في استعراض سريع للسياسات الأميركية منذ خمسينيات القرن الماضي، يمكن اكتشاف المنطق الأميركي في التعامل مع دول العالم وشعوبه.. إنه منطق القوة والغطرسة وفرض الإرادة، وتجيير جميع المتغيرات الإقليمية والعالمية لمصلحة طغمة المصارف وشركات السلاح ومهووسي إشعال الحروب، ووفق هذا المنطق المُغرق في عنصريته، لا يجوز أن تقول (لا)، لأيّ ضغوط سياسية أو عسكرية أميركية تجاه سياسات مستقلة لدولة ما.. أو هبّة لشعب من شعوب العالم في وجه هيمنة المصالح الأميركية.. إنه ذنب عظيم لا يُغتفر، عند الإدارات الأميركية المتتابعة!
هذا المنطق الأميركي اختبرته الشعوب العربية منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، عندما طُرحت مشاريع (ملء الفراغ.. حلف بغداد) في سورية، والعدوان الثلاثي على مصر، ومحاولة احتلال لبنان، كما اختبرته الشعوب العربية بعد أن تحوّل الكيان الصهيوني من الرعاية البريطانية إلى الحماية الأميركية، تمهيداً لترتيب المنطقة العربية التي تحتوي النفط والموارد الأخرى، وفقاً للمصالح الأميركية والصهيونية.
لن نطيل في تفاصيل المخططات الأميركية، لكن الواضح أن جميع التغيرات التي طرأت على الصعيد الدولي منذ أواسط القرن المنصرم، لم تؤدّ إلَّا إلى ازدياد شراسة السياسات الأميركية، ودفاعها المستميت عن قيادتها للسياسة والاقتصاد العالميين.
منذ ما قبل النكبة عام 1948، روى دم الفلسطينيين وأشقائهم العرب ترابَ فلسطين.. ولم يستسلم الشعب الفلسطيني يوماً لأوهام القوة والضعف، ولا لواقع الكيان الصهيوني المدجّج بالسلاح والدعم الأميركي.. ولا لخيام اللجوء في الشتات، والانتظار على أبواب المؤسسات الخيرية، بل تحوّل الذين اغتُصبت ديارُهم وحقوقهم إلى خنجر في خصر الكيان المحتل، وهاجس يقضّ مضاجعه ليل نهار.
لن نسترسل طويلاً في التذكير بعمليات المقاومة الفلسطينية الباسلة خلال العقود الماضية، لكننا نؤكد هنا أن عملية (طوفان الأقصى) وقد مر عام على الزلزال الذي أحدثته في العمق الهيكلي للكيان الصهيوني، ليست بداية الردع الفلسطيني لأوهام الاستسلام، ولن تكون النهاية، مهما أسفرت عنه مجازر الصهاينة التي يرتكبونها في اجتياح غزة، ومهما آلت إليه تسوياتٌ تسعى إليها الإدارة الأميركية وأصدقاؤها في المنطقة تحت شعارات إنسانية.
المسألة هنا تتجاوز الاحتلال الصهيوني، والحقّ الفلسطيني المشروع، فقد وضع المخطّطُ الأميركي- الصهيوني الشعوبَ العربية أمام استحقاقٍ مصيريّ، هو مقاومة الاستباحة الصهيونية للمنطقة العربية بأسرها، بادئةً بمحاولة إفناء مفهوم المقاومة لدى الشعب الفلسطيني، والقضاء على جدلية الأرض والشعب، حتى إذا تطلّب الأمر ترحيل الفلسطينيين إلى الصحارى، والتفرّغ بعد ذلك، بدعم من قلعة الاستعمار الحديث ومُشعل الحروب وناهب الثروات الأميركي، للهيمنة النهائية على منطقة كانت السيطرةُ عليها تشكّل، منذ خمسينيات القرن الماضي، همّاً دائماً لدى الإدارات الأميركية المتعاقبة.
الإدارة الأميركية تستميت اليوم لإبقاء سيادتها على السياسة والاقتصاد العالميين، في ظل ترنّح هذه السيادة، بعد نزوع دول العالم إلى فضاء عالمي آمن ومستقر وخالٍ من الحروب والتدخل العسكري والعقوبات والحصار وفرض الإرادة، فضاء عالميّ متعدّد الأقطاب يراعي مصالح شعوب العالم المستقلّة وحقوقها.
