في أيَّار- مايو المتكرر نعود إلى من أجادوا السير في الزمن المتقدِّم، زمن أن الإنسان حرٌ جميلٌ، وتسابقوا في دربه فأنتجوا في نضالهم الجديد في الفكر على درب التحرر الوطني لكسر التبعية بالنظام الرأسمالي العالمي الامبريالي ومقاومة الاحتلال، نعود إلى مهدي عامل (حسن حمدان) أحد أصغر شهداء الفكر الماركسي – اللينيني في عالمنا العربي وأبرز أعلامه، من قرأ الواقع، في عين الفكر العلمي، النظرية الماركسية – اللينينية. مهدي عامل المشاكس في إنتاجه الفلسفي حفزَ الفكر على الإنتاج وصدم مفاهيم النظرية الماركسية بالواقع المعيش لتحليله وتحديد تناقضاته وشكل الصراع الطبقي فيه، ففي نتاجه ميزَ مهدي عامل الشكل الكولونيالي لنمط الإنتاج الرأسمالي، وعمل على كشف القانون العام لتطور هذا الشكل من نمط الإنتاج الرأسمالي، تطوره المشوه لارتباطه، تبعيته، بنيوياً بالإمبريالية. كما بحثَ مهدي في “علاقة الفكر بالفكر” وعلاقة “الفكر بالواقع” وفي “علاقة الاختلاف بين البرجوازية الامبريالية والبرجوازية الكولونيالية”. وبتحديده لنمط الإنتاج في مجتمعاتنا العربية انتقدَ مهدي عامل تسمية دول “العالم الثالث” أو الدول “المتخلفة”، لأنها تسميات لا تتسم بالعلميَّة، وتخفي، بحكم موقعها الطبقي البرجوازي التبعي، الأساس المادي، علاقات الإنتاج، لتأبيد علاقة التبعية البنيوية بالنظام الرأسمالي العالمي الامبريالي.
في تمييزه لنمط الإنتاج الكولونيالي أظهرَ مهدي عامل آلية حركة التحرر الوطني العربية من ضمن إنتاج معرفة بواقع متميز يتطلب إنتاج أدوات معرفته مفهومياً “أن نفكر الأدوات المفهومية التي بها نفكر حتى نتمكن من أن نفكر واقع هذه الحركة التاريخية”، والدور التاريخي للطبقة العاملة في حركة التحرر الوطني العربية.
مهدي عامل في دراسته للواقع المعيش وتحديد تناقضاته والشكل الذي تظهر فيه، انطلق من القانون المادي للنظرية الماركسية الذي أضاءَ عليه لينين تمييز كونية القوانين العلميَّة، أي عدم تطبيق متكوِّن على واقع متميز. مشروع مهدي عامل الفلسفي وضع أسسه في كتابه الرئيس “مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني” وقسمه إلى قسمَيْن، القسم الأول: “في التناقض“، والقسم الثاني: “في نمط الانتاج الكولونيالي“. الذي يُعد الأساس الذي ترتكز عليه كتبه. مهدي في انطلاقه من تمييز كونية القوانين الماركسية العامة انتقدَ الجمود العقائدي النقيض للنظرية الماركسية – اللينينية، وفي الوقت نفسه انتقدَ من يدعون أن النظرية الماركسية غريبة عن واقعنا وغير صالحة لدراسته بهدف تأبيد الواقع القائم وأيديولوجيته، وفي نتاجه أظهرَ مفهوم الارتباط المادي الديالكتيكي بين النظرية والممارسة الثورية، أي موقع البراكسيس، على أساس الشعار اللينيني “لا نظرية ثورية من دون ممارسة سياسية ثورية“، لتصبح النظرية أداة من أدوات التغيير الثوري الجذري.
مهدي المشاكس سارَ ضد الأيديولوجية المسيطرة، وفي سيره كتبَ “إنها لمخاطرة كبرى أن يفكر الواحد منا واقعه باللغة العربية”. فَكَرَ مهدي الواقع باللغة العربية في ضوء النظرية الماركسية – اللينينية فأنتج الجديد. في الذكرى الـ 37 لاستشهاد مهدي عامل نتوقف عند أبرز المعالم في سيرته النضالية من أجل “وطن حر وشعب سعيد“.
