذلك يعني أن الدولة التي تريد بيع موارد طاقتها للغرب لتحقيق التنمية أو رفاه شعبها سينتهي بها الحال إلى تدمير أحلام التنمية وإفقار الطبقات الشعبية وتهديد سيادتها القومية. فالمشكلة في الأساس ليست في بيع مصادر الطاقة (كخطوة مبدئية في خطة شاملة لتحقيق تراكم يساهم في بدء عملية التصنيع القومية)، ولكن تكمن الأزمة في ماهية الجهة التي ستشتري مصادر الطاقة. إن الغرب في مقابل شرائه لمصادر الطاقة في دول العالم الثالث سيجعل تلك الدول تبيع كل شيء. 

ولتقييم الادعاءات المعادية للصين من جهة علاقاتها بدول العالم الثالث، في البداية يجب أن نسأل ما الذي يجبر تلك الدول على التعاون مع الصين اقتصادياً؟ مع العلم أن الصين لا تفرض عقوبات أو موانع أو أي قيود على من لا يتعامل معها ولا يمثل مصالحها، كما أنها لا تملك ترسانة من المنظمات الاقتصادية الدولية، لفرض ذلك، كما أن الصين لا تشترط على الدول أي الزامات أو مطالب كشروط للتعاون معها، كما أنها لا تشترط على الدول ألا تكون حليفة للولايات المتحدة مثلاً. ولو نظرنا إلى الجانب الآخر سنجد العكس تماماً، فالولايات المتحدة تفرض العقوبات والموانع والقيود على من يتعامل مع الصين، كما أن المنظمات الدولية الاقتصادية تساهم في ذلك، وفي أحيان كثيرة ترفض تلك المنظمات التعاون مع بعض البلدان التي تتعاون مع الصين. بالرغم من تلك الظروف، نجد أن هناك بعض البلدان بالفعل تتجه للصين للتعاون معها، وهذا يعني ببساطة أن التعاون الصيني يحتوي على شروط اقتصادية أفضل من الشروط المحددة للتعاون مع القوى الغربية ومنظماتها؛ ولذلك يبقى التفسير المقبول أن التعاون الصيني مفيد لبلدان العالم الثالث، وأن الصين لا تستحوذ على نسبة غير عادلة من أرباح المشاريع التي تقام مع العالم الثالث. 

بناء على ما سبق سنختلف مع المفكر الاقتصادي الماوي الصيني؛ مينكي لي (Minqi Li 2021) في قوله إن الصين وعلى الرغم من أنها ليست دولة إمبريالية مركزية (رأسمالية متقدمة) بل دولة شبه – محيطية (دولة نامية ساعية للتقدم أو دولة متوسطة في ترتيب النظام العالمي الرأسمالي) semi-peripheral ، فإنها أنشأت علاقات اقتصادية استغلالية مع أمم محيطية (دول فقيرة) في جنوب آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. ويعزو منكي لي ذلك إلى أن أي دولة شبه محيطية – نتيجة ترتيبها البنيوي في النظام العالمي الرأسمالي- تستغل الدول المحيطية الأخرى، كما أن الدول شبه -المحيطية يتم استغلالها أيضاً من قبل دول المركز. بالطبع هنا يتجه مينكي لي توجهاً اقتصادوياً، وبالتالي لا يرى الفروق البنيوية السياسية بين الدول شبه المحيطية؛ فبالطبع لا يتشابه نظام الصين مع نظام رأسمالية الدولة (على الشاكلة الغربية) السائد في كوريا الجنوبية أو دول النمور الآسيوية أو دول البريكس عدا الصين أو دول الخليج العربي النفطية. ويتأكد ذلك عند مشاهدة النظام الإمبريالي العالمي يستجيب بعنف أيديولوجي وسياسي تجاه علاقة الصين مع الدول المحيطية وفي نفس الوقت عدم امتعاض الإمبريالية من علاقة باقي الدول شبه المحيطية (ككوريا الجنوبية وبالطبع تايوان والهند والبرازيل ودول الخليج العربي.. الخ) بالدول المحيطية. من الواضح أن للصين ما تقدمه للدول الطرفية أو المحيطية ما يمكن أن يغني الأخيرة عن التعامل مع الرأسمالية الاحتكارية العالمية أو فك الارتباط بها.

ومن جهة أخرى يفند بحث مينكي لي (Minqi Li 2021) ادعاءات بعض اليساريين كديفيد هارفي بأن الصين دولة إمبريالية مستخدماً في ذلك كتاب لينين “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية” ليخبرنا إذا كانت تلك الادعاءات تتوافق مع تعريف لينين للإمبريالية أم لا؛ فمن 2010 حتى 2018 شكلت العوائد من استثمارات الصين بالخارج حوالي 3%، أما العوائد التي تجنيها الشركات الأجنبية الاحتكارية التي تستثمر في الصين كانت 6%؛ أي أن الصين تربح من جراء “كل استثماراتها” في كل العالم نصف ما تربحه الشركات الأجنبية الغربية في بلد واحد! وفي 2017 نفذت الدول الغربية عمليات نقل رأس المال خارج البلاد capital outflows بنسبة أكبر بأربع وعشرين مرة من الصين (China and the left conf. 2021, panel 1). أما دخل الاستثمار الصيني في الخارج فقد شكل 1.6% من الناتج المحلي الإجمالي. ولكي نستوعب مغزى هذا الرقم علينا أن نذكر أنه في بداية الحرب العالمية الأولى ساهم الدخل الاستثماري البريطاني بـ 9.6% من الناتج المحلي الإجمالي البريطاني. هذا يعني أن أرباح الصين من جراء الاستثمار في الخارج ليست “بالأرباح الفائقة” التي تحدث عنها لينين في كتاب “الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية” بل هي أرباح عادية نسبياً. أما عن التكنولوجيا فإن الصين مازالت تستورد براءات اختراع أكثر مما تُصًدِّر (Op.Cit)؛ كل هذا ينفي تهمة الإمبريالية عن الصين. 

ولتقديم قياس آخر أكثر توضيحاً لطبيعة الصين شبه المحيطية، يوظف منكي لي مفهوم “التجارة بحسب قيمة العمل (اختصاراً: تبقع)” labor terms of trade لكي نرى حجم قوى العمل التي تجنيها أو تخسرها الصين. إن مفهوم “تبقع” يعني وحدات العمل الأجنبي التي يمكن تبادلها مع وحدات العمل المحلي، أو بشكل آخر، قدر العمل المتجسد في السلع الواردة من الخارج والتي يمكن مبادلتها في السوق بسلع محلية تتجسد فيها قوى عمل محلية. في 1990 كان “تبقع” الصين يساوي 0.05؛ أي أن الوحدة الواحدة من العمل الأجنبي تساوي 20 وحدة عمل محلي صيني، يدل ذلك بالطبع على انخفاض قيمة قوى العمل الصينية واستغلالها بشكل فائق في بداية مرحلة الانفتاح. ولكن عندما نصل إلى 2017 نجد أن “تبقع” الصين وصل إلى 0.5، فوحدة العمل الأجنبية تساوي وحدتي عمل صينية. يدل ذلك على التطور النسبي الذي حدث في معدل معيشة العمال الصينيين والانخفاض النسبي لمعدل استغلال قوة عملهم وانخفاض في التبادل غير المتكافئ (بنسبة 200% تقريباً). ولكن يعني ذلك أيضاً أن الصين مازالت تقع في علاقة استغلالية مع الغرب الإمبريالي لصالح الأخير وخصوصاً الولايات المتحدة، يتأكد ذلك مع ملاحظة أن التغير في حاصل خسارة العمل الصيني net labor loss يتناسب مع حاصل كسب العمل الأميركي net labor gain؛ أي أن القيم التي تنتجها قوى العمل الصينية المستغَلة مِن قِبَل رأس المال الأجنبي تذهب إلى الولايات المتحدة، مما ينفي تهمة الامبريالية تماماً عن الصين، هذا عن الحاضر، ماذا إذن عن المستقبل؟ هل يمكن أن تتحول الصين إلى الإمبريالية في المستقبل القريب أو البعيد؟ في الواقع حتى مع الافتراض الخاطئ بأن الدولة الصينية مجرد دولة تريد السعي نحو الثراء والقوة القومية، فإنها لن تستطيع الانضمام إلى دول المركز الرأسمالي، لأن ذلك سيعني أن تعداد سكان دول المركز سيكون ثلث سكان الأرض، وهذا سيؤدي إلى استهلاك كم مهول من الموارد الطبيعية والمصنَّعة (السلع) التي ستحتاجها الصين لتصبح من دول المركز الرأسمالي؛ فلنتخيل أن 1.4 مليار نسمة سيعيشون على الطريقة الأميركية! ذلك بالطبع سيؤدي إلى زيادة معدلات التلوث البيئي التي هي بالفعل مرتفعة بدرجة تهدد الحياة على كوكب الأرض. كما أن انضمام سكان الصين إلى المركز الرأسمالي سيفرض استغلالاً مهولاً على الدول الطرفية والتي يعيش الكثير منها تحت خط الفقر، مما سيؤدي إلى إبادات جماعية وثورات. على العموم لا تعتزم الصين فعل أي شيء من ذلك ناهيك عن عدم قدرتها ويؤكد على ذلك مفهوم “بناء مستقبل مشترك للبشرية”. السيناريو الأكثر قرباً للواقع هو أن الصين ستستمر في المساهمة في تحديث الأمم الطرفية من خلال تطوير البنية التحتية والاتصالات والتكنولوجيا، وذلك سيؤدي إلى رفع تركيبة رأس المال من خلال تطوير رأس المال الثابت والتحول نحو الصناعات ذات رأس المال الكثيف (كثيفة التكنولوجيا). بالطبع سيخفض ذلك من الاستغلال الفائق الذي تتعرض له دول الجنوب العالمي من جهة دول المركز الرأسمالي، وستقل أرباح المركز الفائقة. في النهاية سيؤدي كل ذلك إلى تطويق الإمبريالية كخطوة أولى لإنهائها. بالطبع هذا التوقع الاقتصادي لن يتحقق إلّا بوجود حركات سياسية تقدمية حاكمة في الجنوب تسعى حقاً لفك الارتباط مع النظام الرأسمالي الاحتكاري، ووجود تعاون استراتيجي بين كل تلك الحركات للسعي نحو اشتراكية القرن الحادي والعشرين.

