في التاريخ الفلسطيني لعبت المرأة الفلسطينية أدواراً محورية في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي سياسياً وثقافياً واجتماعياً وعسكرياً، وكان حضور النساء ملحوظاً في المقاومة ضد الاحتلال البريطاني والصهيوني، كانت مشاركة النساء الفلسطينيات في أول ثورة للشعب ضد الانتداب البريطاني في عام 1920 واضحاً وجلياً في المظاهرات التي عمت أرجاء فلسطين في فبراير /شباط ، وشاركت في الوفد الذي التقى المندوب السامي البريطاني للمطالبة بإلغاء وعد بلفور. بعدها شكلت النساء أول اتحاد نسائي فلسطيني عام 1921 بقيادة زليخة الشهابي، تلك البدايات المبكرة مهدت الطريق لنزول المرأة الفلسطينية إلى ميدان المعركة في الاضراب الكبير عام 1936 ليس في المدن الكبيرة، بل أيضاً في الريف الفلسطيني ليس على مستوى العمل اللوجستي والخدمات التي كانت تقدمها لرجال المقاومة، بل شاركت في نقل الأسلحة الخفيفة والمؤن والذخيرة، وفي عام 1948 قامت النساء بأعمال المقاومة، لقد كن عضوات في جميع الأحزاب السياسية الفلسطينية وساهمن في عدة مؤسسات سياسية مثل منظمة التحرير الفلسطينية، والجمعيات النسائية والمجلس التشريعي بعد 1996.
على طول التاريخ الفلسطيني الذي حرص المؤرخون على تدوين تاريخ المرأة الفلسطينية ومشاركتها في الفضاء العام والخاص، لكن ظل التدوين عن دورها النضالي قاصراً على فترة الثورة الفلسطينية وما بعدها التي انطلقت في نهاية الستينيات، بينما ظل دورها في الحقب السابقة شحيحاً ومتوارياً عن التاريخ الرسمي، لذا اعتبر التاريخ الشفوي أداة مقاومة فعّالة في مواجهة محاولات الاستعمار الإسرائيلي لطمس الهوية الفلسطينية، حيث يمثل وسيلة لاستعادة الروايات الأصلية وإعادة بناء الذاكرة الوطنية التي تحاول الأنظمة الاستعمارية محوها. لا سيما في توثيق نضالات المرأة الفلسطينية التي لعبت دوراً رئيسياً في الحفاظ على الذاكرة الجماعية وصياغة الهوية الوطنية، سواء عبر التاريخ المكتوب أو الروايات الشفوية (Haj, 2001).
تبرز قضية تهميش النساء الفلسطينيّات في الخطاب السائد حول المقاومة. فقد اعتادت السرديات الرسمية تقديم الصورة الأكثر نمطية للمقاومة التي تركز على الأبطال الذكور. لكن التاريخ الشفوي الفلسطيني يتيح فرصاً لتسليط الضوء على الأدوار الريادية التي لعبتها النساء في المقاومة. من خلال الشهادات الشفوية، نكتشف العديد من القصص عن النساء اللاوتي قاومن الاحتلال الإسرائيلي عبر مختلف الوسائل، بدءاً من التنظيم السري للمظاهرات، وصولاً إلى العمل الميداني في توزيع المنشورات أو نقل الأسلحة. ومن خلال نقل هذه القصص، يعيد التاريخ الشفوي بناء الصورة الكاملة للمقاومة الفلسطينية ويكسر الصورة النمطية التي تُغيّب دور النساء. ( بيسان عدوان، العربي الجديد، 2022)
التاريخ الشفوي كمصدر للمقاومة
يمثل التاريخ الشفوي مصدراً رئيسياً للمقاومة في السياق الفلسطيني. فالتاريخ الشفوي لا يقتصر على الروايات الشفوية فقط، بل يشمل المذكرات، والصور، والأفلام، والأرشيفات العائلية، وسجلات النفوس الرسمية. يعد هذا التاريخ أداة فعالة في الحفاظ على الهوية الفلسطينية في ظل الاحتلال، وهو ما أكده العديد من الباحثين والمفكرين، من بينهم ليلى أبو لغد في دراستها حول القوة السياسية للذاكرة Abu) Lughod, 1993 ). يساهم التاريخ الشفوي في نقل تجربة الشعب الفلسطيني بكل تفاصيلها الإنسانية والتاريخية، وهو بذلك يشكل نوعاً من المقاومة الثقافية التي تحارب محاولات الاحتلال الإسرائيلي لطمس الهوية الفلسطينية.