لقد بات واضحاً لدى الأميركيين أن تطويع روسيا أصبح مستحيلاً، وأوروبا (الناتو) بدأت بالبحث عن شروط للأمن الأوروبي بعيداً عن الإملاءات الأميركية، فاستمرار التصعيد يؤدّي إلى مشهد واحد: حرب مجنونة ليس للأوروبيين فيها ناقة ولا جمل!
الأميركيون اليوم سيسعّرون نيران الأزمات في جميع بقاع الأرض، فهم في أميركا الجنوبية واللاتينية لمنع التحول الديمقراطي بعيداً عن التبعية الأميركية، وهم في إفريقيا لمنع تسوية سياسية في السودان وإثيوبيا ودول جنوب الصحراء، وهم في آسيا وبحر الصين لتوتير الأوضاع مع الصين الشعبية.
المنطقة العربية، بثرواتها وموقعها، تشكّل سنداً رئيسياً لاستدامة وحدانية القطب الأميركي وتفرّده في إدارة العالم وفق مصالحه، وهذا ما تسعى إليه الإدارة الأميركية اليوم، بالمشاركة مع حلفائها، ومحاولةُ تحييد المقاومة الفلسطينية كانت الخطوة الأولى، لكن هذه الخطوة اصطدمت وما زالت تصطدم ببسالة المقاومين الفلسطينيين، الذين تشبّثوا بأرضهم وسلاحهم وحقوقهم، وواجهوا وما زالوا يواجهون قوّةً كانت، في عُرف الكثيرين، لا تُقهَر.
المسعى الأميركي اليوم يذهب باتجاه منع أي محاولة لردع الكيان الصهيوني، ولتحقيق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير، وباتجاه إبقاء الأوضاع، التي فرضتها الإدارات الأميركية المتعاقبة، في العراق الذي حوّلته إلى فرق وطوائف، وتأبيد الأزمة السورية، ومنع أي تسوية سياسية تنهي معاناة المواطنين السوريين، والتسويف في حل الأزمة اللبنانية عن طريق دعم الطائفية السياسية وأمراء الحرب، وفي النهاية تفويض الدركي الصهيوني باستباحة المنطقة بأسرها، والانتقال بعدها إلى بؤرة أخرى؟ أي بكلمة أخرى كبح كلّ تطلع لدى شعوب العالم إلى فضاء عالمي لا تتحكم فيه مصانع السلاح والمصارف الأميركية.
لذلك نشهد اليوم في الأرض المحتلة بداية المشهد بإدارة أميركية وتنفيذ صهيوني، أما المشاهد الأخرى في جعبة المخرجين لهذا المخطط، فستظهر شيئاً فشيئاً مع تغلغل الكيان الصهيوني سياسياً واقتصادياً في عمق بعض الأنظمة العربية، ورفرفة علم الكيان على السواري في عددٍ غير قليل من الشوارع والعواصم والمدن العربية بمساعدة (المطبّعين).
واهم من يعتقد أن (طوفان الأقصى) جاءت دون مقدمات وتراكمات ساهم فيها الشعب الفلسطيني بجميع أطيافه السياسية والاجتماعية، إنها حلقة في سلسلة من النضالات العسكرية والسياسية التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية منذ ستينيات القرن المنصرم، وعلى مساحة الوطن الفلسطيني بأسره، ودفع فيها الشعب الفلسطيني الثمن الأغلى من دماء عشرات ألوف الشهداء خلال أكثر من نصف قرن. لذلك فإن القضية التي برزت أمام العالم اليوم، بعد أن حجبتها الولايات المتحدة وحلفاؤها سنوات وسنوات، هي حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة في تقرير مصيره على أرضه، وتأسيس دولته الوطنية، وليس اتفاقاً لوقف إطلاق النار في غزة أو غيرها من المدن الفلسطينية.
