كارل ماركس: فيلسوف الثورة على الاستغلال

“في الرابع عشر من آذار/ مارس [1883] وعلى الساعة الثالثة إلَّا ربعاً توقف أعظم مفكر عن التفكير. لقد تُركَ وحيداً لدقيقتين بالكاد وحينما عدنا وجدناه جالساً في كرسيه نائماً في هدوء ولكن إلى الأبد. إنها خسارة لا تقاس ضربت كلاً من الطبقة العاملة المناضلة في أوروبا وأميركا وعلم التاريخ بوفاة هذا الرجل”. (من خطاب فريدريك انجلز على ضريح كارل ماركس)

كارل ماركس فيلسوف الثورة على استغلال الإنسان للإنسان، كرَّس حياته لكشف الأساس المادي للاستغلال الممارس ضد من ينتجون الخيرات ولا يستفيدون منها إلّا بما يكفي لتجديد قوة عملهم، البقاء على قيد الحياة، ليستفيد منها من يملكون وسائل الإنتاج. ونظَّر ماركس للثورة على نظام الاستغلال، نمط الإنتاج الرأسمالي. وكان نتاجه الفلسفي والسياسي والاقتصادي، مع صديقه ورفيق دربه، فريدريك انجلز، الملهم لأول ثورة في العالَم، ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا بقيادة فلاديمير لينين الذي طوَّر النظرية الماركسية. النظرية الماركسية – اللينينية هي ملهمة جميع حركات التحرر الوطني والثورة في جميع جهات الأرض ضد الاستغلال والظلم.

أحدَّث كارل ماركس ثورة في الفلسفة والتاريخ والاقتصاد. هي ثورة على الفلسفة المثالية، والمادية الميكانيكية الميتافيزيقية، والأيديولوجية المثالية التي تخدم تكريس سيطرة الطبقة البرجوازية وتشوه الوعي الثوري. لقد أنزل ماركس الفلسفة من برجها العاجي إلى حيث يجب أن تكون، أنزلها إلى الأرض، الواقع الموضوعي وبؤسه، لتكون أداة من أدوات فهمه والنضال من أجل الثورة عليه وعلى الاستغلال، حيث على الفلسفة أن “تتلمس الأرض تحت قدميها”، وأدخل إلى حقلها أحد أهم المفاهيم النضالية في النظرية الماركسية، الممارسة، فالتحمت الفلسفة (النظرية) بالممارسة، في سيرورة نضالية واحدة من أجل فهم الواقع وتغييره ثورياً.

حدَّد ماركس منهجيته المادية الديالكتيكية النقيضة لمنهجية هيغل المثالية بنص شهير في تذييله للطبعة الثانية من كتابه “رأس المال” بقوله: “ان طريقتي الديالكتيكية من حيث أساسها لا تختلف عن طريقة هيغل وحسب، بل تناقضها بصورة مباشرة. وبالنسبة إلى هيغل فان عملية التفكير، التي يحولها تحت اسم الفكرة الى ذات مستقلة، هي ديميورغ [خالق، مبدع] الواقع الذي لا يشكل سوى مجرد مظهر لتجليها الخارجي. أما عندي فعلى العكس، فالمثالي ما هو الا مادي منقول الى رأس الانسان ومحول فيه.

ولقد انتقدت الجانب الصوفي من ديالكتيك هيغل قبل حوالي 30 عاماً حينما كان هذا الديالكتيك لا يزال على الموضة (…) فالديالكتيك يقف على رأسه عند هيغل. بينما ينبغي إيقافه على قدميه بغية الكشف عن اللب العقلاني تحت القشرة الصوفية.

لقد أصبح الديالكتيك بشكله الصوفي موضة ألمانية، لأنه بدا وكأنه يمجد الأوضاع القائمة. وان الديالكتيك بشكله العقلاني لا يثير لدى البرجوازية وايديولوجييها المتحذلقين الجامدين سوى الحقد والذعر، اذ أنه يتضمن الى جانب الفهم الإيجابي لما هو موجود فهم نفيه أيضا وهلاكه المحتوم، وينظر الى كل شكل مجسد من خلال الحركة، وبالتالي من خلال جانبه العابر أيضاً، والديالكتيك لا يعبد أي شيء وهو انتقادي وثوري من حيث جوهره ذاته” (كارل ماركس، رأس المال، ترجمة فهد كم نقش، مج1، ج1، دار التقدم، موسكو، 1985). 

أعطى ماركس في ضوء منهجيته المادية العلمية للوعي والفكر طابعهما المادي بتحديده ” ليس وعي الناس هو الذي يُحدّد وجودهم، بل على العكس، وجودهم الاجتماعي يُحدّد وعيهم”، وللتاريخ مفهومه المادي العلمي، فتطور المجتمعات يقوم على أسباب اجتماعية – اقتصادية وليس على التحليلات والأفكار الفردية المحضة المنفصلة، عن الواقع الاجتماعي الذي أنتجها وتناقضاته. لقد اكتشف ماركس قانون تطور التاريخ البشري.

