منذ 17 أيلول – سبتمبر الماضي، دخل العدوان الصهيونيّ المتصاعد على لبنان وشعبه ومقاومته في مرحلة جديدة معدّ لها مسبقاً، وتندرج في أهدافه التوسعية التي لا تقتصر على تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي وحسب، بل تطاول كل المحيط، بما يتسق مع منطلقات المشروع الصهيوني في إقامة “إسرائيل الكبرى”، سواء بالمدى الجغرافيّ المُعبّر عنه في استحضار الأساطير التاريخية، أو بالخرائط المرفوعة من قبل قادة الكيان، أو بالسيطرة الاقتصادية والسياسية والأمنية، انطلاقاً من تكريس “التطبيع” الشامل. ولا تنفصل هذه “الطموحات الصهيونية” عن المشاريع الإمبريالية في إعادة رسم خرائط “الشرق الأوسط” بما يناسب الهيمنة المطلقة والمستدامة على المنطقة. فالمشروع الصهيوني الذي وصل إلى نهايته المنطقية في تكريس الفاشية وإقامة نظام الفصل العنصري في فلسطين، في ظل حكومة يمينية متطرّفة، يعمل أيضاً على إخضاع المنطقة العربيّة لحرب شاملة مدمّرة، بما يعيد إلى الكيان الصهيوني وظيفته التوسّعية، بدعم أميركي – أطلسي.
وقد كانت المؤشرات السياسية والأمنية قبيل تصاعد العدوان الصهيوني الهمجي على لبنان تشير إلى أن العدو الإسرائيلي يركّز على الضفة الغربية بعد غزة، لكنّه سرعان ما أعاد ترتيب أولوياته منتقلاً إلى لبنان، وقد تكون لذلك أسباب أبرزها: الحفاظ على علاقته مع النظام الأردني المطبّع، في ظل ما تشهده الساحة الأردنية من غليان شعبي، واحتمال فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية الأميركية ووعده بتأييد ضمّ الضفة إلى الكيان الصهيوني، مع الإشارة إلى أنه لم يبقَ منها سوى 18% من الأراضي، تحت إشراف “السلطة الفلسطينية”، علماً أنه سبق لترامب أن أقرّ ضم القدس والجولان ونقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس المحتلّة، بصفتها عاصمة أبدية للكيان الصهيوني، كما أنه أعلن في لقائه الأخير مع نتنياهو أن المساحة الجغرافية لـ”إسرائيل” تبدو صغيرة جداً بالمقارنة مع مساحة العالم العربي، متسائلاً: هل من وسيلة لتوسيعها؟.. تلك هي مشهدية الحروب المتنقّلة للعدو الصهيوني المدعوم أميركياً، من غزة إلى الضفة إلى لبنان، فاليوم التالي لا وجود له في أي منها، مع تصعيد وتوسيع حربه العدوانية على الشعبين اللبناني والفلسطيني.
إذاً وتحت حجّة إعادة المستوطنين إلى الشمال الفلسطيني المحتل، يقوم العدو بتغطية عدوانه الهمجي على لبنان، ويكرّر ما ارتكبه في غزة من قصف المدنيين وترويعهم ودفعهم للنزوح عن أراضيهم، على غرار ما جرى مع الشعب الفلسطيني يوم قامت العصابات الصهيونية بالاعتداء عليه وتهجيره من أرضه بتغطية بريطانية حينها؛ كما يقوم بتدمير القرى والمنازل والبنى التحتية والمؤسسات وتحويل “المنطقة العازلة” في الشريط الحدودي أرضاً محروقة حتى لا يعود أهلها، كما يقوم بالتهديم الممنهج للأبنية في الضاحية الجنوبية لبيروت، إضافة إلى عمليات القصف الجوي الهمجي التدميري في الجنوب والبقاع وبعلبك – الهرمل، وسائر المناطق اللبنانية، حيث يجري تدمير الأبنية فوق رؤوس ساكنيها، وارتكاب الاغتيالات والمجازر بحقّ المدنيين والأطفال والشيوخ والنساء، كما يستهدف العدو الطواقم الطبية والمراكز الصحية والاستشفائية والإعلاميين، والمؤسسات العامة ومراكز المدن ومعالمها التاريخية.