الولادة ورحلة التحصيل العلمي
ولدَ حسن حمدان، المعروف باسم مهدي عامل، في بيروت منطقة البسطة، في شهر كانون الأوَّل العام 1936، وهو ابن بلدة حاروف الجنوبية، قضاء النبطية.
حصلَ على شهادة البكالوريا – الفرع الأدبي العام 1955 من مدرسة المقاصد في بيروت. وكان “شديد التّوق إلى الاضطلاع بدراسات عليا في فرنسا وهو ما لم يوافقه عليه والده الراغب في أن يشاركه في العمل في المحلّ. وبعد انقضاء عام أمضاه مدّرساً في إحدى مدارس الجبل، ضرب حسن، المدعوم من شقيقتيه سامية وخدّوج، صَفْحاً بإرادة الحاج عبد الله وأبحر إلى فرنسا (في أيلول العام 1956)، ليبدأ فيها اختصاصاً في الآداب” (1) تقول الراحلة ايفلين حمدان، زوجة مهدي عامل، في كتابها “رجلٌ في خفين من نار” إن شقيقة مهدي، خدّوج هي التي تكفلت بمصاريف دراسته من العام 1956 حتى العام 1961، فقد حصلَ حسن حمدان على منحة أعانته في سد أعباء الإقامة والدراسة، وذلك في المدينة الجامعية في ليون.
حصلَ مهدي عامل على شهادتَي الليسانس والدكتوراه من جامعة ليون. وكان عنوان أطروحته للدكتوراه “التطبيق العملي والمشروع، مبحث في تشكيل التاريخ“، تحت إشراف “هنري مالدييه وروجيه أمالديز وفرانسوا داغونيه. ناقش حسن الأطروحة في حزيران العام 1967 في ليون” (2) نشرت ترجمة لمقدمة الأطروحة في مجلة “الطريق” اللبنانية، في العددين 28- 29، شتاء 2018/ ربيع 2019، بعنوان: “البراكسيس والمشروع، مبحث في تكوينية المشروع“، ترجمة عبد الله ميشال غطاس. وعندما كان في الجزائر نشر مقالة بعنوان “الفكر الثوري لفرانتز فانون” في مجلة “الثورة الأفريقية” في العددين 71 و72، 6 و7 حزيران- يونيو 1964 وهو نص كتبه باللغة الفرنسية ووقعه باسمه حسن حمدان، ترجمته مجلة “الطريق” إلى اللغة العربية تحت عنوان: “فرانتز فانون: التحرر الوطني والثورة الاجتماعية“، العدد 23، السنة 76، خريف 2017.
زواج ثوري
في 13 أيَّار- مايو العام 1961 تزوج مهدي عامل، عندما كان في فرنسا، من ايفلين بران ابنة العائلة البرجوازية المتدينة، تقول ايفلين عن زواجهما إنه كان زواجاً ثورياً نوعاً ما، فالقواطع بين عائلتيهما كانت صالحة للمباعدة بينهما، ولكن هذه القواطع، تقول ايفيلن لم تحلْ بينهما “متّحِدان نحن الاثنان في الإرادة عينها بالتعاهد لأجل هذه المغامرة المحفوفة للغاية بالمخاطر” (3) تشير ايفلين حمدان إلى قضية مهمة تتعلق بالنظرة العنصرية تجاه المهاجرين التي كانت في فرنسا، وتعتبر من قواطع الزواج بين عربي وأجنبية “ففي ذاك الزمن، الذي كانت فيه حرب الجزائر تمضي إلى خواتيمها، كانت الغَضْبَة العنصرية تعصف بفرنسا مستهدفة الإنسان العربي: مطاردة أصحاب السِّحْنة ”الجَدْيِيَّة“، حملات تأديبية شرسة، وغارات بوليسية وحشية (…). اجْتَرأنا على القيام بهذا الفعل غير المسبوق: زواج العربي بالأوروبية، (…)، وابن العائلة القروية بابنة العائلة البورجوازية”. (4)
السفر إلى الجزائر
عن السفر إلى الجزائر تقول ايفلين إنها تلقت برقية من وزارة التربية الوطنية في الجمهورية الفرنسية، وذلك في شهر تشرين الأوَّل – أكتوبر العام 1963، هي قرار تعيينها مدّرسة في ثانوية أومال قسنطينة – الجزائر، تكتب ايفلين عن قسنطينة من خلال رواية كاتب ياسين “نجمة” تقول: “نعرفها، أنت وأنا المسكونان بالرؤى الهَلْسِيّة التي كان لِنَثْر كاتب [ياسين] التعويذي أن غَذّانا بها: قسنطينة ”الصخر العتيق“ الذي يقصده رشيد القُسَنطينّي الهارب من الجندية بحثاً عن المعشوقة الشاردة، قسنطينة: