تمثل فلسطين نموذجًا حقيقيًا للاستعمار الاستيطاني في العصر الحديث، إذ تقوم الصهيونية على مشروع إحلالي يهدف إلى إقامة كيان استيطاني على حساب الشعب الفلسطيني وأرضه. ومع طوفان الأقصى والإبادة الجماعية التي تمارسها دولة الاحتلال، وتعثر كافة مسارات التسوية التقليدية، يبرز خيار الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة على كامل تراب فلسطين التاريخية كبديل يسعى لتحقيق العدالة والمساواة من خلال تفكيك منظومة الاستعمار الاستيطاني.
الصراع الفلسطيني، بعد طوفان الأقصى، تجاوز كونه مواجهة مع الاحتلال، ليصبح معركة وجودية في مواجهة مشروع إحلالي يستهدف طمس الهوية الفلسطينية واستبدال السكان الأصليين بالمستوطنين. المقاومة الفلسطينية لم تعد مجرد رد فعل على الاعتداءات المتكررة، بل أصبحت نضالًا شاملًا يرفض الانصياع لأي تسويات تنتقص من الحقوق الوطنية، ويؤكد على ضرورة إنهاء كافة أشكال الاستعمار الاستيطاني وبناء مشروع تحرري وطني شامل.
في هذا الإطار، تبرز فكرة الدولة الواحدة كإطار تحرري يقلب أسس النظام الاستيطاني، رغم ما تواجهه من عقبات داخلية بسبب الانقسامات الفلسطينية، وخارجية نتيجة رفض الأوساط الصهيونية والداعمين لها. مع ذلك، يبقى هذا الطرح حلًا ممكنًا وعادلًا، لكنه يتطلب إعادة توحيد المشروع الوطني الفلسطيني، وتكثيف الحراك الشعبي، وضمان دعم دولي يُعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية ولحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
يعيد هذا المقال فحص طبيعة الاستعمار في فلسطين من خلال أفكار فرانز فانون، إدوارد سعيد، سلامة كيلة، ومهدي عامل، ويدرس آليات تحقيق هذا البديل.
الاستعمار الاستيطاني في فلسطين: أبعاد الإبادة والإحلال
في كتابه معذبو الأرض، يصف فرانز فانون الاستعمار الاستيطاني بأنه ليس مجرد نظام هيمنة سياسية أو اقتصادية، بل هو مشروع إبادي شامل يستهدف اقتلاع الهوية الثقافية والجغرافية للسكان الأصليين، واستبدالها بهوية المستوطن الغازي. هذا التوصيف يتطابق تمامًا مع الحالة الفلسطينية، حيث تتبدى سياسات الاحتلال الإسرائيلي في تهجير الفلسطينيين قسرًا، وسلب أراضيهم، وتدمير إرثهم الحضاري كجزء من عملية إحلال ممنهجة تهدف إلى محو وجودهم.
أما إدوارد سعيد، ففي الاستشراق يكشف كيف أسهم الخطاب الغربي الاستشراقي في تبرير المشروع الصهيوني، عبر تصوير الفلسطيني كـ”آخر” متخلف وغير حضاري، ليبرر الاحتلال جرائمه كجزء من “رسالة حضارية”. سعيد يظهر بوضوح أن هذا الخطاب الثقافي ليس إلَّا امتدادًا لأدوات الهيمنة الإمبريالية التي تُطوِّع الشرق لتعزيز المركزية الأوروبية، حيث يصبح الشرق أداة لتكريس استعلاء الغرب واستمرار استعمارية فكرية وسياسية.
ومن زاوية أخرى، يؤكد سلامة كيلة أن الاستعمار الصهيوني يمثل نموذجًا يتجاوز الاستعمار التقليدي، إذ يكرس وجوده عبر تأسيس دولة إحلالية على أساس فكرة “يهودية الدولة”، وهي فكرة تعني الإقصاء التام للفلسطينيين، وتجريدهم من حقوقهم السياسية والاجتماعية. المشروع الصهيوني، وفق كيلة، ليس فقط استعمارًا إحلاليًا، بل هو جزء لا يتجزأ من النظام الرأسمالي الإمبريالي الذي يدعم ويعزز هيمنته من خلال السرديات القومية والدينية، والقوة العسكرية المدعومة من الغرب.