ثالثاً: هل العمالة الرخيصة (أو الاستغلال الفائق) هو السبب الأوحد لنهضة الصين؟

من الحجج التي يوردها الاقتصاديون الليبراليون أن العمالة الرخيصة كانت الميزة التنافسية Comparative advantage بالنسبة إلى الصين وكانت السبب الرئيسي في جذب الاستثمار الأجنبي، وعلى الجانب الآخر يرى بعض الماركسيين أن “الاستغلال الفائق” كان السبب في جذب رؤوس الأموال للتمتع بمعدلات ربح فائقة.

وسنناقش تلك الآراء من خلال الآتي:

  1. لا تتضمن ميزة العنصر التنافسية comparative factor advantage على ميزة التكلفة التنافسية بشكل تلقائي comparative cost advantage) Roberts 2015)، ويعني ذلك أنه ليس لأن الصين تمتلك عمالة رخيصة كميزة، فإنها تستطيع إنتاج سلع بتكلفة تخول لها المنافسة في السوق العالمي، لأنه توجد عوامل كثيرة تساهم في تحديد ميزة التكلفة التنافسية كتكلفة النقل والضرائب والجمارك…الخ.
  2. هل العمالة الصينية رخيصة بالفعل؟! يقيس اقتصاديو البنك الدولي ثمن العمالة من خلال الأجر المالي فقط ولا يحسبون تكلفة التعليم المجاني والخدمات الصحية. الخ، وكل تلك الأشياء كان يحصل عليها هؤلاء العمال قبل بداية الإصلاحات وبعدها إلى حد كبير.
  3. تفترض تلك النظرية أن الاقتصاد الذي يحتوي على تلك العمالة الرخيصة يحتوي أيضاً على طاقة استيعابية لتحتوي كل تلك العمالة، فيمكن أن تتواجد العمالة الرخيصة الوفيرة ولكن لا تتواجد المشاريع الصناعية الكافية (أو معدل الاستثمار الكافي) لامتصاص تلك العمالة مما يؤدي إلى الفوضى والتقلبات، وهذا ما حدث ويحدث في الدول التابعة التي سلكت مسلك النيوليبرالية.
  4. تفترض تلك النظرية أيضاً وجود أحدث أساليب وممارسات الصناعة متبعة، فيمكن أن توجد عمالة رخيصة وفيرة بدون تكنولوجيا مما سيؤدي حتماً إلى فشل الاقتصاد. 
  5. تفترض النظرية وجود طلب عالمي كافٍ، فالطلب أو الاستهلاك الأميركي والأوروبي الغربي كان سبباً مهماً في دفع عجلة التنمية الصناعية الصينية.

وننتقل الآن لمناقشة الاستغلال الفائق. إن التعريف الأساسي للاستغلال في النظرية الماركسية ينبع من أن العامل يعمل مدة معينة بعد أن ينتهي من المدة الكافية لتجديد قوة عمله وإعادة إنتاج تلك القوة (بيولوجياً ونفسياً وثقافياً واجتماعياً)؛ أي أن الأجر الذي يحصل عليه العامل يكفي فقط لتجديد قوة عمله، والعمل الإضافي الذي يعمله يصبح عملاً فائضاً يولد قيمةً فائضةً يستحوذ عليها الرأسمالي. ينبع إذن الاستغلال الفائق من أن العامل يحصل على أجر أقل من قيمة قوة عمله، فبالإضافة لعمله مدة عمل فائضة (التي في الأغلب تطول في الدول النيوكولونيالية نسبة إلى دول المركز الإمبريالي، وبالتالي يزيد الاستغلال هنا من حيث فائض القيمة المطلق) يتم إعطاؤه أجراً قليلاً لا يستطيع من خلاله حتى أن يجدد قوة عمله بشكل كامل.

 ترتبط تلك الظاهرة بالإمبريالية، ووقوع بعض التكوينات الاجتماعية في علاقة تبعية وتبادل غير متكافئ مع الدول الإمبريالية وتواجد طبقة كومبرادورية (تابعة) في الدول التابعة تشارك الطبقة البرجوازية الاحتكارية العالمية في ريعها الإمبريالي، للمزيد يمكن الرجوع إلى (Smith 2019).

بالنسبة للصين، فإن الجانب الإمبريالي من الاستغلال الفائق قليل الحدوث، فالصراعات والعداوات التي تصنعها القوى الغربية مع الصين كفيلة بإثبات ذلك (op.cit., 16)، ولكن هذا لا يمنع أن رأس المال الأجنبي يستغل العمال الصينيين على مستوى فائض القيمة المطلق والنسبي. ولا نستثني حدوث استغلال فائق في الصين وخصوصاً في بداية الإصلاحات، ولكن حتى إن قررنا ذلك بشكل نوعي، فإن نظرنا إلى الأمر من وجهة نظر كمية سنجد أن الاستغلال الفائق لن يتساوى كمياً مع مثيله في الدول التابعة، وهذا يرجع إلى التركيبة الصناعية المتطورة نسبياً في الصين قبل الإصلاحات، بالإضافة إلى الخدمات والامتيازات التي يحصل عليها عمال الصين مقارنة بعمال الدول النيوليبرالية. ومع الوقت وبالتدريج السريع يقل الاستغلال الفائق في الصين نتيجة ارتفاع عنصر رأس المال (الثابت) في الصناعات، أي انتقال الصين من الصناعات كثيفة العمل البشري إلى الصناعات كثيفة رأس المال. 

رابعاً: هل الصين تشبه الاتحاد السوفييتي سابقاً؟!