ترافق العدوان الهمجي مع تنفيذ عمليات اغتيال طاولت قادة المقاومة، واستهدفت الكوادر الميدانية وشبكة الاتصالات، بهدف إشعار المقاومة بأن العدو قادر على الوصول إلى أي مكان وأي شخص، وبكل الوسائل بما فيها إلقاء مئات أطنان القنابل الأميركية، مع حشد الفرق العسكرية وبدء الهجوم البرّي على لبنان.
إن هذه المتغيّرات السياسية والعسكرية الكبيرة والخطيرة تؤكّد أن العدو الصهيوني قام بالتحضير لهذه المعركة منذ سنوات. ومن المؤكد أن هذا التحضير تحقّق بالتعاون الكامل والتفصيلي مع الولايات المتحدة الأميركية، التي أمّنت له كل أشكال الدعم، من اتفاقيات التطبيع إلى المساعدات العسكرية والتكنولوجية واللوجستية والمالية، إلى الإشراف الفعلي على المعركة عبر تمكين “إسرائيل” من تنفيذ عمليات اغتيال أمنية واسعة، غداة ضمّ الجيش الصهيوني إلى القيادة الوسطى الأميركية، وهذا ما أتاح له الوصول الى المعلومات الاستخباراتية الهائلة التي ساعدته في تحقيق جرائمه.
يضاف إلى ذلك ما تعلنه الإدارة الأميركية، وتعمل عليه، وهو حماية “إسرائيل” وإفشال أي رد ضد عدوانها، إضافة إلى مساعدتها في العدوان على لبنان وفلسطين بحجة “حقها في الدفاع عن نفسها”.
لكن، بالرغم من همجية العدو ومجازره وعدوانه الوحشي، ورغم حشده لأكثر من خمس فرق عسكرية (حوالي 70 ألف جندي) مزودة بأحدث الأسلحة والمعدّات، وبالرغم من الاستخدام المكثّف للطيران الحربي، ورغم عمليات التفجير الواسعة للأحياء في “الحافة الحدودية”، فإن الوقائع المتلاحقة تُظهر فشله الميداني، في عملياته البرية، حيث تُبدي المقاومة بسالة وقدرات فائقة وشجاعة نادرة وتُلحق بجيش الاحتلال خسائر فادحة في الأفراد والمعدّات، وتوجّه له ضربات قاسية في الميدان، وفي محاولاته للتقدّم واحتلال مواقع والسيطرة على بلدات. ولئن اعتمد العدوّ على التفوق الناري والتقني، فإنه يتراجع عندما تعتمد المقاومة على المباغتة والمواجهة المباشرة.. ومن جهة أخرى يستمر، وبشكل يتوسّع كماً ونوعاً ومن ناحية المدى الجغرافيا، إطلاق المسيّرات والصليات الصاروخية على مواقع الجيش المعتدي ومراكزه العسكرية والاستخبارية في مستوطنات الجليل وصفد ونهاريا وصولاً إلى حيفا وتل أبيب، مع تسجيل نجاحات عديدة مثل استهداف منزل المجرم نتنياهو في قيسارية، مما يشير إلى إعادة إمساك المقاومة بزمام الأمور، رغم ما تعرضت له من إستهدافات وخسائر على مستوى القيادتين السياسية والعسكرية.
إن الأهداف الحقيقية للعدوان على الشعبين اللبناني والفلسطيني وعلى شعوب المنطقة تختلف وتتعدّى ما يعلن عنه العدو، وما يقدّمه من حجج وتبريرات، أمام الرأي العام، رغم أن ما يصدر عنه، بين الحين والآخر، يفضح مخططاته المتلازمة مع ما ترمي إليه الإمبريالية الأميركية وحلفاؤها.