انتقد كارل ماركس الاقتصاد السياسي، وبلغ نتاجه ذروة تطوره الذي يعكس تطور فكره، في كتابه “رأس المال” الذي حلل فيه نمط الإنتاج الرأسمالي وآليات تطوره، وتناقضاته، وأساس الاستغلال الذي يكرسه. ومن نظريات كارل ماركس الرائدة “نظرية القيمة الزائدة” التي من خلالها كشف كيف تُستَغَل الطبقة العاملة وتحقق البرجوازية ربحها وتعظمه بسلب كدح الطبقة العاملة. 

في نتاجه أعطى كارل ماركس البُعد المحوري للصراع الطبقي ومفهومه ودوره في النضال الثوري، مؤكداً أن “الصراع الطبقي هو محرِّك التاريخ”، وكشف كيف أن علاقات الإنتاج الرأسمالية تعيق تطور القوى المنتجة فتدخل “قوى الإنتاج المادية في المجتمع، بدرجة معينة من تطورها، بصراع مع علاقات الإنتاج الموجودة (…)، التي تتحوّل إلى عوائق لتطورها، ثمَّ تأتي مرحلة الثورة الاجتماعيّة”، على علاقات الإنتاج الرأسمالية ونظامها للانتقال من نمط الإنتاج الرأسمالي وعلاقاته إلى نمط إنتاج نقيض له، النمط الاشتراكي. هي ثورة تنبع من واقع الاستغلال ترتبط بالشروط المادية التاريخية الموجودة فيها، وليست فعلاً يفرض من فوق الواقع وتناقضاته. 

ماركس في سطور:

ولدَ كارل ماركس في الخامس من أيَّار/ مايو العام 1818 في مدينة ترير بإقليم الرين. وبعد إتمامه للمرحلة الثانوية التحق بكلية الحقوق في جامعة بون، ثم في جامعة برلين. وبدأ بكتابة أطروحته للدكتوراه، وهي أول بحث أكاديمي له، في عام 1839، وكانت بعنوان: “الفرق بين الفلسفة الطبيعية عند ديموقريطس وأبيقور” وحصل على درجة الدكتوراه عام 1841، من كلية الفلسفة في جامعة يينا.

كارل ماركس في سن الـ 18 سنة خلال سنته الجامعية الأولى في جامعة بون

عمل كارل ماركس في الصحافة، فقد كان محرراً في صحيفة الراين، ومن ثم تولى رئاسة تحريرها في تشرين الأول/ أكتوبر عام 1842، لكن الجريدة مُنعت من الإصدار في بداية عام 1843، ثم عمل بعد ذلك مراسلاً لصحيفة “نيويورك تريبيون”.

في 19 حزيران/ يونيو العام 1843 تزوج ماركس من جيني فون ويستفالين التي توفيت عام 1881 أي قبل وفاة زوجها بعامين. 

جيني فون ويستفالين زوجة كارل ماركس. الصورة تعود للعام 1836

وفي عام 1847 تولى ماركس رئاسة فرع “عصبة الشيوعيين” في بروكسيل، وأسس “جمعية العمال الألمان” فيها. وفي نهاية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1847 انعقد المؤتمر الثاني “لعصبة الشيوعيين” في لندن الذي كلفه مع رفيق دربه، انجلز، صوغ بيان “الحزب الشيوعي“. يشار إلى أن انجلز أقنع “عصبة الشيوعيين” بتغيير شعارها خلال حضوره مؤتمرها الأول، إلى الشعار النداء – الأممي: “يا عمال العالم اتحدوا“. 

في عام 1864 أسس ماركس الأممية الأولى التي هدفها توحيد صفوف الحركة العمالية في أوروبا ضد النظام الرأسمالي، وترأسها من عام 1866 إلى عام 1872.

وبسبب مواقفه السياسية وكتاباته وانخراطه في الحياة الثورية والنضال الطبقي، جُرد ماركس من جنسيته البروسية، وتعرض للقمع وللعديد من قرارات إبعاده من البلدان التي كان يعيش فيها، فلقد اضطر للجوء إلى فرنسا، وبلجيكا، وأخيراً إلى بريطانيا التي استقر فيها حتى وفاته. 

كتبت زوجة كارل ماركس، جيني فون ويستفالين، ذكريات عن حياة ماركس العائلية وواقع الفقر والبؤس الذي عانت منه العائلة، وكيف أن ماركس، وبالرغم من كل ذلك، لم يتوقف عن الكتابة والنضال، والاهتمام بالعائلة. ذكريات وصلت فيها جيني ماركس حتى العام 1865. وهي بعنوان: “عجالة موجزة عن حياة مضطربة“، منشورة في مجلة “الطريق” اللبنانية، عدد خاص 2/3، حزيران/ يونيو 1984. 