من بين الأعمال المتميزة التي أثرت في هذا المجال، تبرز مذكرات عنبرة سلام الخالدي “جولة في الذكريات بين لبنان وفلسطين. (Khalidi, 1978) “ هذا الكتاب يقدم لنا وصفاً تفصيلياً لدور النساء في فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، ويستعرض كيف كانت النساء الفلسطينيات مشاركات في شتى ميادين الحياة الاجتماعية والسياسية. تروي الخالدي في مذكراتها تجاربها الشخصية في التعليم والعمل الاجتماعي والسياسي، موضحة كيف شكلت النساء الفلسطينيّات عاملاً مهماً في الحفاظ على استمرارية الحياة تحت الاحتلال البريطاني، رغم الظروف القاسية.
أما السيرة الذاتية للعالمة الصوفية فاطمة اليشرطية “مسيرتي في طريق الحق” (Yashruti, 1993)، فتقدم رؤية جديدة حول كيفية مقاومة النساء للاستعمار العثماني والبريطاني. تشير اليشرطية في مذكراتها إلى أن المقاومة لم تكن مقتصرة على العمل السياسي أو الاجتماعي فحسب، بل شملت الممارسات الدينية والمعرفية أيضاً. هذا البُعد الروحي والمعرفي يُظهر كيف أن النساء الفلسطينيات لم يكن فقط يقاومن على الأرض، بل كن يساهمن في الحفاظ على الهوية الثقافية والدينية في مواجهة محاولات الاستعمار لطمسها.
علاوة على ذلك، تبرز مذكرات وديعة قدورة خرطبيل (Khartabil, 1989) وسيرين الحسيني شهيد (Shahid, 1998) كأمثلة أخرى على أهمية الرواية النسائية في توثيق النكبة الفلسطينية وتهجير الفلسطينيين عام 1948. تقدم خرطبيل وشهيد شهادات حية عن تجاربهن في زمن النكبة، حيث تم تهجيرهن من أراضيهن في فلسطين، وتكشف مذكراتهن عن معاناتهن جراء الاحتلال والمجازر التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية. كما تبرز تجارب النساء الفلسطينيات في الشتات كجزء أساسي من المقاومة الثقافية التي تهدف إلى الحفاظ على الهوية الفلسطينية.
أدوار المقاومة المخفية:
التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للنساء الفلسطينيات
على الرغم من الدور المهم الذي لعبته النساء الفلسطينيات في نضال الشعب الفلسطيني، فقد ظل تاريخهن الاجتماعي والاقتصادي مهمشاً لفترة طويلة. في العقود الأولى من القرن العشرين، كانت المعلومات حول أدوار النساء الفلسطينيات شحيحة ومحدودة، وغالباً ما كانت تقتصر على تدوينات نساء الطبقات العليا من المجتمع، مثل النخبة الحضرية. هذا الاختزال في السرد التاريخي أدى إلى إغفال العديد من جوانب تجربة النساء الفلسطينيات، خاصة في الريف والمناطق التي تعرضت لاحتلالات مختلفة. ومع ذلك، بدأت محاولات توثيق تجارب النساء الفلسطينيات في القرن العشرين تأخذ شكلاً أوسع من خلال دراسات وأعمال أكاديمية تناولت تأثير النكبة على حياتهن، بالإضافة إلى مساهماتهن في المقاومة الوطنية.
في سياق ذلك، كان كتاب متيل مغنم “المرأة العربية والمشكلة الفلسطينية” (Moughannam, 1937) من بين أبرز المحاولات المبكرة لتوثيق الأدوار الاجتماعية للنساء الفلسطينيات. من خلال هذا الكتاب، حاول مغنم ربط المسائل النسائية في فلسطين بالصراع الوطني، مبرزاً دور المرأة في الحياة السياسية والاجتماعية، وفي مقاومة الاحتلال البريطاني. لكن، على الرغم من هذه المبادرات، ظل الحديث عن دور المرأة الفلسطينية في النضال الوطني محدوداً، وغالباً ما كان يقتصر على الفضاء الاجتماعي للنساء من الطبقات العليا.
أما كتاب فاطمة قاسم “النساء الفلسطينيات (Qasim, 2011)”، فقد أضاف بعداً جديداً في توثيق تاريخ النساء الفلسطينيات من خلال مقابلات مع 37 امرأة فلسطينية من اللد والرملة. هذا الكتاب يُعد من أهم الأعمال التي تناولت تجارب النساء في النكبة الفلسطينية، ويسلط الضوء على تأثير التشريد والنكبة على حياتهن. تركز قاسم في دراستها على كيف كانت النساء في المدن الكبرى جزءاً لا يتجزأ من النضال الفلسطيني، وكيف شاركن في مقاومة الاستعمار البريطاني، وكيف كانت التحديات الاقتصادية والاجتماعية تشكل جزءاً من تجاربهن اليومية.