يدور ادعاء في مختلف الدوائر الأيديولوجية في العالم حول تشابه الصين مع الاتحاد السوفييتي سابقاً؛ فالإثنان قوتان كبيرتان وقعتا في تحدٍ ضد هيمنة الولايات المتحدة الأميركية؛ بالإضافة إلى الانتماء إلى الشيوعية بما أن الاثنين يحكمهما حزب شيوعي. ولكن شتان الفرق بين الاتحاد السوفييتي والصين على المستويين الداخلي والخارجي؛ بالنسبة للداخل فالاتحاد السوفييتي قد خضع لعملية أو مسيرة تطور تختلف عن الصين ولا نقصد فقط الانحلال الذي حدث للاتحاد السوفييتي عام 1991 ولكن منذ البداية (حتى في المرحلة الثورية قبل 1917 بالنسبة للاتحاد السوفييتي و1949 بالنسبة للصين) كان هناك فرق واضح.  فإن ثورة أكتوبر قامت في الأساس بناءً على أسس الرؤية الماركسية الكلاسيكية بعد إقامة تعديلات لتوافق المجتمع الروسي حينذاك؛ فالبروليتاريا الصناعية في روسيا القيصرية (الحلقة الضعيفة في السلسلة الإمبريالية) كانت نواة الثورة الاشتراكية أما الفلاحون فأتوا في المرتبة الثانية في الأهمية، أو بمعنى آخر قد أوكل إليهم مهمة إنجاز المرحلة البرجوازية في الريف، وهي المرحلة التي تتميز بالإصلاح الزراعي وتوزيع الملكيات الخاصة الزراعية على الفلاحين، ولكن بسبب العديد من العوامل التي نحن بغنى عن مناقشتها أدى ذلك لتثبيت عملية التطور عند المرحلة البرجوازية تلك وانعدام إرادة الفلاحين للخوض في أية مرحلة أبعد من ذلك، مثل التنازل عن الأرض وإنشاء المشتركات الفلاحية collectivization. كل ذلك يرتبط بعدم التثوير الكافي للفلاحين مما نجم عنه أزمة 1930 إبان الخطة الخمسية الأولى لستالين. ولكن كما سنشير اختلف الأمر تماماً في الصين حيث اكتسب الفلاحون دوراً ثورياً أولياً بالإضافة إلى أغلبيتهم العددية التي استطاعت أن تطيح بالمدن المسيطر عليها من قبل الكومنتانج.

 بالنسبة للاقتصاد السوفييتي فإنه قد طبق التراكم البدائي الاشتراكي اعتماداً على استغلال الفلاحين بشكل أساسي. أما في الصين فجاءت فترات حاولت السلطة الصينية (وهنا كانت السلطة الماوية) نقل التطور الحضري إلى الريف من خلال إنشاء صناعات ريفية وإنشاء مدارس متخصصة لنشر الرعاية الصحية في الريف.. الخ، وحتى في الأوقات التي تولت فيها شريحة التراكم الاشتراكي السلطة – كالحقبة التي تبعت القفزة الكبيرة للأمام- كانت تلك الفترات تحتوي على تنوع في السياسات الاقتصادية وعدم النقل الأعمى للنموذج السوفييتي. وبالنسبة للجانب السياسي فإن الاتحاد السوفييتي منذ عهد ستالين قد حصر الصراع داخل أجهزة الدولة؛ فقد حاول ستالين تثبيت حكمه عن طريق إجهاد أجهزة الدولة المختلفة في صراعات داخلية حتى لا يتسنى لقطاعٍ منهم أن يراكم أية قوة. ولكن ما حدث هو العكس فتلك الطريقة في الحكم هي نواة نشأة رأسمالية الدولة بشكل عام؛ حيث تبدأ الأجهزة في الصراع فيما بينها حتى تسود جماعة معينة على باقي الجماعات الدولتية ويحدث توازن مؤقت، وبعد فترة يعود الصراع مرة أخرى حتى تتحرر الرأسمالية من قيود الدولة. أما في الصين فالصراع كان خارج الدولة؛ فالجماهير اشتركت وساهمت في كل الصراعات الاجتماعية؛ فكما سنشير كان هناك صراع اجتماعي واضح بين الخط الجماهيري الماوي وبين شريحة التراكم الاشتراكي البدائي؛ أدى هذا الصراع إلى تعطيل عملية تبلور طبقة برجوازية داخل الدولة. 

بالنسبة للجانب الأيديولوجي فإننا نلاحظ أنه في الاتحاد السوفييتي كانت هناك هوة سحيقة بين الادعاءات الأيديولوجية والواقع؛ حيث أنه في السنوات القليلة قبل تفكك الاتحاد؛ أي عندما سادت الأزمات الاقتصادية وكانت رأسمالية الدولة تتحكم في كل شيء، كانت الاجتماعات والخطب الحزبية تتخم بالادعاءات الأيديولوجية عن تحقيق الشيوعية. ولكن في الصين نجد محاولات جادة (على الرغم من فشلها) لتحقيق الشيوعية، والصين بعد 1978 اكتسبت طابعاً أيديولوجياً عملياً للغاية؛ هذا ما نلمسه في خطابات دينج شاو بينغ وشي جين بينغ وغيرهم؛ حيث يقولون إن الصين مازالت في المرحلة الأولى لبناء الاشتراكية، وإن الاشتراكية ستبدأ في الظهور حول 2050 تقريباً، وإن الطبقات الاجتماعية ستتلاشى كلية في فترة من 100 إلى 500 عام. كل هذا يدل على أننا أمام خطاب أيديولوجي عملي يحاول أن يتوافق مع الواقع.

بالنسبة للعلاقات الخارجية فالكثير مازال يعيش بوعي الحرب الباردة، ويظن أن الصين تعادي الولايات المتحدة، وأن مصالح الاثنين تتعارض بشكل مطلق. والكثير أيضاً مازال يعوِّل كثيراً على الدولة- الأمة كوحدة سياسية واقتصادية مغلقة على ذاتها تحاول أن تزاحم وتكسب مكانة بين الوحدات الأخرى. في الواقع أدت العولمة منذ العقد السابع من القرن العشرين إلى خروج رأس المال القومي الاحتكاري من الحدود القومية، وزيادة وتيرة الاستثمار الأجنبي بشكل كبير؛ وذلك لإنقاذ معدل الربح من الانخفاض؛ فالعمال في الدول الغربية قد حققوا إنجازات اجتماعية زادت من قيمة قوة عملهم وقيمة تجديدها بشكل كبير، وذلك بالطبع قد خفض من الربح الرأسمالي مما دفع البرجوازية إلى الخروج للبحث عن مصادر أخرى لزيادة معدل الربح؛ أولها العمالة الرخيصة. كل ذلك غيَّر من خريطة الصراعات السياسية في العالم؛ فالقوى الغربية الإمبريالية لم تعد قابعة داخل حدودها القومية، وبالتالي لم تعد ملزمة أن تعقد سيطرة سياسية مباشرة على الدول الأخرى؛ بل تكفي السيطرة الاقتصادية من خلال مؤسسات العولمة الدولية ومن خلال وسائل سياسية جديدة، على الرغم من أن الوسائل القديمة لم تختفِ كليةً. كل هذا يدل على أننا أمام واقع جديد لا تدركه أيديولوجيا اليمين القومي الغربي، وعلى النقيض لا يدركه بعض قوميي الجنوب العالمي.

أثناء الحرب الباردة كان رأس المال السوفييتي منحصراً داخل الاتحاد بشكل كبير وربما تكون تلك معلومة غريبة للبعض؛ فكيف يكون منحصراً على الرغم من إرسال مساعدات سوفييتية لدول كثيرة كالمصانع والأسلحة والأدوات والأفكار والخبراء…الخ؟ ولكن نحن هنا نقصد الاستثمار الأجنبي الذي كانت الدول الإمبريالية (وخصوصاً الولايات المتحدة وبريطانيا) هي التي تقوم به نظراً لتطور رأسمالها إلى درجة تسمح لها الخروج خارج الحدود القومية (نتيجة أزمة انخفاض معدل الربح). ولكن لم يكن الاتحاد السوفييتي إمبريالياً على الرغم من القدر الكبير من التدخلات التي قام بها. إن الاتحاد السوفييتي كان حينذاك يلعب لعبة سياسية مع الولايات المتحدة أو الغرب بشكل عام أساسها هو استقطاب دول الجنوب العالمي وبالتالي ضرب مصالح الغرب في تلك البلدان مما نتج عنه قوة تفاوضية أكبر للاتحاد السوفييتي مع الغرب؛ ولهذا السبب كان لولاء دول الجنوب العالمي السياسي والأيديولوجي للاتحاد السوفييتي أهمية كبرى بالنسبة للأخير. كل هذا أدى إلى تدخل الاتحاد السافر في شؤون الدول الأخرى وعقد تحالفات مع دول في الواقع هي بعيدة كل البعد عن الاشتراكية وفي نفس الوقت اصطناع عداء مع دول اشتراكية كالصين.