الكهف الزِّقاقيّ حيث حُبِلَ بنجمة ”الوردة السوداء المتفلّتة من كل الوِصايات“، وحيث أُردي الأب قتيلاً؛ قُسَنْطينة: شرفة الفندق المائلة فوق الهاوية والغارقة في نفثات من الدخان حَلَزونية كثيفة منبعثة من ”الحشيشة“ المحظورة التي تحمل الحالمين المُسْتَهامين على الهذيان (…)، قسنطينة الجَموح، التي لم تسقط في أيدي الفرنسيين إلا بعد مقاومة ضروس” (5) وفي شهر تشرين الثاني- نوفمبر العام 1963 سافرَ حسن حمدان إلى الجزائر بعد أن عُينَ مدرساً في دار المعلمين – قسنطينة، التي درَّسَ فيها مادة الفلسفة، تقول ايفلين عن تلك الفترة “كنا نتشارك في المواظبة عينها، سهرات طويلة من العمل المجتهد. إذ كنا ننهض بأعباء حياتنا الجديدة كمدَّرسَيْن، بكل ما أوتِيَت إرادتنا من قوة وضعناها في خدمة هذا البلد المدَّمر”.(6)
العودة إلى لبنان والانتساب إلى الحزب الشيوعي اللبناني
عادَ حسن حمدان مع عائلته من الجزائر إلى لبنان، ودَّرسَ في ثانوية صيدا الرسميَّة للبنات ومن ثم انتقل للتدريس في الجامعة اللبنانية – معهد العلوم الاجتماعية – الفرع الأوَّل، كأستاذ متفرغ في مواد الفلسفة والمنهجيات والسياسة.
كان عضواً بارزاً في اتحاد الكتَّاب اللبنانيين، والمجلس الثقافي للبنان الجنوبي، ورابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية.
عن تاريخ انتساب مهدي عامل للحزب الشيوعي اللبناني تقول ايفلين حمدان إنه “بناء على ما أفادني به عدة مسؤولين في الحزب الشيوعي اللبناني أمكن لي طلب مشورتهم، فإن حسناً دخل الحزب في شتاء العام 1968 – 1969، بعد انتظار دام أشهراً عديدة، كونه تقدم بطلب انتسابه إليه أوائل العام 1968”. (7) والمعروف أنه في العام 1968 عقد الحزب الشيوعي اللبناني مؤتمره الوطني الثاني، وهو مؤتمر مفصلي، في السياسة والفكر والتنظيم، في التاريخ النضالي للحزب.
مهدي عامل لم يقتصر نضاله في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني، على الكتابة بل مارس ما كتبه بتنقله بين القرى والمدن يشرح ويناقش ويحاضر خلالها، بلغة بسيطة واضحة، قضايا مختلفة من مثل المسألة الوطنية وحركة التحرر والمسألة الطائفية إلخ.. وكان يعرف بنقاشاته بين الناس باسم “طارق“.
مهدي عامل شهيداً
كَتَبَ مهدي عامل في مخطوطة كتابه “نقد الفكر اليومي” “سِرْ في الزمن الثوري وحدِّق فيه بعين الفكر العلمي، ترَ الواضح في الآتي، يستقدمه الحاضر بمنطق تناقضاته”. إنه الزمن الذي سارَ فيه مهدي عامل وهو يخط كلمات ومفاهيم الضرورة الضاحكة أبداً اليافعة دوماً… ضرورة الفكر العلمي نظرية الثورة… “ضدّيّاً يتكوّن هذا الفكر المناضل، ويتكامل أيضاً ضدياً. في وجه الكهل من الفكر يؤكد صحته، ويؤكد، ضد ظلاميتّه العصرية عافية العقل”. وفي وداع الشهيد حسين مروّه قال مهدي عامل:
“(…) حاورت الجميع، ناقداً متسامحاً، مستكشفاً أفق المعارف، صارماً في الحق حتى ضد نفسك، صادقاً، والحق عندك في التغيير في خدمة الإنسان. حاورت الرفاق والأصدقاء، وحتى خصوماً هم في حوارك أصدقاؤك. فلماذا قتلوك؟ لأنك الرمز، تنخسف الظلامية كلما خطّت يداك النهج في بحث التراث. ترى فيه الصراع المستديم بين قوى القهر وقوى الحرية، بين العقل والجهل. ألهذا قتلوك؟ لأنك قلت إن الفلسفة العربية الاسلامية ليست واحدة، بل متناقضة، يتجاذبها تياران: تيار النور وتيار الظلمات، تيار الثائرين وتيار المستبدّين (…)، لأنك أثبتَّ أنهم كذبوا. قتلوك، وأثبتَّ أن قاعدة الفكر في وثباته الخلاقة علميةٌ وثورية.