كيلة يضيف بُعدًا حاسمًا لتحليل الصهيونية، حيث يرى أن النضال ضد المشروع الصهيوني لا يمكن عزله عن النضال ضد النظام الإمبريالي العالمي. فهو يعتبر أن تفكيك هذا المشروع يتطلب اشتباكًا مع الأسس الاقتصادية للرأسمالية العالمية التي تُغذي الاحتلال، لتتحول القضية الفلسطينية من صراع محلي إلى معركة أممية ضد الإمبريالية والرأسمالية.
الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة: البديل التحرري
تشكل الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة بديلاً راديكاليًا قادرًا على تفكيك الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، من خلال مواجهة جذرية مع المشروع الصهيوني وأيديولوجية الإحلالية. يستلهم هذا النموذج أفكار فرانز فانون، إدوارد سعيد، سلامة كيلة، ومهدي عامل، ليقدم رؤية تتجاوز الحلول التفاوضية السطحية نحو مشروع تحرري شامل. تحقيق هذا النموذج يتطلب مقاومة شاملة تُعيد صياغة الهوية الوطنية، وتفتح المجال لبناء مجتمع عادل ومتساوٍ يعيد للفلسطينيين حقوقهم المسلوبة، ويُمهّد لنهاية واحدة من أكثر أشكال الاستعمار بشاعة في التاريخ الحديث.
ينطلق نموذج الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة من ضرورة تفكيك الأسس الأيديولوجية للصهيونية كحركة استيطانية إحلالية. يرى سلامة كيلة أن هذا النموذج يتجاوز حدود التسويات السياسية العقيمة كحل الدولتين، عبر دمج الفلسطينيين والمستوطنين اليهود في إطار دولة تقوم على المواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية. هذا الطرح يتطلب الاعتراف بكامل الحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني، بما في ذلك حق العودة، وهو ما يهدد جوهر المشروع الصهيوني، لأنه يُفكك أيديولوجيتها القائمة على الفصل العرقي والاستعلاء الديني.
الدولة الواحدة، بحسب كيلة، تعيد تعريف الهوية الوطنية لتكون شاملة وغير حصرية، ما يفتح المجال لاندماج المستوطنين اليهود المتخلصين من صهيونيتهم في مجتمع ديمقراطي دون هيمنة استعمارية.
مهدي عامل يربط بين التحرر الوطني والاجتماعي، مؤكدًا أن مشروع الدولة الواحدة يتطلب تفكيك النظام الرأسمالي الذي يحمي الاستعمار. وفقًا لعامل، لا يمكن الوصول إلى دولة ديمقراطية علمانية دون تصعيد النضال الطبقي الذي يوحد الفلسطينيين واليهود المناهضين للصهيونية ضمن حركة تحرر وطني عابرة للأعراق.
التحرر الاجتماعي، وفقًا لعامل، في هذا السياق، يصبح جزءًا لا يتجزأ من النضال الوطني، حيث تُعاد صياغة العلاقة بين السكان الأصليين والمستوطنين ضمن إطار نضالي جامع. (*)
أما إدوارد سعيد فيدعو إلى إعادة صياغة الخطاب الفلسطيني بحيث يتجاوز إطار المظلومية إلى طرح رؤية مستقبلية تقوم على المساواة والحرية. سعيد يرى في الدولة الواحدة نموذجًا قادرًا على التحدي الثقافي والسياسي لبنية الاحتلال الاستيطاني، معتبراً أن هذه الفكرة ليست مجرد حلاً سياسيًا، بل هي مشروع إنساني يناهض كل أشكال العنصرية والهيمنة.
المقاومة: أداة تفكيك الاستعمار الاستيطاني
يتطلب التحرر من الاستعمار مواجهة عنيفة مع المستعمر، حيث لا يمكن تفكيك النظام الاستيطاني إلَّا عبر مقاومة شاملة تقوض شرعيته. في السياق الفلسطيني، تتجلى هذه الفكرة في المقاومة المسلحة والانتفاضات الشعبية، التي نجحت في تحدي التفوق العسكري الصهيوني وكسر صورته كقوة لا تقهر.