ومع تطور الحركة النسائية الفلسطينية في القرن العشرين، برزت فيحاء عبد الهادي كأحد الأسماء اللامعة في توثيق أدوار النساء الفلسطينيات في مختلف الحقب التاريخية. من خلال كتبها مثل “أدوار المرأة الفلسطينية في الثلاثينيات”، و”أدوار المرأة الفلسطينية منذ منتصف الستينيات حتى عام 1982” (Abdel Hadi, 2015)، قامت عبد الهادي بإجراء مقابلات مع 50 امرأة فلسطينية من الشتات الفلسطيني. هذه المقابلات شكلت مادة أساسية لفهم أعمق لدور المرأة الفلسطينية في النضال الوطني، وخاصة في فترات تصاعد المقاومة المسلحة والتحديات الاقتصادية التي واجهتها العائلات الفلسطينية خلال فترة الاحتلال.
المرأة الفلسطينية والانتفاضات الشعبية:
تاريخ مقاوم في الزمن الحاضر
لقد كان للمرأة الفلسطينية دور محوري في تاريخ المقاومة الفلسطينية، خاصة في الانتفاضات الشعبية التي شهدتها فلسطين على مدار العقود الأخيرة. بدأ دور النساء في الانتفاضات الفلسطينية بالظهور بشكل واضح في انتفاضة الحجارة (1987-1993)، حيث شاركت النساء في مختلف مجالات النضال، من التظاهرات والاحتجاجات إلى الأعمال اللوجستية التي ساهمت في دعم المقاومين. وقد برزت تلك المشاركة في العديد من الأدوار التي كانت تعد تقليدياً خارج نطاق مشاركة النساء في السياسة والمقاومة المسلحة.
خلال انتفاضة الحجارة، التي انطلقت عام 1987، قامت النساء الفلسطينيات بأدوار متنوعة، وكانت مشاركتهن في التظاهرات والمواجهات مع الاحتلال الإسرائيلي محورية. لم تقتصر مشاركة النساء على التعبير عن الرفض الشعبي من خلال الاحتجاجات والمظاهرات، بل شملت أيضاً العمل اللوجستي والإنساني. النساء قمن بدور كبير في إيصال المواد الغذائية والمساعدات للمقاومين الذين كانوا يواجهون قوات الاحتلال. كما شاركت العديد من النساء في رفع الشعارات الوطنية، وفي الاحتكاك المباشر مع الجنود الإسرائيليين في بعض المناطق، مما أكسبهن دوراً حيوياً في الانتفاضة الشعبية Johnson &) Kuttab, 2001).
هذه المشاركة الواسعة للنساء الفلسطينيات كانت تتسم بالتحدي والمقاومة في مواجهة قمع الاحتلال، وتمثل شكلاً من أشكال المقاومة اليومية التي لعبت دوراً أساسياً في استمرارية الانتفاضة. سعت العديد من النساء إلى نقل الرواية الفلسطينية إلى العالم الخارجي، فكنّ يشاركن في وسائل الإعلام المحلية والعالمية، ويقمن بتنظيم الفعاليات والمظاهرات في المخيمات الفلسطينية وفي مختلف مدن الضفة الغربية وقطاع غزة.
أما في انتفاضة الأقصى (2000-2005)، فقد اتخذ دور النساء الفلسطينيّات منحى أكثر تصعيداً وظهوراً في النشاطات العسكرية والسياسية. لم تقتصر مشاركة النساء على التظاهرات والاعتصامات، بل إن بعضهن شاركن في العمليات الفدائية، حيث ظهرت واحدة من أبرز الرموز النسائية في هذه الفترة: الشهيدة وفاء إدريس. في 27 يناير 2002، نفذت وفاء إدريس عملية فدائية في القدس، لتصبح أول امرأة فلسطينية تستشهد في عملية فدائية استهدفت الاحتلال الإسرائيلي (Hasso, 2005). حملت وفاء إدريس رمزية كبيرة في الوعي الشعبي الفلسطيني، حيث تجسد مقاومة الاحتلال ليس فقط على المستوى العسكري، ولكن أيضاً من خلال تجسيد صورة المرأة المقاوِمة التي كانت غالباً ما تُغيب في السرديات الرسمية.
علاوة على ذلك، أظهرت النساء الفلسطينيات في انتفاضة الأقصى قدرة على التنظيم السياسي والاجتماعي، من خلال إنشاء وتفعيل مجموعات نسوية تعمل على تعزيز الوعي الوطني والدعم اللوجستي للمجاهدين. كما كان للمرأة الفلسطينية دور بارز في تقديم الدعم المعنوي والمادي لذوي الشهداء والأسرى، ما أسهم في تقوية الروح المعنوية لدى الشعب الفلسطيني ككل.