من الجنوب انطلقت، فأطلقت الجنوب وفكر الجنوب، وقلت يا أيها المثقفون اتحدوا ضد الطغيان. ولتكن كلماتكم سلاحكم. انتم أقلام الطبقة العاملة” (مجلة الطريق، بيروت، العدد الثالث، تموز/ يوليو 1987، ص. 103). وبعد ثلاثة أشهر القوى الظلامية نفسها التي اغتالت الشهيد حسين مروّه اغتالت مهدي عامل برصاصات كواتم الصوت الظلامية. ففي 18 أيّار- مايو العام 1987 اغتيل مهدي عامل، من قال “لست مهزوماً ما دمت تقاوم“، وهو في طريقه من منزله الكائن في شارع الجزائر – في بيروت، إلى الجامعة اللبنانية – معهد العلوم الاجتماعية حيث كان يُدَّرس. عن اغتيال الشهيد مهدي عامل كتبت ايفلين حمدان: “شارع الجزائر: إنك الآن في جوار قصر كِتانة. إنها العاشرة وخمس دقائق. هنا، في هذه الساعة، ستُقْتَرفُ مأساة الجريمة”. (8)
استشهدَ مهدي عامل قبل أن ينجز القسم الثالث من مؤلفه الرئيس “مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني“، وهو بعنوان “في تمرحل التاريخ” وبقي مخطوطة غير مكتملة، صدرت في العام 2001. عادَ مهدي عامل وأكد فيها ضرورة تحديد نمط الإنتاج، وتمييز كونية القوانين الماركسية – اللينينية، فقد كتبَ: “ان تحديد المراحل التاريخية التي تمر بها بنية اجتماعية معينة يستلزم، في البدء، تحديد نمط الإنتاج الذي ترتسم فيه المراحل هذه وتتحدّد بنية زمانه المتميز(…) لأن علم التاريخ، في نهاية التحليل، هو استخراج القوانين العامة التي تتحكم بهذه الحركة المادية التي هي حركة الزمان في حركة البنية الاجتماعية”. وبالتالي حركة التاريخ ليست حركة تتابع أو تواصل “إلّا بالشكل الذي تختلف فيه بنيتها الزمانية، وتختلف فيه بالتالي علاقات هذه البنيات في حركة تتابعها أو تواصلها، وبالشكل الذي تختلف فيه أيضاً أشكال الوجود المادية التاريخية الفعلية لهذه الأنماط الإنتاجية”. وبذلك انتقدَ مهدي التجريبية واختصار التحليل في نموذج واحد من أزمنة البنيَّة الاجتماعية.
وانتقدَ مهدي عامل “في تمرحل التاريخ” الفكر التجريبي، الاقتصادية والإرادية، فقد كتبَ “لنكن منذ البدء صريحين حتى المباشرة: إن الاقتصادية هي الخطر الرئيسي الذي يتهدّد الفكر الماركسي – اللينيني في نواته الأساسية، أي في تميزه بالذات من حيث هو فكر البروليتاريا، وبالتالي من حيث هو الفكر الثوري للتاريخ المعاصر”. ليصل إلى نقد النزعة البنيوية في الفكر الماركسي منطلقاً في نقده من غياب الصراع الطبقي فيها، وبالتحديد لدى باليبار، أحد تلامذة ألتوسير، كونه فكر يقيم “التماثل حيث يوجد الاختلاف، لأنه، في حقيقته النظرية، منطق تماثل. وطبيعي جداً، أن يغيب الصراع الطبقي عن هذا المنطق، فآليته لا تتكشف إلّا لمنطق الاختلاف، أي لمنطق التناقض”.