أما بالنسبة للصين فإنها تروج لمصطلح “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية” وهو مصطلح يعبر بشكل أيديولوجي عن طريقة تعامل الصين مع الآخر، فتحقيق الاشتراكية بالنسبة للصين هو هدف صيني وليس على الآخر أن يتبعه لكي يكسب وُدَّ الصين. كما أن النظام الاشتراكي هو نظام ذو سمات صينية؛ أي أنه خاص بالصين فقط. هذا يتجلى جيداً في تطبيق الصين لمبادئ التعايش السلمي وتعاملها تعاملاً اقتصادياً صِرفاً مع مختلف البلدان ذات التوجهات المختلفة. كل هذا يُبعد عن الصين فكرة التشابه مع الاتحاد السوفييتي الذي حاول جاهداً تصدير نظامه الاجتماعي وكثير من أفكاره.

وبالنسبة للعلاقة مع الولايات المتحدة فإن التوتر بينها وبين الصين يتم التهويل من أمره ويرجع ذلك إلى حالة العداء الشديدة التي نشأت بعد أن تولى دونالد ترامب السلطة في الولايات المتحدة. باختصار شديد ترامب هو استجابة سياسية شبه فاشية (ربما تتكرر عدة مرات) للأزمات التي يعيش فيها النظام الرأسمالي العالمي؛ ولكن تلك الاستجابة غير كافية تماماً لأنها تحاول أن تجد حلولاً داخل إطار الدولة- الأمة الأميركية وإلقاء اللوم على المهاجرين، وعلى الصين بالطبع التي من وجهة نظرهم تدمر الصناعة الأميركية من خلال تصدير السلع الصينية إلى الولايات المتحدة (وكأن تلك السلع ليست من إنتاج الشركات الغربية التي تعمل داخل الصين!) وغير ذلك من الخطاب القومي- الفاشي. ولكن بالطبع فشل مشروع ترامب لأنه حاول تمثيل الرأسمالية الاحتكارية “المعولمة” من خلال استجابة قومية. ولهذا من المتوقع أن الاستجابة لأزمة البرجوازية العالمية ستكون على مستوى عالمي يقل فيه العداء المباشر تجاه الصين. إذن فالصين لن تكون جزءاً من أية حرب باردة جديدة. تتأكد تلك الرؤية من خلال موقف الصين من الحرب الروسية- الأوكرانية التي نشبت في فبراير 2022؛ نجد أن الصين تطلق تصريحات متعقلة مساندة لموقف روسيا الشرعي في الدفاع عن سيادتها ضد الناتو ولكن بدون أن تسمح الصين بأن يزج بها في الصراع الدولي أو اعتبارها حليفاً مطلقاً لروسيا. كما أن توصيات الصين بحل الأزمة بشكل سلمي عبر المفاوضات تؤكد على الموقف المحايد للصين وعدم نزوعها للدخول في أية حرب باردة. تأكد ذلك عبر حديث الرئيس شي جين بينغ مع نظيره الأميركي جو بايدن عبر الفيديو كونفرانس يوم 18 مارس 2022 والمنشور في وكالة أنباء شينخوا الصينية. كما أردفنا فإن إدارة بايدن تنوي إدارة أزمة الرأسمالية العالمية من خلال استجابة عالمية غير قومية تناسب حجم الأزمة، وهذا بالطبع يستلزم عدم العداء المباشر مع الصين (كعداء الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفيتي عقب الحرب)، هذا التوجه جعل بايدن يقول بأن الولايات المتحدة لا تدعم استقلال تايوان وأنها لا تريد تغيير النظام الصيني. بالطبع الولايات المتحدة تكذب بشأن ذلك (والدليل زيارة نانسي بيلوسي لتايوان). ولكن من الواضح أنها تنوي التعامل مع الصين (ومعاداتها) بأدوات جديدة بالإضافة إلى منطق وأدوات الحرب الباردة (كما تتعامل الآن مع روسيا)؛ حيث أن الصين كيان أكبر من ذلك بكثير، وبالتالي استخدام الأدوات القديمة حصراً – كالعقوبات والتطويق العسكري وخلافه- لن يؤثر فيها بل سيزيدها قوة وستتضح طبيعة تلك الأدوات الجديدة مع الوقت. 

في الجُزء الأول ناقشنا الأطروحات والقوالب المختلفة التي تحاول الامساك بحقيقة الصين والآن جاء الوقت لنتحدث بشكل إيجابي؛ أي نحاول الاجابة على سؤال ماهية النظام الصيني.

ولكن قبل استعراض مفهوم “التراكم الاشتراكي البدائي” ومدى مطابقته لواقع الصين يجب في البداية إبداء بعض الملاحظات حول مفاهيم عامة كالرأسمالية والاشتراكية ورأسمالية الدولة حتى لا نقع في نفس التصورات الخاطئة التي ناقشناها. 

رأسمالية ذات خصائص غربية

عند تعريف أي نظام أو ظاهرة تعريفاً علمياً موضوعياً من الأفضل أن نربط الظاهرة بما حولها من ظواهر؛ أي نتناول الظاهرة في شمولها وكليتها وعلاقتها الجدلية بما حولها دون أن نتخلى عن أساس الظاهرة، ولكن في نفس الوقت لا نكتفي فقط بذلك الأساس.

هكذا يجب أن ندرس الرأسمالية؛ ففي جوهرها نجد الاستغلال وقانون القيمة Law of Value أو نمط الإنتاج الرأسمالي، حيث يعمل العامل ساعاتٍ إضافية لينتج قيماً إضافية يستحوذ عليها رب العمل. ولكن إن اكتفينا بذلك فسنتغافل عن تعقيدات الرأسمالية الأخطر التي تؤثر على مسار التاريخ، وهي التعقيدات السياسية والثقافية التي تشترك في تأسيس التشكيلة الاجتماعية. وأهم العلاقات التي يجب أن تُدرس هي علاقة رأس المال أو الطبقة البرجوازية بالدولة، وبذلك نكون قد ابتعدنا عن التعريفات الاقتصادوية للرأسمالية التي تحصر تعريف الرأسمالية فقط في جانبها الاقتصادي.

لقد اتخذ مسار الرأسمالية الغربية منذ بدايته شكلاً محدداً. وصفة “الغربية” هنا لا تعنى أبداً نطاقاً جغرافياً أو اتجاهاً ما على الخريطة، بل تعني شكلاً بنيوياً وتاريخياً محدداً ميز ظهور الرأسمالية في المجتمعات الغربية في البداية، ثم شاع ذلك النموذج بكافة تناقضاته وأنواعه وتراتبياته إلى كافة بقاع العالم غربية وشرقية. وسنحاول توضيح بنية النموذج الغربي، ومن ثم نرى هل توجد نماذج أخرى ممكنة غير ذلك النموذج أم لا.

إن لظاهرة الدولة في المجتمع البشري تاريخ طويل لا يقتصر فقط على الحقبة الرأسمالية، لكن تلك الفترة الأخيرة تمتاز بعلاقة مميزة بين الاقتصاد (أو رأس المال) والدولة. فيقول فرديناند براوديل Braudel إن الرأسمالية تتميز بخضوع الدولة لرأس المال (Appel 2014, 659). ويشبه جرامشي علاقة رأس المال بالدولة تشبيهاً عسكرياً، فيقول إن الدولة هي القلعة الحصينة التي يقف وراءها رأس المال. أي أن الأخير هو الذي يحرك الدولة ويسيطر عليها ويوظفها في خدمته.