المرأة الفلسطينية في المقاومة الشعبية الحديثة
لم تقتصر مقاومة المرأة الفلسطينية على الفترات السابقة فقط، بل امتد دور النساء الفلسطينيات إلى ما بعد الانتفاضات الكبرى، خاصة في الأحداث الأخيرة التي شهدتها فلسطين في العقد الأخير. ففي عام 2021، تم تسليط الضوء على دور النساء في أحداث الشيخ جراح، حيث قادت العديد من الناشطات الفلسطينيات حملات إعلامية على منصات التواصل الاجتماعي، وكان لهن دور كبير في فضح انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في حي الشيخ جراح. حملت النساء في تلك اللحظات مهمة إعلامية كبيرة، إذ كنّ يواجهن عمليات تهجير وتضييق من قبل الاحتلال، بينما أصبحن في نفس الوقت حاملات رسالة المقاومة ضد الاستيطان والتهجير القسري (El Kurd, 2022).
كما كان للنساء دور بارز في مقاومة الاحتلال خلال “طوفان الأقصى” عام 2023. في هذا السياق، لعبت النساء الفلسطينيات دوراً أساسياً في المقاومة اللوجستية والإعلامية، من خلال تنظيم الحملات لتوثيق الانتهاكات الإسرائيلية، ونقل الصور والمعلومات حول جرائم الحرب التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة. وقد تم توثيق العديد من هذه الانتهاكات من قبل نساء ناشطات في مجال حقوق الإنسان، اللاتي استخدمن وسائل الإعلام الرقمية لتوثيق ما وصفه البعض بالإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين (Pappe, 2023).
كان هذا الدور الإعلامي حاسماً في تكوين الوعي الدولي بقضية الشعب الفلسطيني، إذ عبرت النساء الفلسطينيات عن معاناتهن اليومية تحت وطأة الاحتلال، مما جعل العالم يشهد حجم الانتهاكات التي تُرتكب بحق المدنيين الفلسطينيين. وفي هذا السياق، أصبح التاريخ الشفوي النسوي مصدراً حيوياً للأدلة والشهادات التي تُوثق أحداث الاحتلال، كما ساعد في تشكيل صورة المقاومة النسوية التي تكشف عن أبعادها الإنسانية والاجتماعية.
يمكننا القول إن التاريخ الشفوي هو أداة مقاومة فاعلة ضد محاولات الاستعمار الإسرائيلي لطمس الهوية الفلسطينية. من خلال التوثيق الشفوي للانتهاكات، ويعيد بناء ما يحاول الاستعمار تدميره من خلال سردياته الخاصة، وتظل المرأة الفلسطينية حارسة تلك التاريخ وحاملة شعلة المقاومة بكل أشكالها، ليظل الحق الفلسطيني حياً، ويُمرر من جيل إلى جيل حتى تحرير كل فلسطين.
المراجع
- Abu-Lughod, L. (1993). Writing Women’s Worlds: Bedouin Stories. University of California Press.
- Abdel Hadi, F. (2015). Roles of Palestinian Women in the 1930s-1980s. Institute for Palestinian Studies.
- El Kurd, D. (2022). Polarized and Demobilized: Legacies of Authoritarianism in Palestine. Oxford University Press.
- Haj, S. (2001). Women and Palestine: Narratives of Displacement. Syracuse University Press.
- Hasso, F. (2005). Resistance, Repression, and Gender Politics in Occupied Palestine and Jordan. Syracuse University Press.
- Johnson, P., & Kuttab, E. (2001). Where Have All the Women (and Men) Gone? Reflections on Gender and the Second Palestinian Intifada. Feminist Review, (69), 21-43.
- Khalidi, A. S. (1978). Memoirs: A Journey through Memories between Lebanon and Palestine. Dar Al-Nahar.
- Khartabil, W. Q. (1989). My Life in Palestine. Institute for Palestinian Studies.
- Moughannam, M. (1937). The Arab Woman and the Palestinian Problem. London.
- Pappe, I. (2023). Genocide in Gaza: A Historical Perspective. Verso Books.
- Qasim, F. (2011). Palestinian Women: Narratives of 1948. Institute for Palestinian Studies.
- Shahid, S. H. (1998). Jerusalem Memories: A Palestinian Woman’s Story. Institute for Jerusalem Studies.
- Yashruti, F. (1993). My Journey on the Path of Truth. Sufi Press.