في العام 1988 أي بعد استشهاد مهدي عامل بعام، صدرَ كتاب “نقد الفكر اليومي” وهو مخطوطة لم يكملها، يُعد الكتاب من الكتب البدئية في المكتبة العربية التي تتناول، نقدياً، الفكر اليومي المنتشر في الصحف والمجلات خلال الحرب الأهلية في لبنان، وأيضاً بعض الكتب التي تدخل في إطار “الفكر اليومي”. تناولها مهدي بنقاش نقدي أَظهرَ فيه، انطلاقاً من المنهج المادي التاريخي، علاقة الثقافي (الأيديولوجي) بالسياسي، حيث لا ثنائية (انفصال) بينهما، بل هي علاقة اتصال مادية ديالكتيكية، بتحديدها يتحدّد الموقع الطبقي في البنيَّة الاجتماعية، ويتحدّد الحد المعرفي الفاصل، الطبقي، الذي على أساسه يتم التمييز بين بدائل تعيد إنتاج القائم، وأخرى نقيضة له في مشروع سياسي وطني تحرري يربط التغيير الديمقراطي الجذري ومقاومة الاحتلال والمشاريع الرأسمالية الامبريالية في سيرورة نضالية تحررية واحدة.
ولمهدي عامل ديوان شعر بعنوان: “تقاسيم على الزمان” باسم هلال بن زيتون، وآخر بعنوان: “فضاء النون” باسمه حسن حمدان، نجد فيهما حضور مهدي عامل وكأنه يكتب بقلم هلال بن زيتون وحسن حمدان عن قلقه، تعبه… كتابة حتى في التعبير عن التعب والقلق لا تغيب عنها الثورة والالتزام بها والحث على النضال من أجل التغيير الديمقراطي. ففي “تقاسيم على الزمان” تمرد هلال بن زيتون على الحاضر وبؤسه وحثّ على الثورة عليه وعلى من لا يثور لحقه: “عشرون عاماً ظلَّت العينان تبحث في الوجوه، ترافق الأحياءَ موتى سائرين بلذةٍ نحو القبور العائمة. زَّينوا الموتَ الذي هم فيه بالمدن التي تكدست أسوارُها عُلواً تراكمَ. ضمَّ ناساً أو أثاثاً أو جلوداً رضِيَت بالصمت نطقاً واستراحتْ. طالت القيلولةُ دامتْ ظلَّت الأيام تجري في سباتٍ في ثباتٍ والزمنُ واقفاً يجري”.
يكمل هلال رفض الصمت، يُبشر بالزمان الحامل للطوفان – الثورة، يحث عليها “وأيامي تدور دورتُها الحزينة ترفض الزمن الذي لم يحمل الطوفان. تنتظر الزمن الذي لا بدّ أن يأتي (…).
لا بدّ أن يهوي هذا الزمان الذي واقفاً يجري…”. وكَتَبَ هلال بن زيتون في تقاسيمه على الزمان: “بُليتُ بالعقل أشقى منه يوقظني كل حينٍ يصفع الوهم، كالسحر، يأسُرُني فأفيق”.
في “فضاء النون” كَتَبَ حسن حمدان قلق ووجع الكتابة لدى مهدي عامل قال: “يا أيّها القلق اللعين إليكَ عنّي ليس لي حيْلٌ على وجع الكتابة”، ولكنه لا يستسلم للقلق والتعب والوجع فالمأوى والحكم هو مملكة العين يقول حسن حمدان في “فضاء النون“: “أتأبط أسئلتي وأهاجرُ لا مأوى إلاّ مملكة العينِ، أنا المتعدّد في أقنعتي أتوّحد في الليل (…). ويجيء الفكر كعادته ينقر باب الليل ويدخل يجلس في كرسيٍّ يتفقّد أوراق الأمسِ- دَع الأشياء تقول الأشياء ولا تُقحِم ذاتك في مجرى العقلِ”.
