الاقتصاد السوري بين مطرقة العقوبات وسندان الليبرالية؛ موازنة 2025

مع اقتراب نهاية عام 2024 وبداية 2025، تتعرّض معيشة الشعب السوري لضغوط شديدة تتجلى في عدة أسباب رئيسية “جديدة”، بالتوازي مع استمرار العقوبات والحصار الغربي الخانق على البلاد. أبرز هذه الأسباب هو رفع أسعار السلع المدعومة وتدهور الأجور بشكل حاد، إضافة إلى ارتفاع سعر صرف الدولار المعتمد من جانب الحكومة السورية في موازنة العام المقبل بنسبة 17%، والتي تشكل بمجموعها الوجه الآخر المكمل للعقوبات الغربية… 

رفع أسعار السلع المدعومة وتدهور الأجور

في خضم أزمة اقتصادية خانقة، قررت الحكومة السورية رفع سعر ليتر المازوت المدعوم للتدفئة من 2000 ليرة إلى 5000 ليرة سورية، مما يعني زيادة بنسبة 150%. وهذا الرفع المفاجئ جاء في وقت حساس للغاية، إذ يواجه المواطنون صعوبة في تلبية احتياجاتهم الأساسية في ظل ارتفاع معدلات التضخم وضعف القدرة الشرائية. وذريعة هذه الخطوة، وفق الحكومة السورية، أنها توفر ما يقارب 600 مليار ليرة سورية، متجاهلة أنها تأتي على حساب معيشة الأسر السورية، التي تعاني من ضغط متزايد بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، ومتجاهلة أيضاً أن هنالك موارد أخرى ممكنة لتغطية العجز على رأسها التهرب الضريبي الهائل، وكذلك موارد الفساد الكبير الضخمة.

في هذا السياق، كشف “مؤشر جريدة قاسيون لتكاليف المعيشة أن متوسط تكاليف المعيشة لأسرة مكونة من خمسة أفراد في سورية ارتفع إلى أكثر من 13.6 مليون ليرة سورية (نحو 925 دولاراً) في نهاية شهر أيلول/ سبتمبر 2024، في حين أن الحد الأدنى للأجور ما زال ثابتاً عند 278.910 ليرات سورية (18.9 دولاراً)، أي ما يعادل أقل من 2% من متوسط تكاليف المعيشة للأسرة. هذا الفارق الهائل والضخم بين الأجور وتكاليف المعيشة يوضح مدى تدهور الأوضاع المعيشية والضغط الهائل على الأسر السورية.

وينعكس الرفع المستمر لأسعار السلع المدعومة مثل المازوت والخبز بشكل مباشر على الأجور الحقيقية، إذ يؤدي إلى تقليص القوة الشرائية للمواطنين وزيادة حدة الفقر. ما يعني أن هذا الرفع يمثل تخفيضاً فعلياً للأجور، خاصة أن هذه الزيادات في الأسعار لم تتزامن مع زيادات مماثلة في الأجور الحقيقية (ولا حتى الاسمية) التي تغطي تكاليف المعيشة المتزايدة.

زيادة سعر صرف الدولار في موازنة 2025

من جهة أخرى، أُعلنت تصريحات حكومية حول موازنة عام 2025 بقيمة 52.600 مليار ليرة سورية، وبزيادة نسبية عن موازنة 2024. لكن بالتزامن مع ذلك، اعتمدت الحكومة سعر صرف للدولار عند 13.500 ليرة، بدلاً من 11.500 ليرة في موازنة العام السابق. 

تعني هذه الزيادة في سعر الصرف عملياً تقليص القدرة الشرائية لموازنة 2025 بنحو 17%، مما يجعل الزيادة الحقيقية في الموازنة أقل مما هو مُعلن، وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار معدلات التضخم المرتفعة التي بلغت 122% في منتصف عام 2024.

وزيادة سعر الصرف لا تعني فقط تآكل الموازنة بالليرة السورية، بل تعني أيضاً أن الاعتمادات الاستثمارية والجارية ستتأثر بشكل سلبي. والإنفاق الاستثماري، الذي يُفترض أن يدعم النمو الاقتصادي ويزيد من الإنتاج المحلي، لن يكون قادراً على تحقيق أهدافه نظراً لتدهور القيمة الحقيقية للاعتمادات المالية المخصصة له.

“أسرار” أرقام موازنة 2025

اعتمدت الحكومة السورية في موازنة 2025 على زيادة كبيرة في الإنفاق الاسمي، حيث بلغت الاعتمادات الإجمالية 52.600 مليار ليرة سورية، بزيادة قدرها 48% عن موازنة 2024. ومع ذلك، فإن هذه الزيادة لا تعكس تحسناً فعلياً، بل هي نتيجة للتضخم المتسارع وزيادة سعر الصرف المعتمد. حين نحول هذه المبالغ إلى الدولار وفق سعر الصرف الجديد (13.500 ل. س/دولار)، نلاحظ أن الزيادة الفعلية لا تتجاوز 25%. وهذا يشير إلى أن الزيادة في الأرقام تعكس تضخماً وهمياً أكثر مما تعكس نمواً حقيقياً في قدرة الاقتصاد على الإنتاج أو تلبية احتياجات المواطنين.