ففي أنماط الإنتاج السابقة للرأسمالية وخصوصاً تلك الأنماط التي امتازت بشكل مركزي للحكم والإدارة الاقتصادية والسياسية – مثل نمط الإنتاج الآسيوي أو الخراجي في مصر والهند والصين- ارتبط الاقتصاد بالدولة ارتباطاً شديداً. وفي أحيان كثيرة وقفت الدولة أو الإمبراطورية العالمية world-empire في وجه حدوث عملية تراكم (تجاري- ماركنتالي والذي ينتج عن تجارة السلع) بسبب حدوث مصادرات، أو بسبب تخوف من هم في السلطة من استقلال أصحاب المال، فالمصادرات هي أفعال كانت شائعة للغاية في العالم القديم والوسيط. وبالتالي يجب الافتراض أن الضعف النسبي للدولة أو للدول – بشكلها القديم، أي قبل القومية الحديثة- هو شرط ضروري لقيام الرأسمالية بشكلها الغربي؛ وهذا ما حدث بالفعل في أوروبا مثلاً، حيث ضعفت العلاقة والوحدة بين الدول التي أقيمت على الروابط الإقطاعية العابرة للحدود القومية السياسية. وصعدت الدولة القومية البرجوازية (الدولة الأمة) وبدأ تصارع الدول فيما بينها. وهكذا أصبحت الدولة ممثلةً لرأس المال الذي صعد وهيمن على الحياة الاقتصادية والاجتماعية للأمة، حيث أصبحت للدولة مهمة إعادة إنتاج الوضع الطبقي وإعادة الإنتاج الإيديولوجية والسياسية من خلال شتى أجهزتها الرسمية (الإيديولوجية والقمعية) وغير الرسمية والمجتمع المدني، كما حدث في صعود الدول الأوروبية الحديثة، وخصوصاً الدولة التي نتجت إثر الثورة الفرنسية. وعلاقة التمثيل هنا هي علاقة تمثيل طويلة الأمد؛ أي أن الدولة البرجوازية تعيد إنتاج الظروف الطبقية لتحقيق المصلحة طويلة الأمد للطبقة البرجوازية الكبيرة أو الاحتكارية، ولكن على المستوى قصير الأمد فالدولة البرجوازية تمثل في الواقع مصالح معظم القوى الاجتماعية الموجودة ولكن بدرجات مختلفة نابعة من ضرورة ضبط الوضع الحالي اقتصادياً وسياسياً. ولا يمكن للدولة البرجوازية فعل نفس الأمر على المستوى طويل الأمد لأن المصالح في الأساس متصارعة ومتناقضة؛ فلن يتم تحقيق مصلحة البرجوازية بدون القضاء على مصالح الطبقات الشعبية والعكس صحيح. ولكن على المستوى القصير، تحاول الدولة إدارة صراع المصالح لتسيير الأمور على ما يرام لأطول مدة ممكنة حيث تتحقق مصالح رأس المال. ويجب أن نتذكر ذلك جيداً عند الحديث عن طبيعة دولة الصين، واختلافها عن النموذج الغربي كما سيأتي. 

وعلى الرغم من الدور الهام والضروري الذي تقوم به الدولة القومية في تمثيلها الموضوعي لرأس المال وتمثيلها الشكلي والجزئي للطبقات الشعبية، إنه برغم ذلك تنفصل الحياة الاقتصادية (أو الاقتصادي the economic) عن الحياة السياسية (أو السياسي the political) بشكل واضح كما يخبرنا نيكوس بولانتزاس؛ فمهما زادت مهام الدولة البرجوازية لن تستطيع التعدي على “الاقتصادي” أو السطو عليه بشكل كلي. فالدولة البرجوازية لا تسيطر بشكل ملحوظ إلّا في حالات الأزمة الشديدة، والتي إذا لم تمارس سيطرة جادة فيها فسيتم تقويض دعائم المجتمع الرأسمالي كما حدث ويحدث في كثير من دول العالم الثالث الهشة، أو عندما تمثل الدولة شريحة معينة من الرأسماليين داخلها (رأسمالية الدولة)، وفي تلك الحالة تصبح السيطرة على رأس المال خارج الدولة بمثابة بداية صراع داخل الطبقة نفسها (intra-class struggle) كما حدث في مصر بعد 1956 وتشكيل مراكز القوى والصراع بين الرأسماليين داخل وخارج الدولة. وهنا يجب أن نناقش سريعاً مفهوماً هاماً وهو “رأسمالية الدولة”. في البداية يجب أن نؤكد على أن ذلك النظام لا يؤثر على علاقة الخضوع والتمثيل بين الدولة ورأس المال، فتلك العلاقة ثابتة. وحتى إن لم تمثل الدولة رأس المال بشكل مباشر فإنها تعمل على إعادة إنتاج الظروف والأوضاع الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية التي تعيد إنتاج رأس المال (op.cit.). ولكن رأسمالية الدولة هي طريقة أو أسلوب معين لتلك العلاقة الثابتة. ولها أشكال عديدة عبر التاريخ الحديث سنميز منها شكلين أو قالبين أساسيين:

  1. عندما يكون رأس المال (الخاص؛ أي الاستحواذ الفردي على فائض القيمة) خارج الدولة، وتساعد الأخيرة في تنظيم مختلف أوجه الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية لمصلحة رأس المال الاحتكاري. هذا هو النظام الذي ساد في الحقبة الذهبية بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة. حيث ارتبطت الدورة الاقتصادية خارج الدولة بالدورة الاقتصادية داخل الدولة. وتزامن دفع الرواتب والمعاشات والالتزامات المالية الدولتية تجاه الأفراد وأيضاً تقديم الخدمات الاجتماعية المختلفة مع دفع الرأسمالية الاحتكارية للضرائب بعد تحقيق أرباحها. ذلك النوع من رأسمالية الدولة قد انتهى أو فشل ولا يمكن إعادته بأية صورة لأنه ارتبط بمرحلة تاريخية معينة تمثلت في قومية رأس المال والاتفاق الضمني بين رأس المال والطبقات الشعبية في الأمة ونشوء دولة الرفاه الاجتماعي في الدول الغربية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. 
  2. النموذج الثاني يتميز بوجود رأس المال (الخاص؛ الفردي) داخل وخارج الدولة. ففي مؤسسات الدولة نفسها نجد بعض الأفراد ذوي المناصب الإدارية الكبيرة الذين يستحوذون على فائض القيمة من خلال استغلال العمال والموظفين في مشاريع تقيمها الدولة. ويجب أن نفرق هنا بين النظام الذي يحفز إدارييه عن طريق المكافآت incentives حيث عن طريق ذلك يحقق النظام أهدافه التنموية، وبين نظام يقود فيه هؤلاء الإداريون مشاريع الدولة وينشئون مشاريعَ جديدة بهدف ربحهم. ونستطيع تمييز النظامين؛ فرأسمالية الدولة التي يتحول فيها بعض الموظفين الكبار إلى رأسماليين كالاتحاد السوفييتي والدولة الناصرية مثلاً تكون غير مستقرة وفوضوية بسبب الصراع الدائر بين مختلف قطاعات الدولة، فكل رأسمالي في كل قطاع يريد الاستحواذ على الفائض أو يريد تحفيز قمم الدولة العليا لدعم قطاعه. هذا بالإضافة إلى الصراعات السياسية الداخلية التي تكون في تلك الأحيان حادة وعنيفة ومصحوبة بتضخم هلامي غير حقيقي للدولة. ومع كل تلك الفوضى يوجد أيضاً صراع كبير بين رأس المال الدولتي ورأس المال الحر غير المرتبط بالدولة، بالإضافة إلى الصراع بين رأس المال القومي في مجموعه ورأس المال الأجنبي. وبناء عليه، لا غرابة في أن مثل تلك النظم لا تستمر في الوجود إلّا بضعة عقود نظراً لعدم استقرارها الشديد. وتتطور تلك النظم (أو بالأحرى تنحدر أو تنهار) إلى نموذج الرأسمالية النيوليبرالية التابعة. فالتناقضات في ذلك النظام تنحل عن طريق خروج الرأسماليين الدولتيين من سياق الدولة واندماجهم مع غير الدولتيين في طبقة واحدة وتمفصل تلك الطبقة مع رأس المال الأجنبي لتصبح طبقة كومبرادورية (تابعة). هذا ما حدث بالضبط مع النظم القومية بعد الاستعمار وتحولها إلى نظم نيوكولونيالية كتحول مصر في حقبة السادات ومبارك وحدث أيضاً قبل تفكك الاتحاد السوفييتي بعقود حيث نشأت الأوليجاركية الروسية. 