وعن بيروت الوطنية المقاومة كَتَبَ حسن حمدان في “فضاء النون“:
” لا شيء سوى كالأمس
الشمعة إيّاها
دفتر أيامي
نافذةٌ
والليل نديمٌ للقلب
سعاد تطوّقني وتجودُ
(…)
نخترق حصار الموت
وبين القصف وبين العصف يجيء الصبح جميلاً في بيروت
وبيروت تلملم قتلاها
وتقاوم.
يومٌ كالأمس
الفانتوم
النابالم
بوارجهم
وسعاد تمشّط شعر الوقت (…)
بيروت/ سعاد
تعانقنا ضد قنابلهم
وتسلّقنا سفح الخوف
يداً بيدٍ
أتذكّر
فرحٌ في قلبي”.
“قبضتنا بوصلة التاريخ”:
كَتَبَ مهدي عامل مقالات كثيرة في جريدة “النداء” والعديد من الأبحاث في مجلة “الطريق“، وأثناء الاجتياح الصهيوني لبيروت في العام 1982 ومحاصرته مع عملائه لبيروت الوطنية المقاومة التي أخرجته منها المقاومة الوطنية اللبنانية مهزوماً ينادي بمكبرات الصوت مذعوراً “يا أهالي بيروت لا تطلقوا النار علينا نحن منسحبون“، كَتَبَ مهدي عامل، مجموعة مقالات في جريدة “النداء” منها مقالة بعنوان: “درب الثورة في لبنان مجرتنا” قال فيها:
“(…) يطيب لنا ان نبصق في أوجهكم، سنقاتلكم حتى بأظافرنا، قبضتنا بوصلة التاريخ، وطلقة حريتنا تخترق جدار القلب النابض منكم بالموت، الرابض في أضلعكم. ونقول: سنبني وطناً ينهض حجراً حجراً فوق قبور تتسخ بكم. أنتم مزبلة التاريخ. وبيروت مدينة أحرار قطعوا عهداً:
سنقاومكم.
هذي حكمتنا:
لا للفاشية. درب الثورة في لبنان مجرتنا. من جهة الرفض يجيء الصبح جميلاً، إذ ننتصر له، تواً، في هذي اللحظة إياها، الآن، الآن، الآن، وينتصر لنا”.
نختتم العجالة السريعة على أهم مراحل حياة الشهيد مهدي عامل بقوله المعروف: “الموت في التماثل والاختلاف حياة الزمن“، الذي يضعنا أمام قراءته من خارج ظاهر منطوقه: ثنائية تماثل / اختلاف. لأنه مهدي عامل المشاكس يفتح المجال لقراءة قوله انطلاقاً من الحركة الديالكتيكية، حيث لا وجود للتماثل من دون وجود الاختلاف. وبالتالي فإن مقدمة قراءة القول العاملي هي كيفية ظهور التماثل في الاختلاف، والعكس، كيف تظهر الوحدة الديالكتيكية في التعدُّد، ما هي أشكال ظهور التناقض الرئيسي ومن هي القوى الحاملة له، ما هو موقعها في البنيَّة الاجتماعية، أي الحد المعرفي الفاصل، الموقع الطبقي، وما هي العلاقة، المادية الديالكتيكية، بين التناقض الرئيسي والتناقض الأساسي، وما هي، في الحركة الديالكتيكية الواحدة، العلاقة بينهما وبين التناقضات الثانوية. وما هو أس التمييز بين تناقضَيْن التناقض الرئيسي والتناقض التساومي. هي مقدمات لقراءة “الموت في التماثل والاختلاف حياة الزمن“، أسسها موجودة في نصوص مهدي عامل.
(1) – حمدان ايفلين، رجل في خفين من نار، ترجمة رلى ذبيان، ط 1، دار الفارابي، بيروت، 2018، ص. 33.
(2) – المرجع نفسه، ص. ص. 274- 275.
(3) – المرجع نفسه، ص. 83.
(4) – المرجع نفسه، ص. 84. “الجَدْيِيَّة” “نسبة إلى الجَدْي. كان في وجوه المغاربة طول سَوَّل للفرنسيين العنصريين خلع هذا اللقب عليهم تعصّباً” (الشرح لمترجمة الكتاب، في هامش الصفحة نفسها).
(5) – المرجع نفسه، ص. 175.
(6) – المرجع نفسه، ص. 218.
(7) – المرجع نفسه، ص. 467.
(8) – المرجع نفسه، ص. 974.