واهم من يعتقد أن (طوفان الأقصى) جاءت دون مقدمات وتراكمات ساهم فيها الشعب الفلسطيني بجميع أطيافه السياسية والاجتماعية، إنها حلقة في سلسلة من النضالات العسكرية والسياسية التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية منذ ستينيات القرن المنصرم، وعلى مساحة الوطن الفلسطيني بأسره، ودفع فيها الشعب الفلسطيني الثمن الأغلى من دماء عشرات ألوف الشهداء خلال أكثر من نصف قرن.
نقول قولنا هذا بعد أن بدأت (البازارات والمساومات) برعاية الإدارة الأميركية ووساطة حلفائها في المنطقة، فعملية (طوفان الأقصى) زلزلت الكيان الصهيوني، ومارست تأثيرها على مجمل الوضع السياسي والاقتصادي والعسكري داخل الكيان المحتل، وستترك آثارها على مستقبل الأوضاع في المنطقة العربية وربما الإقليمية والعالمية، وهذا ما استدعى فتح (سوق) المساومات ومشاريع الاتفاقات بمبادرة من الإدارة الأميركية، خاصة بعد أن نزلت الملايين إلى شوارع المدن العربية والأوروبية والإفريقية والأميركية مستنكرة همجية الكيان الصهيوني وعدوانية الولايات المتحدة التي أعطت الضوء الأخضر لارتكاب المجازر الدموية بهدف إبادة المقاومة الفلسطينية.. والشعب الفلسطيني.
الولايات المتحدة والكيان العنصري وحلفاؤهما يسعون اليوم إلى حفظ ماء الوجه، وتقديم مشاريع لاتفاقات تخص الوضع في غزة فقط بعد (طوفان الأقصى)، لكن المسألة هنا ليست غزة، ولا الضفة الغربية، بل حقوق الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه وإقامة دولته، ودحر الطغمة الفاشية الصهيونية.. المسألة هي فلسطين كلها.. المسألة هي إفشال المخطط الأميركي – الصهيوني لاستباحة المنطقة العربية وتحويلها إلى مستعمرة تنفذ الإملاءات.
العربدة الصهيونية الأخيرة في لبنان وإيران، لا تخرج عن السياق المرسوم أميركياً لإشعال حرب إقليمية، تتحكم وشريكها الصهيوني في كيفية إطفائها، وفقاً للمصالح المشتركة بينهما، لتحقيق الهدف الأبرز وهو تحييد أي مقاومة للكيان الصهيوني في المنطقة، واختصار المسألة الفلسطينية ببضعة أمتار هنا، ومجلس تمثيلي هناك، ثم إطلاق يد الكيان الصهيوني في استباحة المنطقة العربية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وفق الأجندة الأميركية.
صحيح أن (طوفان الأقصى) التي أوجعت الكيان الصهيوني، وأزالت الأوهام من نفوس الكثيرين باستحالة هزيمة الاحتلال، كانت عملية محدودة، لكن الولايات المتحدة لم ترَها كذلك، بل اعتبرتها بداية التحدي للهيمنة الأميركية الصهيونية في ظرف.. ومكان لا يجوز فيهما أن تقول لا للمخطط الأميركي – الصهيوني، وهذا ما يفسر الشراسة الأميركية في دعم الكيان الصهيوني في مجازره التي يرتكبها في غزة الصامدة.
عملية (طوفان الأقصى) ليست بداية المقاومة، ولن تكون النهاية، لكنها جرس إنذار استباقي للجميع بأن المقاومة اليوم ليست في فلسطين وحدها.. وليست مواجهة الكيان الصهيوني وحده، بل مواجهة مخطّط أميركي- صهيوني، يسعى إلى تركيع المنطقة بأسرها.
الكيان الصهيوني ماضٍ لتحقيق هذا الهدف بدعم أميركي، وهذا ما على العرب تفهّمه جيداً إذا ما أرادوا الحفاظ على وجودهم، فهو صراع وجود.. والطريق إلى مواجهته يتلخص بكلمة واحدة: المقاومة ثم المقاومة.
الإدارة الأميركية، وعلى النقيض من بعض التقارير العالمية، تهدف اليوم لا إلى الانسحاب من منطقتنا، بل إلى السيطرة الشاملة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً على القرار العربي، ويساعدها في ذلك جوقة الحلفاء والمطبّعين، خاصة بعد أن ارتعدت أوصالهم إثر صحوة المقاومة الفلسطينية ومآثرها في غزة وبقية الأرض الفلسطينية.