هكذا يمكننا تلخيص سمات الرأسمالية ذات المسار الغربي:

  1. اقتصادياً؛ الاستغلال وقانون القيمة وتنافسية السوق الحر (أو بمعنى أدق: غير المنضبط) الهادف للربح الأقصى.
  2. سياسياً؛ خضوع الدولة وتمثيلها المباشر وغير المباشر لرأس المال سواء عن طريق نظام رأسمالية الدولة أو السوق الحر.
  3. أيديولوجياً؛ الديمقراطية التمثيلية البرجوازية (سواء تم تحقيقها بالفعل أو يراد تحقيقها) بالإضافة إلى الحرية الفردية وقيم القانون.. الخ.
  4. الإمبريالية بمختلف أشكالها.

هل من بديل؟

والآن بعد أن ناقشنا النقاط الأساسية للرأسمالية الغربية وكيفية تطورها، يجب علينا أن نسأل هل توجد مسارات أخرى للرأسمالية غير المسار الغربي؟ 

ولكي نجعل السؤال أكثر صعوبة، يجب أن نقول إن المسار الغربي لا يعني المسار الذي سلكه الغرب الرأسمالي فقط، بل أيضاً المسار الذي فرضه الغرب الرأسمالي على التكوينات الاجتماعية غير الغربية (جغرافياً) أيضاً؛ ذلك يتضمن نُظُم رأسمالية الدولة والنظم النيوكولونيالية التابعة. 

وللإجابة عن السؤال يجب التفريق بين الحداثة والرأسمالية الغربية. فالتوجه نحو الحداثة في بلد ما لا يعني أن الطريق الذي يتخذه ذلك البلد هو بالضرورة رأسماليٌ غربيٌ. فالحداثة بشكل عام هي مشروع بدأ مع بداية الثورة الفرنسية، يهدف إلى رفاهية الإنسان وتحرره من الطبيعة وعدم استغلال الإنسان للإنسان وإنهاء الفقر والمرض والاستبداد. واتخذت الرأسمالية الغربية مهمة قيادة ذلك المشروع، ولكنها فشلت فشلاً كبيراً منذ بدايتها، لكن لم يكن هناك أي بدائل مطروحة في البداية غير النظام الرأسمالي المُطبق بالفعل، ثم ظهرت بعض المحاولات لتصور حداثة بديلة مع بداية القرن التاسع عشر. وبالطبع أهم محاولة وأكثرها منهجية هي محاولة كارل ماركس وفريدريك إنجلز، حيث تم تفكيك المجتمع الرأسمالي بشكل علمي ومعرفة تناقضاته وأسباب أزماته، تزامنا مع محاولات التغيير، كقيام كومونة باريس ثم ثورة أكتوبر في روسيا والكثير من الثورات الشيوعية في العالم الثالث – منها ما نجح وما فشل- ومازالت المحاولات مستمرة والإبداعات المنهجية لن تتوقف لتصور مستقبل مشترك للبشرية.

إن فشل الرأسمالية الغربية في تحقيق أهداف الحداثة لا يصدر فقط عن عجزها، بل أيضاً لأن الرأسمالية الغربية هي التي صنعت المشكلات والمعاناة المطلوب حلها. فالرأسمالية الغربية كما ذكرنا اعتمدت على الإمبريالية من أجل التوسع، ففي داخل بنية الرأسمالية الغربية توجد تناقضات تجعلها تميل إلى التوسع الدائم الذي يكشر عن أنيابه عبر الإمبريالية منذ لحظات الرأسمالية الأولى. إن الرأسمالية في ذاتها مضادة لأهداف الحداثة. 

فرضت الإمبريالية على التكوينات الاجتماعية الأخرى نمط إنتاج غريب عن أرض تلك التكوينات، وتمفصل نمط الإنتاج الجديد مع الأنماط القديمة، وبالتالي نشأ ما يسميه سمير أمين بـ “النمو غير المتكافئ” uneven development وانتهت إمكانيات تطور تلك المجتمعات ما قبل الحداثية إلى مجتمعات حداثية بشكل طبيعي (تلقائي)، بدون تحول عنيف، وبشكل داخلي بدلاً من الشكل الخارجي العنيف. فيخبرنا سمير أمين أن التكوينات الخراجية كان يمكن لها أن تتطور من داخلها وتصبح حداثية بدون أن تتخذ المسار الغربي الرأسمالي سالف الذكر، ولكن الإمبريالية دمرت تلك الإمكانية (Amin 2011) ولم لا، فإننا نستطيع استنتاج ذلك من النظر إلى موقع الصين في الاقتصاد العالمي إبان الثورة الصناعية، لنجد نجاحاً غير مسبوق قد تم تدميره عن طريق القوى الاستعمارية. وربما مصر “محمد على” يمكنها أن تكون مثالاً، فمشروع محمد على الحداثي ارتبط بالتكوين الخراجي المصري واستخدم أسلوب ذلك التكوين في تعيين وتجميع الموارد allocation of resources، ولكن جاء الاستعمار للقضاء على ذلك المشروع. 

وبناء على كل ما سبق فليس كافياً ان نحدد وجود نمط الإنتاج الرأسمالي وسيادته على الاقتصاد في الصين لكي نعتبر ان النظام الصيني نظاماً رأسمالياً وان نعزى تدخل الدولة في بعض القطاعات الهامة إلى “رأسمالية الدولة”؛ فالتحديد يحتاج إلى عوامل سياسية وطبقية متمثلة في تمثيل الدولة لمصالح الطبقة الرأسمالية على المدى الطويل حتى نستطيع القول إن النظام الصيني رأسمالياً على المسار الغربي.

التراكم الاشتراكي البدائي كأداة تحليل

وسنحاول الآن الاجابة عن السؤال الأساسي حول طبيعة النظام الصيني والذي نَدعى انه يعمل بناء على التراكم الاشتراكي البدائي منذ نشأته في خمسينيات القرن العشرين وإلى الآن، والتراكم الاشتراكي ليس نمط إنتاج منفصل عن نمط الإنتاج الرأسمالي أو الاشتراكي وليس أيضاً نظاماً متكاملاً ومغلقاً على ذاته؛ بل هو بالأحرى أداة تحليلية تحتمل استخدام أدوات أخرى مختلفة للامساك بحقيقة نظام الصين أو نظام آخر.

سنبدأ بالحديث عن مصطلح التراكم الرأسمالي البدائي الذي وضعه ماركس في الجزء الأول من كتاب رأس المال ليصف به بدايات الرأسمالية في الحقبة الميركانتيلية؛ ففائض القيمة لكي يتم إنتاجه يحتاج إلى رأس مال يتم استثماره عبر شراء قوة عمل العمال، ورأس المال لكي يتم إعادة إنتاجه يحتاج إلى فائض القيمة  وبالتالي يجب ان نفترض ان هناك تراكماً قد حدث قبل ظهور نمط الإنتاج الرأسمالي الصناعي بطريقة غير رأسمالية (بدون استغلال العمل الحر المأجور) عن طريق استعباد البشر والعمل العبودي وسرقة الأرض والعمل القسري أو السخرة والادخار ونمط الإنتاج الإقطاعي في الأطراف مثل أميركا اللاتينية. وأيضاً في عصرنا هذا تمارس الرأسمالية عملية التراكم البدائي من خلال الانتزاع أو عملية الخصخصة والتي تمثل ركيزة أساسية في برامج الإصلاح الاقتصادي التي تقدمها المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد، حيث تبيع دول العالم الثالث أصولَها العامة – مثل المصانع والشركات والأرض – لجهات خاصة سواء كانت محلية أو أجنبية. وفي الأغلب تشتري تلك الجهات الأصول بسعرٍ يقل كثيراً عن قيمتها الحقيقية وبذلك لا تعتبر عملية البيع تلك عملية مربحة للطرفين بل تعتبر انتزاعاً. 

ان التراكم البدائي يهدف إلى فصل المنتجين عن أدوات إنتاجهم ولكي نوضح تلك العملية يجب مناقشة أنواع علاقة المُنتِج بأدوات الإنتاج وأبعادها.

يحتوي أي نمط إنتاج على العناصر الآتية (27-26 :Poulantzas 1975) :

  1. العمل   Labour أو المنتج المباشر حاملاً قوة عمله.
  2. وسائل الإنتاج وموضوع الإنتاج.
  3. اللاعمل non-labour، الذي يستحوذ على فائض القيمة.