كتبت جيني في ذكرياتها، عن قرار طرد ماركس من فرنسا، أنه في أوائل عام 1845 “جاء فجأة مفوض للشرطة وأبرز قرار الطرد الذي اتخذه غيرو بدافع من الحكومة البروسية. وكان هذا القرار ينص على أنه ”يجب على كارل ماركس ان يغادر باريس خلال أربع وعشرين ساعة“. أما أنا فقد أعطيت لي بشكل شخصي مهلة اطول فاستفدت منها لأبيع أثاث المنزل وقسما من ملابسنا” (مجلة الطريق، ص. 316). 

وعن الأوضاع في بلجيكا التي لجأ إليها كارل ماركس بسبب قرار إبعاده من فرنسا، كتبت جيني أنه في تلك الفترة بدأت فيها بوادر ثورة قمعتها السلطة البلجيكية “فاستنفرت كل القوى ودعيت للنجدة: الشرطة والجيش والحرس المدني. وحينئذ قرر العمال الألمان أن الوقت قد حان ليحملوا السلاح أيضاً. فأخذوا يحصلون على الخناجر والمسدسات، وكان كارل يقدم المال طوع ارادته، إذ أنه كان قد استلم منذ وقت قليل حصته من تركة أهله. ورأت الحكومة في كل ذلك مؤامرة تحاك على سلامتها. كان ماركس يتلقى المال ويشتري سلاحاً، فلا بد اذن من طرده خارج البلاد. ذات يوم، في وقت متأخر من الليل، اقتحم بيتنا رجلان وطلبا كارل. ولما قدم نفسه اليهما ابرزا له صفتهما بأنهما من رجال البوليس ولديهما أمر بتوقيف كارل واقتياده الى الاستجواب. فساقاه تحت جنح الظلام. وامتلأت نفسي بالذعر، فخرجت أعدو وراءه أبحث عن أشخاص من ذوي النفوذ والحظوة لأعرف جلية الأمر. كنت أجري في ظلمة الليل من بيت إلى بيت، وفجأة قبض عليَّ الحرس وأوقفوني ثم زوجوا بي في غياهب السجن. كان فيه كثير من النساء: من مشردات ونساء مسكينات خاطئات ونساء لا مأوى لهن… وألقوا بي في زنزانة مظلمة دخلتها وأنا انتحب، فقدمت لي احدى رفيقاتي في البؤس فراشها وهو سرير من ألواح خشبية. فتهاويت عليه ورحت في لجّة النوم. ومنذ الفجر لمحت نافذة قبالتي ووراء قضبان الحديد وجه كئيب، شاحب شحوب الموت، فدنوت من النافذة فرأيت صديقنا الحميم جيغو وعندما أبصرني أراني بالاشارة مكانا في الأسفل، فنظرت اليه فإذا كارل هناك، وفي تلك اللحظة بالضبط أخرجه الجنود مخفوراً، واخذت بعد ساعة الى قاضي التحقيق.

وبعد استجواب دام ساعتين لم يؤخذ مني شيء، وضعني أحد رجال الدرك في عربة وأخرجني. وفي المساء عدت الى أطفالي الثلاثة المساكين (…). ثم أفرج عن كارل وعاد بعد قليل، وقد امر بمغادرة بركسيل بالحال.

وقد سبق أن كان في نية كارل أن يعود الى باريس، فطلب من الحكومة الموقتة أن تلغي قرار الطرد الذي اتخذ في عهد لويس فيليب، فسرعان ما تلقى رسالة موقعة من قبل فلوكون تعلمه فيها الحكومة الموقتة بألطف العبارات ان القرار قد ألغي، وبالتالي، فتحت لنا أبواب باريس من جديد لنعود إليها، وأي مكان كان أفضل لنا من ذلك المكان الذي أشرقت فيه شمس الثورة الجديدة منذ عهد قريب”. (المرجع نفسه ص. ص. 316-317).

تعرض كارل ماركس خلال إقامته في باريس التي لحقته إليها جيني في تموز/ يوليو عام 1849، للمضايقات، كتبت جيني أنه في “صبيحة يوم من الأيام رأينا شبح رجل معروف يظهر لنا مرة ثانية. انه رقيب الشرطة، يحمل قراراً يأمر كارل ماركس وزوجته بمغادرة باريس خلال أربع وعشرين ساعة”. (المرجع نفسه، ص. 318) وغادرا إلى لندن.