المقاومة، وفقًا لفرانز فانون، ليست خيارًا بل ضرورة وجودية أمام مشروع استيطاني إحلالي. فانون يؤكد أن العنف الثوري هو الوسيلة الوحيدة القادرة على تفكيك النظام الاستعماري، لأنه يهدم الهياكل الإيديولوجية والمؤسساتية التي يقوم عليها. في فلسطين، تتجلى هذه الرؤية في الانتفاضات الشعبية والمقاومة المسلحة، التي لم تُسقط فقط أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”، بل أعادت تعريف الفلسطيني كفاعل مقاوم وليس ضحية.
تتجاوز المقاومة البُعد العسكري لتشمل بناء خطاب سياسي وثقافي قادر على إعادة صياغة القضية الفلسطينية كنضال تحرري عالمي. يؤكد سلامة كيلة على أهمية الوحدة الوطنية كشرط أساسي لنجاح المقاومة، محذرًا من الانقسامات الداخلية التي تخدم الاحتلال وتُضعف مشروع التحرر. وينتقد الحلول التفاوضية التي قادت إلى اتفاقيات مثل أوسلو، معتبرًا أنها شرعنة الاحتلال بدلًا من مواجهته.
يدعو إدوارد سعيد إلى تبني خطاب مقاوم يستعيد الرواية الفلسطينية بوصفها حركة تحرر وطني، ما يعيد تعريف الصراع بعيدًا عن التصنيفات الضيقة كالنزاع الحدودي أو الصراع الديني.
على صعيد آخر، يرى سلامة كيلة أن المقاومة لا تقتصر على المواجهة المسلحة، بل تشمل بناء منظومة ثقافية وسياسية قادرة على إعادة تعريف الصراع بوصفه صراعًا تحرريًا أمميًا. الوحدة الوطنية، وفقًا لكيلة، شرط أساسي لتحقيق هذه الرؤية، إذ لا يمكن للمقاومة أن تنجح دون تكامل جهودها على الصعيدين المحلي والدولي.
إدوارد سعيد ينتقد بشدة التسويات التي تكرس الواقع الاستعماري، مثل اتفاقيات أوسلو، ويرى أن هذه الاتفاقيات أعادت إنتاج الاحتلال بأدوات ناعمة. بدلاً من ذلك، يدعو سعيد إلى تبني خطاب مقاوم يعيد تعريف الفلسطيني كفاعل أساسي في النضال العالمي ضد الاستعمار.
خاتمة
تشكل الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة بديلاً جذريًا لتفكيك بنية الاستعمار الاستيطاني في فلسطين. يستند هذا النموذج إلى إعادة صياغة العلاقة بين السكان الأصليين واليهود المتخلصين من صهيونيتهم بعد تفكيك دولة الاحتلال على أساس العدالة والمساواة، وهو ما يتطلب مواجهة جذرية مع المشروع الصهيوني عبر مقاومة شاملة تجمع بين التحرر الوطني والاجتماعي. بالاستناد إلى أفكار فرانز فانون، إدوارد سعيد، سلامة كيلة، ومهدي عامل، يظهر أن تحقيق هذا النموذج لا يقتصر على تغيير سياسي، بل يتطلب تغييرًا في البنى الثقافية والاقتصادية التي تدعم الاحتلال. فقط من خلال هذا التصور الشامل يمكن بناء مجتمع فلسطيني جديد يعيد تعريف الهوية الوطنية ويؤسس لدولة فلسطين واحدة علمانية ديمقراطية يكون الجميع فيها مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.
المصادر:
- فانون، فرانز. معذبو الأرض – “معذبو الأرض” (1961)
- سعيد، إدوارد. الاستشراق. 1978
- كيلة، سلامة – “الصهيونية والاستعمار الإمبريالي” (مقالات متعددة).
- كيلة، سلامة. “الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة في فلسطين”، مجلة رمّان.
- تقارير هيومن رايتس ووتش حول الفصل العنصري في فلسطين.
6 – مقالات نقدية حول الاستعمار الاستيطاني من منظور ما بعد كولونيالي.
(*) مستمد من طرح مهدي عامل في كتابه مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني، دار الفارابي، بيروت.