إن هزيمة المشروع الأميركي في المنطقة هي الاستحقاق الأبرز اليوم أمام الشعوب العربية وقواها الوطنية والتقدمية، ودول المقاومة للمشروع الصهيوني، وهي تتطلب تأمين مستلزمات المواجهة والصمود، ودعم الشعب الفلسطيني المقاوم، ودعم الفئات الشعبية في الدول العربية، التي كانت وستبقى الداعم الرئيسي للصمود والمقاومة، وتخليصها من همومها المعيشية.
لقد وضعت عملية (طوفان الأقصى) حداً لغطرسة طغمة من الفاشيين المتطرفين المعادين لكل ما هو إنساني، في عالم يبحث.. ويناضل من أجل مستقبل آمن للبشرية بأسرها، وأثارت في الوقت ذاته أسئلة أمام بعض الأشقاء وأيضاً أمام المجتمع الدولي بأسره:
1- إلى متى يستمر طغيان الكيان الصهيوني المدعوم من قلعة الإمبريالية العالمية، وتنكره للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير؟
2- إلى متى يجري البحث عن اتفاقات هامشية – جزئية، تهمّش الهدف الأسمى للشعب الفلسطيني، وتدعم عنصرية وفاشية الكيان الصهيوني؟
3- هل ما زال البعض يفصل بين المخطط الذي تحاول الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها تنفيذه في المنطقة العربية والشرق الأوسط، وعملقة الكيان الصهيوني ليصبح مارد هذه المنطقة، ويستبيحها أمنياً واقتصادياً تنفيذاً للمصالح الأميركية ولجماً لأي صحوة عربية مناهضة للإمبريالية والصهيونية؟
4- أيّ تطبيع يسعى إليه بعض الأشقاء مع كيان لا يعترف بالقيم الإنسانية والحضارية، تقوده طغمة فاشية تقضم الأرض الفلسطينية في كل يوم، وتنتهك المقدسات، وتحول الشعب الفلسطيني إلى أسير في وطنه.
لن نستعجل في الحديث عن تداعيات العملية الفلسطينية، فما تزال صواريخ المقاومين وبنادقهم وسكاكينهم تفعل فعلها، وما يزال الكيان الصهيوني غير مستوعب لآثار الصدمة الكبيرة، لكننا أمام مشهد لم نشاهد ما يماثله منذ خمسين عاماً، حين أصيب قادة الكيان الصهيوني بالذهول بعد اقتحام الجنود السوريين والمصريين استحكامات العدو في حرب تشرين الوطنية.
العالم اليوم يتجه نحو فضاء جديد لا تتحكم فيه مصالح القطب الأميركي الأوحد، ويسعى إلى الأمن والاستقرار بعيداً عن أخطار الحروب التي تشعلها الإدارات الأميركية وغطرسة حلفائها، وهذا ما يهيئ مناخاً ممهداً لتشديد نضال الشعوب المناضلة من أجل حقوقها المشروعة.
فلسطين والمنطقة العربية اليوم مفتاح السلام العالمي، وأي هزيمة لقوى الهيمنة والعدوان والاستباحة فيها، تعني بجميع المقاييس نصراً لقوى الحرية والسلام والعدل في العالم.
الأمل معقود اليوم على وحدة الشعب الفلسطيني، إذ لم يعد مقبولاً اليوم استمرار التشرذم الفلسطيني وانزواء كل طرف في (قلعته) واصطياد مواقف الأطراف الأخرى وعثراتها، كما لم يعد مقبولاً بعد تداعيات (أوسلو) الثقة بتعهدات قادة الكيان الصهيوني وشركائهم الأميركيين، ونعتقد جازمين بأن توحيد جهود جميع الفصائل الفلسطينية من أجل مقاومة الإبادة، واستمرار النضال في سبيل تحقيق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير، وإقامة دولته الوطنية على الأرض الفلسطينية، هو حجر الزاوية في انتصار الشعب الفلسطيني، ولو تطلّب الأمر طوفاناً، وبعده طوفان. وبعده ألف طوفان.
-
عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري الموحد، رئيس تحرير صحيفة "النور" السورية.
View all posts