تختصر جيني ذكرياتها مع كارل ماركس، بقولها إن “ذكريات الأيام التي أمضيتها في غرفة كارل الصغيرة وأنا أنسخ مقالاته بخط واضح، تلك الذكريات ما تزال من أسعد ذكريات عمري” (المرجع نفسه ص. ص. 319-320).

توفي كارل ماركس في الرابع عشر من شهر آذار/ مارس العام 1883، في إنكلترا بعد صراع مع المرض، ودفن في هايغيت Highgate في لندن يوم 17 آذار/ مارس 1883.

راهنية مدهشة

من النصوص المدهشة في النظرية الماركسية، بتحليل الرأسمالية وتطورها الاستغلالي والظواهر المرتبطة بها وسعيها الدائم للبحث عن أسواق جديدة لتعظيم أرباحها بجميع الأشكال، نص في “البيان الشيوعي” مدهش في راهنيته:

“إن البرجوازية لا تعيش الا إذا أدخلت تغييرات ثورية مستمرة على أدوات الانتاج، وبالتالي على علاقات الانتاج، أي على العلاقات الاجتماعية بأسرها(…). فهذا الانقلاب المتتابع في الانتاج، وهذا التزعزع الدائم في كل العلاقات الاجتماعية، وهذا التحرك المستمر وانعدام الاطمئنان على الدوام، كل ذلك يميز عهد البرجوازية عن كل العهود السالفة؛ فان كل العلاقات الاجتماعية التقليدية الجامدة، وما يحيط بها من مواكب المعتقدات والافكار، التي كانت قديماً محترمة مقدسة، تنحل وتندثر؛ اما التي تحل محلها فتشيخ ويتقادم عهدها قبل ان يصلب عودها. وكل ما كان تقليدياً ثابتاً يطير ويتبدّد كالدخان (…) ويضطر الناس في النهاية الى النظر الى ظروف معيشتهم وعلاقاتهم المتبادلة بعيون يقظة لا تغشاها الأوهام.

وبدافع الحاجة الدائمة الى اسواق جديدة تنطلق البرجوازية الى جميع انحاء الكرة الارضية. فينبغي لها أن تدخل وتتغلغل في كل مكان، وتوطد دعائمها في كل مكان، وتقيم الصلات في كل مكان.

وباستثمار السوق العالمية تصبغ البرجوازية الانتاج والاستهلاك في كل الأقطار بصبغة كوسموبوليتية. وتنزع من الصناعة اساسها الوطني، بين يأس الرجعيين وقنوطهم، فتنقرض الصناعات الوطنية التقليدية القديمة او تصبح على وشك أن تنقرض. وتحل محلها صناعات جديدة، يصبح ادخالها وتعميمها مسألة حيوية لكل الامم المتمدنة، صناعات لم تعد تستعمل المواد الاولية المحلية وحسب، بل ايضاً المواد الاولية الآتية من ابعد مناطق العالم ولا تستهلك منتجاتها في داخل البلاد نفسها وحسب، بل ايضاً في جميع انحاء المعمورة. وتتولد، بدلاً من الحاجات القديمة التي كانت تكفيها المنتجات الوطنية، حاجات جديدة تتطلب لكفايتها منتجات اقصى الاقطار ومختلف المناخات. ومكان الانعزال المحلي والوطني السابق والاكتفاء الذاتي، تقوم بين الامم صلات شاملة وتصبح الأمم متعلقة بعضها ببعض في كل الميادين. وما يقال عن الانتاج المادي ينطبق ايضاً على الانتاج الفكري. فثمار النشاط الفكري عند كل امة تصبح ملكاً مشتركاً لجميع الامم. ويصبح من المستحيل اكثر فاكثر على اية امة ان تظل محصورة في افقها الضيق ومكتفية به (…).

  وتجر البرجوازية إلى تيار المدنية كل الامم، حتى أشدها همجية، تبعاً لسرعة تحسين جميع ادوات الانتاج وتسهيل وسائل المواصلات إلى ما لا حد له. فان رخص منتجاتها هو في يدها بمثابة مدفعية ضخمة تقتحم وتخرق كل ما هنالك من أسوار صينية، وتنحني امامها رؤوس أشد البرابرة عداء وكرهاً للاجانب. وتجبر البرجوازية كل الامم، تحت طائلة الموت، ان تقبل الاسلوب البرجوازي في الانتاج وان تدخل إليها المدنية المزعومة، اي ان تصبح برجوازية. فهي، بالاختصار، تخلق عالماً على صورتها ومثالها” (كارل ماركس، فريدريك انجلس، بيان الحزب الشيوعي، دار التقدم، موسكو، ص. ص 44-46).

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

هذه تحيتي الثانية إليكِ..

رسالة لأهالي غزة من أرشيف المفكر الشهيد حسين مروة في عام 1957 بعنوان:” تحية إلى أهل غزة”