فالأهداف المعلنة للعدو الصهيوني، في عدوانه على لبنان، هي إعادة المستوطنين الصهاينة إلى شمال فلسطين المحتلة، وبالتالي وقف عمليات إسناد غزة التي ينفذها “حزب الله”، وفصل معركة لبنان عن غزة، علماً أن سلطة العدو تُدرك أن الحرب البرّية على لبنان لن تعيد المستوطنين إلى الشمال الفلسطيني؛ لكن الأهداف الحقيقية للعدوان بدأت تتكشّف تدريجياً، فالعدوان الصهيوني – الأميركي يستكمل هجومه الوحشي على لبنان جواً وبحراً وبراً، بهدف القضاء على مقاومته وشعبه وصموده وقراره الوطني، تمهيداً لإخضاعه والسيطرة على ثرواته وفرض شروط الإلحاق والخضوع والتطبيع عليه، واعتماده نقطة انطلاق لإخضاع المنطقة برمّتها.
إن “إسرائيل” تستهدف لبنان بأسره لا تصفية البنية العسكرية لـ “حزب الله” فقط، فجيش العدو مستمر في محاولات توغّله البرّي وتهديم المنازل في قرى الشريط الحدودي والضاحية الجنوبية كما في الجنوب والبقاع عموماً، وهو مستمر كذلك في ارتكاب المجازر واستهداف المدنيين في المناطق اللبنانية كافة. وبالتالي فإن العدوان الإسرائيلي يستهدف، في هذه المعركة المصيرية، لبنان المقاوم ودوره ووظيفته، ومصير لبنان ووجوده وطناً وكياناً وشعباً، لتحقيق أطماعه التوسّعية في لبنان والمنطقة.
يسعى العدو إلى جرّ لبنان إلى مفاوضات يفرض فيها شروطه، بما فيها فرض اتفاق تطبيع جديد مع لبنان مدخله القرار 1701، معطوفاً على القرارين 1559 و1680، بما يضمن إقامة منطقة عازلة منزوعة السلاح على طول الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلة، ولا يكون فيها وجود لا للمقاومة ولا للأهالي ويتولى الجيش اللبناني واليونيفيل فيها، بعد توسيع صلاحيات القوات الدولية أو تحويلها إلى قوات متعددة الجنسية، وتولّيها الإشراف على المعابر البرية والجوية والبحرية، مسؤولية حماية أمن “إسرائيل”. أما عمق المنطقة المنزوعة السلاح، فقد يمتدّ إلى 10 كلم عن الحدود أو إلى جنوب الليطاني أو حتى إلى ما بعد شماله، فذلك مرتبط بقدرة العدوّ المدعوم أميركياً على تحقيق أطماعه التوسعية وضم الأراضي. ويستتبع هذا المشروع التوسّعي نهب الثروة الغازية للبنان ومعها مياه الليطاني، مع الإشارة إلى أن نتنياهو لم يتردّد في ذروة تصعيد مخططاته العدوانية في طلب إلغاء اتفاقية “الترسيم البحري” رغم أنها مجحفة بحق مع لبنان. إن هذا المخطط الأميركي – الإسرائيلي الذي يستهدف إحداث تغيير جيوسياسي عميق وشامل لن يتوانى عن تعظيم واستثمار التحوّلات الديمغرافية الهائلة التي يشهدها لبنان راهناً (مليون وثلاثمئة ألف نازح لبناني ومليون ونصف مليون لاجئ سوري، 200.000 لاجئ فلسطيني)، وعن اللعب على التناقضات اللبنانية الداخلية ومحاولة تغيير موازين القوى الداخلية، وسط الانهيار شبه الشامل لمعظم مؤسسات الدولة الدستورية والإدارية والخدماتية. وإذا ما نجح هذا المخطّط، فإن مصير لبنان ووجوده كوطن ودولة وحدود سوف يكون على المحكّ.
ونشير إلى أن الإدارة الأميركية تتولّى نقل شروط العدوّ، بما يمكن وصفه بمفاوضات تحت النار، حيث يقوم الموفد المزدوج الجنسية “الأميركي – الإسرائيلي” عاموس هوكشتاين بالإخراج الدبلوماسي لهذه الشروط، ممَّا يطرح ضرورة رفض هذه الوساطة المنحازة كلياً للعدوان.