وتنشأ بين تلك العناصر علاقتان: 

  1. علاقة الاستحواذ الحقيقي أو التملك الفعلي appropriation /possession ، أو العلاقة المباشرة بين العامل ووسائل الإنتاج وموضوع الإنتاج أي المنتج product، فيمكنه ان يتحد معها أو ينفصل عنها.
  2. علاقة الملكية property، وهنا يجب ان نفرق بين تلك الملكية والملكية القانونية، فالأخيرة تتعلق أكثر بالبنية السياسية والأيديولوجية، ولكن الملكية هنا تتحدد بفكرة الاستحواذ على فائض القيمة أو فائض العمل بشكل عام..

وترتبط تلك العلاقات مع بعضها البعض لتشكل لدينا احتماليتين:

  1. التجانس Homology: وهنا نجد علاقة التملك الفعلي تتميز بالانفصال، أي ان العامل مفصول عن وسائل الإنتاج، أما بالنسبة للملكية الاستحواذية فاللاعمل “يفصل” أيضاً بين العامل وفائض عمله، أي يستحوذ اللاعمل على فائض القيمة، وهذا التجانس الذي يميز بالطبع علاقات الإنتاج الرأسمالية.
  2. اللاتجانس: وهنا “يتحد” العمل مع وسائل الإنتاج، ولكنه ينفصل عن فائض إنتاجه كما في احتمالية التجانس، واللاتجانس يميز الكثير من أنماط الإنتاج الماقبل رأسمالية، مثل الاقطاع الأوروبي، ونمط الإنتاج الآسيوي/الخراجى الذي انتشر في المجتمعات الافريقية والآسيوية، سواء كان قبلياً أم زراعياً.

بذلك تتضح لنا عملية الفصل بين المنتج ووسائل الإنتاج التي هي أساس التراكم البدائي وفي الأغلب تكون وسيلة الإنتاج هي الأرض؛ فبهذه الطريقة نشأت الطبقة العاملة الانجليزية بانفصال الاقنان عن الأرض عبر قوانين التطويق enclosure حيث من خلالها تم خصخصة الأراضي الزراعية وطرد الفلاحين ليتحولوا إلى عمال “احرارا” مُجبرين على بيع قوة عملهم أو إلى شحاذين وقُطاع طرق ومجرمين. 

بعد انتصار ثورة أكتوبر في روسيا وانتهاء مرحلة شيوعية الحرب War communism  واجهت السلطة والقوى الثورية مشكلةً، وهي أن المجتمع الروسي كان متأخراً للغاية وبالتالي ظهرت لدى القيادة الثورية مهمة جديدة وهي النمو وإنشاء الصناعات الثقيلة لكي يتوفر الفائض الضروري لإتمام عملية الانتقال للاشتراكية، فظهرت السياسة الاقتصادية الجديدة “النيب” NEP على يد فلاديمير لينين واختلفت الآراء في الحزب البلشفي حول النيب؛ فقد أيدها بوخارين بدون تحفظ بل ووقف على يمينها، ومن المنظرين الذين وقفوا على يسارها كان بريوبرازنسكى Preobrazhensky وهو الذي صاغ مصطلح “التراكم الاشتراكي البدائي” الذي يعني التراكم أو الفائض اللازم لبدء عملية الإنتاج الاشتراكي. وذلك الفائض سيتم الحصول عليه بطريق غير اشتراكية (أي رأسمالية) وتتمحور نظرية التراكم الاشتراكي البدائي حول (Burdekin 1989, 298):

  1. التوسع الصناعي الثقيل وجعل الدولة الاشتراكية تتسيد القطاع الصناعي ويسمى هذا القطاع بالقطاع الاشتراكي الذي سيشمل الصناعات الهامة كالطاقة والمواد الخام وإنتاج الآلات والمعدات وبهذا سيتحكم هذا القطاع في “القمم العليا” commanding heights للاقتصاد.
  2. السماح بالاقتصاد الخاص Private economy والاستفادة منه عن طريق الضرائب أو مشاركته الأرباح ولكن بالطبع سينطوي ذلك الاقتصاد على الاستغلال (الأسلوب غير الاشتراكي لتحقيق الفائض)، وسيشمل القطاع الخاص أو القطاع الرأسمالي عملية إنتاج الغذاء وبالتالي فهو قطاع زراعي بشكل أساسي وسيتكون من ملايين الفلاحيين الصغار والمتوسطين الذين يوردون محصولهم للدولة بشكل تجاري وسوقي.  
  3. تقسيم الاقتصاد إلى قطاع صناعي وقطاع زراعي(رأسمالي)، وسيخدم القطاع الثاني القطاع الأول، وسيتم ذلك عن طريق استغلال المزارعين بهدف نمو وتوسع القطاع الصناعي (الاشتراكي) وستتم عملية الاستغلال عبر آلية “مقص الأسعار” Price scissors؛ حيث سيتم تسعير المنتجات الغذائية الزراعية بسعر أقل من قيمتها والعكس بالنسبة للمنتجات الصناعية التي سوف تُباع للريف وبهذا تتم عملية التراكم الذي من المفترض انها ستصب في مصلحة الصناعة الثقيلة على المدى القصير، وعلى المدى الطويل بعد ازدهار الصناعة ستنخفض أسعار المنتجات الصناعية عموماً وسيضمحل القطاع الزراعي الرأسمالي تدريجياً في سبيل التحول للاشتراكية.

وبالتالي يمكن القول إن المجتمع الذي سيكون في مرحلة التراكم البدائي الاشتراكي يحتوي على هدفين متناقضين؛ الأول هو الإنتاجية أي التصنيع والابتكار وتوسع رأس المال الثابت. والتأكيد على ذلك الهدف يتمثل في الملكية العامة كنمط سائد للملكية. أما الهدف الثاني فهو الربحية المتمثل في اقتصاد القطاع الخاص (Robert 2018). 

ويؤكد بريوبرازنسكى أن الهدفين المتناقضين لا يمكنهما البقاء طويلاً في نفس المجتمع، في النهاية يتغلب هدف على آخر، ومن المفترض أن تنتهي عملية التراكم الاشتراكي البدائي حينما تبدأ الاشتراكية، وبذلك تزول علاقات الإنتاج الرأسمالية. ولكن لم يضِف بريوبرازنسكى أن عملية إنتاج الفائض الكبير عبر التراكم البدائي الاشتراكي يمكن أن تنتج معها طبقة برجوازية تقوم بالسيطرة على الفائض وتحويله لتمويل الرأسمالية ذات المسار الغربي، وبالتالي ينقلب التراكم الاشتراكي البدائي إلى تراكم رأسمالي. ونحن نتفق مع بريوبرازنسكى ونضيف أنه بناء على قوانين المادية التاريخية، من الصعب أن يستمر تكوين اجتماعي يحتوي على سلطة سياسية اشتراكية تحكم بنية اقتصادية رأسمالية، في نهاية المطاف يجب أن يغلب طرف على الآخر وذلك أمر مهم جداً بالنسبة لمناقشتنا عن الصين كما سنبين في نهاية الكتاب. 