توزيع الموازنة بين الإنفاق الجاري والاستثماري شهد تغييراً طفيفاً، حيث تم تخصيص 30% من الإنفاق للاستثمارات مقارنة بـ 25% في موازنة 2024. في الشكل وعلى السطح يبدو هذا الرقم “واعداً”، لكن ارتفاع نسب الاستثمار لن تؤدي بطبيعة الحال إلى ارتفاعٍ في نسب النمو الاقتصادي في ظل العائدية المنخفضة لليرة السورية في الاستثمارات، هذه العائدية المنخفضة الناجمة أساساً عن الفاقد الاقتصادي بسبب عمليات النهب الكبير التي يتعرض لها الاقتصاد السوري والقطاع العام خصوصاً الذي يشكل عصب الاقتصاد الوطني.

وعلى الرغم من زيادة الاعتمادات الاستثمارية من 6.800 مليار ليرة في 2024 إلى 11.100 مليار ليرة في 2025 (زيادة اسمية بنسبة 62%)، فإن هذه الأرقام تفقد معناها عند تحويلها إلى الدولار، حيث تبلغ نسبة الزيادة الحقيقية 39% فقط. كما أن هذه النسب تتآكل بفعل التضخم، مما يجعل الحديث عن أي أثر إيجابي للاستثمار في هذه الظروف أمراً مشكوكاً فيه.

إجمالاً، فإن أرقام موازنة 2025 تحمل في طياتها دلالات خطيرة حول استمرار التدهور الاقتصادي في سورية. زيادة الإنفاق الاسمي، ورفع أسعار السلع المدعومة، والاعتماد على الخصخصة كـ”حل” لأزمة الإيرادات، كلها سياسات تزيد من الأعباء على المواطنين دون إعطاء أية دفعة حقيقية للاقتصاد. ومن الواضح أن الحكومة تواصل اتباع النهج ذاته الذي اعتمدته الحكومات المتعاقبة في سورية والذي يعتمد على تحميل الشعب مزيداً من الأعباء في ظل انكماش الاقتصاد واعتماد الحكومات على تمويل نفقاتها من رفع الأسعار وتخفيض الدعم.

العقوبات والفساد الليبرالي وجهان لعملة واحدة

بالمحصلة فإن الأغلبية الساحقة من السوريين تعيش بين مطرقة العقوبات الغربية وسندان السياسات الليبرالية التي تتبعها الحكومات السورية المتعاقبة، وذلك بالرغم من أن العقوبات نفسها ينبغي أن تتحول من كارثة إلى فرصة نحو تغيير جذري في طبيعة الاقتصاد السوري وتوجهاته، وضمناً دفعه نحو التوجه شرقاً بدلاً من الارتباط التاريخي بالغرب وخاصة بأوروبا الغربية، لكن المصالح الطبقية الضيقة للفئات المتنفذة ما تزال تفعل فعلها في تعظيم أثر العقوبات والحصار الغربي على سورية عبر إصرارها على السياسات نفسها التي تبحث عن الحلول في مكان واحدٍ دائماً: جيوب المواطنين الفقراء!

Author

  • أحمد حسن

    محرر القسم الاقتصادي في جريدة قاسيون الناطقة باسم حزب الإرادة الشعبية/ سورية

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

هل يقود “فلول الإخوان” السودان إلى الحرب الأهلية

برزت قبل وأثناء الحرب العديد من الميليشيات المسلحة المنسوبة للجيش المختطف من فلول “الإخوان المسلمين”. اندلعت الحرب في الخامس عشر من نيسان/ إبريل من العام 2023 بين الجيش المختطف وميليشيا الدعم السريع، بهدف قطع الطريق على ثورة ديسمبر المجيدة حتى لا تحقق أهدافها في بناء سلطة مدنية كاملة وتصفية الثورة.

ترامب ومخاطر استراتيجية تجاه القضية الفلسطينية العربية

تستند العلاقات الأميركية – “الإسرائيلية” على قاعدة ذهبية هي أن الولايات المتحدة الأميركية أهم حليف وداعم للكيان الصهيوني منذ قيامه في 1948 وأنها تصوغ وتفرض سياستها في منطقة الوطن العربي والشرق الأوسط، بل والعالم لضمان تفوق “إسرائيل” عسكرياً وانتصاراتها في حروبها المتتالية وقضمها لفلسطين.

[zeno_font_resizer]