لا يقتصر المخطّط العدواني الصهيوني – الأميركي على لبنان، فهو يستهدف التصفية النهائية للقضية الفلسطينية بحيث لا يبقى من يدعمها، كما يهدف إلى تمكين “إسرائيل” من استعادة هيبتها ووظيفتها ودورها في المنطقة، وبما يحقّق طموحها بالاضطلاع بدور أساسي، بل قيادي، في إطار المشروع المتجدّد للشرق الأوسط الجديد، الذي يتم التعبير عنه بالتصريحات الأميركية، وبالخرائط المرفوعة على منبر الأمم المتحدة للمجرم الصهيوني نتنياهو؛ وتحت هذا المشروع الرئيسي تندرج أيضاً محاولة منع امتلاك إيران للنووي، وتحجيم نفوذها في المنطقة لتعزيز دور “إسرائيل”، كما تندرج مجموعة أهداف متفرّعة سبق أن طالت اليمن وسوريا والعراق والسودان وليبيا، ومرشحة لأن تطال كل بلدان المنطقة من ضمن خطة متكاملة.
إن اتساع العدوان دون وجود رادع دولي أو عربي أو إقليمي قادر على إيقافه حتى الآن، يستدعي العمل على إحداث تغيير فعلي في موازين القوى، تغيير يكون ذا طابع إستراتيجي ومحكوماً بمبدأ التمسك بخيار المقاومة لمنع العدو من تحقيق أهدافه التوسعية، ولمواجهة المخطّط الإسرائيلي التوسّعي والتفتيتي والتهجيري.
وأمام المعركة الطويلة والمعقّدة، فإن من حق الشعب اللبناني أن يقاوم العدوان والاحتلال، بل أن هذا واجب وطني على الجميع أن يلتزم به ويتحمل مسؤوليته، دفاعاً عن لبنان وحقوقه الكاملة، مع تضافر كل الجهود لهزيمة العدو، وهو ما يتطلّب العمل على:
- إعلان التعبئة الشعبية والوطنية الشاملة وتوفير السلاح لكل من يريد مقاومة العدو، وحشد الطاقات تنظيماً وتدريباً في إطار مقاومة وطنية وشعبية شاملة.
- تأمين موجبات الصمود الشعبي للنازحين ومعالجة تداعيات النزوح الداخلي المترافق مع الانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي الذي لم تكتمل فصوله منذ عام 2019، مع التأكيد على أولوية عودة النازحين إلى قراهم وممتلكاتهم دون قيد أو شرط، وإعادة إعمار منازلهم والتعويض عن الخسائر المباشرة وغير المباشرة التي لحقت بهم.
- تعزيز الوحدة الوطنية في مقاومة العدوان والاحتلال واجرامه والتصدّي الصارم لكل من يحاول نشر الفوضى والفتن بعدما أظهر اللبنانيون جميعاً حالة وطنية جامعة تجلّت في احتضان النازحين.
- تعزيز وتفعيل فعاليات التضامن والمؤازرة الشعبية العربية والدولية، في ظل صمت وتواطؤ بعض الأنظمة الرسمية العربية والنظام العالمي، وصولاً إلى استنهاض تحرري شامل على كل المستويات.
- فرض وقف إطلاق النار على العدو، من دون تقديم أية تنازلات، انطلاقاً من أن المشروع الأميركي – الصهيوني هو “مشروع جذري”، والميل التصاعدي عنده لا حدود له، إذ تزيده التنازلات شراسة، فيما تلجمه المواجهة، وتاريخ الحركة الصهيونية يشهد على ذلك؛ مع الإشارة إلى أن القرار 1701 المطروح لم يؤمّن الحماية المطلوبة للبنان، فهو أساساً غير متوازن والمطلوب تعديله بما يضمن أمن لبنان براً وبحراً وجواً.
- التمسّك بخط الهدنة مع فلسطين المحتلة المثبّت بالاتفاقية الدولية المسجّلة في الأمم المتحدة منذ عام 1949.
في هذه المعركة المفتوحة، والطويلة، وبغض النظر عن مساراتها، ومراحلها، تترابط مسائل التحرر الوطني والتحرر الاجتماعي ومواجهة السيطرة الإمبريالية وربيبتها الصهيونية، فلنكن على مستوى التحدّي.