إن تحول تكوين اجتماعي ما – كان يطبق التراكم الاشتراكي البدائي- إلى تكوين رأسمالي على الطريقة الغربية يؤكد على أهمية الأخذ بالبنية السياسية التي يعمل من خلالها التراكم الاشتراكي البدائي؛ فكما تحدثنا عن الرأسمالية وقلنا إنه لا يجب أن نفصل نمط الإنتاج الرأسمالي عن البنية السياسية، فنفس الأمر يسري على التراكم الاشتراكي البدائي. فليست أية سلطة أو بنية سياسية قادرة على تطبيق ذلك الشكل الاقتصادي؛ وليست كل الأشكال السياسية لنمط الإنتاج الرأسمالي ستتطور لا محالة إلى الاشتراكية -كما ادعى ماركسيو الأممية الثانية الحتميون؛ فالرأسمالية بشكلها الغربي غير محتوم لها أن تتطور إلى الاشتراكية بدون التدخل الذاتي من قبل الجماهير المنظمة بشكل ثوري. باختصار لا يمكن تطبيق التراكم الاشتراكي البدائي بدون إحداث ثورة حقيقية تكسر أو تدمر الشكل الغربي للرأسمالية عن طريق تدمير الدولة البرجوازية. وفي مجتمعات الأطراف يضاف إلى ذلك إنهاء علاقة التبعية مع الغرب ودحر الإمبريالية اقتصادياً وسياسياً والانفصال عن النظام العالمي الرأسمالي (ليس بمعنى عدم التعامل معه ولكن بمعنى عدم الخضوع له). ويتبع ذلك إنشاء دولة ثورية تمثل بشكل أساسي العمال والفلاحين (ديكتاتورية البروليتاريا)، وتمثل أيضاً الطبقة الوسطى والبرجوازية الوطنية ولكن بشكل ثانوي، أو بمعنى أدق بشكل يخدم مصالح البروليتاريا على الأمد الطويل. ويجب أن يكون النظام متوازن القوى، حيث لا ينفرد قطاع بعينه بقدر كبير من القوة لأن ذلك يمكن أن يؤدي إلى خطورة التراجع عن النظام الثوري وخلق بؤر قوى سياسية يمكن أن تتحول إلى بؤر اقتصادية (رأسمالية أوليجاركية)، هذا هو الشكل السياسي الوحيد الذي يضمن تطور التراكم الاشتراكي البدائي، حتى أكثر الحركات القومية راديكالية كالكومنتانج أو الناصرية أو الحركات القومية في أميركا اللاتينية.. الخ. لا يمكنها تطبيق التراكم الاشتراكي. 

إن تصور بريوبرازنسكى عن التراكم الاشتراكي البدائي لم يتحقق بالضبط حسبما وصفه، ولكن اقتربت تطبيقات واقعية كثيرة سواء في الاتحاد السوفييتى او خارجه من مفهوم بريوبرازنسكى لهذا ذكرنا انه اداة تحليل أكثر من نظام متكامل. ان سياسات النيب هدفت للتراكم ولكنها وسعت من رقعة القطاع الخاص الرأسمالي ليشمل بعض الصناعات الخفيفة والتجارة والنقل. وهكذا أيضاً السياسات الستالينية في 1930 ولكنها قضت على القطاع الزراعي الخاص بشكل عنيف في حركة الزراعة الجماعية وجعلت الدولة تبتلع كل شيء، والصين في حقبة التنمية الاشتراكية تبنت التراكم الاشتراكي ولكن ليس بشكل أو بطريقة واحدة كما سنبين، وبعد 1978 سَعت أيضاً للتراكم الاشتراكي ولكن بشكل أقرب إلى سياسات النيب مع استخدام مكثف للاستثمار الأجنبي كما أسماه جيوفاني أريجي ” تراكمٌ بدون انتزاع”، وفي كوبا وفيتنام يخدم القطاع السياحي الريعي عملية التراكم تحت قيادة الحزب الشيوعي لتطوير التكنولوجيا الطبية في كوبا والالكترونيات في فيتنام.

المصادر: 

* الأغلبية العُظمى من الحجج في هذا المقال مأخوذة من كتاب “مسيرة الصين الطويلة: أفكار وأطروحات حول الصين ومستقبلها”، دار كُتُبنا للنشر والتوزيع، 2022، القاهرة، لنفس مؤلف المقال ويحتوي الكتاب على تفاصيل تاريخية أكثر ومناقشة مفصلة للحجج.

أمين، سمير 2013، الصعود الناجح للصين، Samir Amin Blogspot.

http://samiramin1931.blogspot.com/2013/08/the-rise-of-china-in-arabic.html 

Amin, Samir, 2005, China, Market Socialism, and U.S. Hegemony. Review (Fernand Braudel Center), 28(3), 259-279.

Amin, Samir, 2011, Ending the Crisis of Capitalism or Ending Capitalism?, Translated by Victoria Bawtree, Pambazuka press.

Amin, Samir, 2013, China 2013, Monthly Review.

Appel, Tiago Nasser, 2014, Just How Capitalist is China?, Brazilian Journal of Political Economy, Vol. 34, no. 4 (137), pp.656-669.

Bettelheim, Charles, 1974, Cultural Revolution and Industrial Organization in China: Changes in the Management and Division of Labor, translated by Alfred Ehrenfeld, NY and London: Monthly Review Press, prepared for the Internet by David J. Romagnolo in 2000.

Burdekin, Richard, C.K., 1989, Preobrazhensky’s Theory of Primitive Socialist Accumulation, Journal of Contemporary Asia. 19:3, 297-307.

Cheng, S-K, 2020, Primitive Socialist Accumulation in China: An Alternative View on the Anomalies of Chinese “Capitalism”, Review of Radical Political Economics. 2020; 52(4): 693-715.

China and the left conference 2021, hosted by Qiao collective, held in People’s Forum in NYC, “Political Economies of Chinese Socialism” Panel. 

China and the left conference 2021, panel 1, hosted by Qiao collective, held in People’s Forum in NYC. 

https://youtu.be/m4UVvXCYfc

Dirlik, Arif, 1989, Postsocialism? Reflections on “Socialism with Chinese Characteristics”, Bulletin of Concerned Asian Scholars, 21:1, 33-44.

Jessop, Bob, 1985, Nicos Poulantzas: Marxist Theory and Political Strategy, Macmillan.

Jung, Hsiung-shen and Chen, Jui-Lung, 2019, Causes, Consequences and Impacts of the Great Leap Forward in China. Asian Culture and History, 11.58.

Lo D, Zhang Y., 2011, Making Sense of China’s Economic Transformation. Review of Radical Political Economics, 43 ;(1): 33-55. 

Minqi Li, 2021, China: Imperialism or Semi-periphery?, Monthly Review, vol. 73, Iss. 3. 

Muhlhahn, Klaus, 2019, Making China Modern: From the great Qing to Xi Jinping, Massachusettes: The Belknap Press of Harvard University Press.

Poulantzas, Nicos , 1975, political power and social classes , Verso books.

Roberts, Michael, 2015, China: Three models of development.

https://thenextrecession.files.wordpress.com/2015/09/china-paper-july-2015.pdf

Roberts, Michael, 2018, China workshop: Challenging the misconceptions, https://thenextrecession.wordpress.com/2018/06/07/china-workshop-challenging-the-misconceptions/

Smith, John, 2019, Exploitation and Super-Exploitaion in the Theory of Imperialism V1.

https://www.researchgate.net/publication/337294058_Exploitation_and_super-exploitation_in_the_theory_of_imperialism_v1

Xi Jinping, 2014, the Governance of China, Foreign Language Press: Beijing.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

الطوفان وأزمة عزمي بشارة

إن صلب أزمة بشارة مع الطوفان أن صوت الأكاديميا والتنظير الحبيس في الصالونات الثقافية ودفات الكتب يدخل في امتحان حقيقي ما إن تقع المعركة، وفي هذا الامتحان برزت هشاشة منظور بشارة ولتذهب كل الجهود والموارد التي عمل عبرها في تقديم أطروحته.

في مفهوم أسبقية الواقع على الفكر والبراكسيس والتغيير

علاقة الفكر بالواقع، وعلاقة الأسبقية بينهما، والبراكسيس قضايا تُشكل أحد المباحث الرئيسة في النظرية الماركسية – اللينينية التي أدخلت من خلالها جديدها في الفلسفة النفيي لمفهومها المثالي والمادي الميكانيكي في آن معاً. فالفكر (الوعي) غير منفصل عن الواقع وتناقضاته وهي علاقة توجب تمييز مفهومها، ولتحديد تلك العلاقة هناك ضرورة، منهجية، لتحديد كيفية ارتباط الفكر بالواقع وبالبراكسيس ودورهم في التغيير.

السودان.. التعليم وبناء الإنسان

نظام تعليمي لا يملك المواطن القدرة العقلية والإرادة المعنوية التي تساعده على اكتساب المهارات لقراءة وفهم واقعه للوصول إلى حقيقة وجوهر ما يدور حوله من ظواهر وأحداث. ولا يهتم برغبات التلميذ ولا يلبي حاجاته ولا يطور القدرات التي تمكن التلميذ من الخلق والابتكار والإبداع أو تملكه مهارات التحليل والتركيب والقبول والرفض والرؤى النقدية.

[zeno_font_resizer]