المرأة العاملة في الكويت بين تهميش النقابات واغتراب الحراك النسوي: نحو مسار نقابي أكثر عدالةً 

-+=

مقدمة

رغم مرور أكثر من ستة عقود على نشأة العمل النقابي والمؤسسات النسائية في الكويت، لا تزال المرأة العاملة تقف على هامش المسارين معاً، بلا تمثيل حقيقي داخل النقابات، ولا صوت فعَّال داخل الحراك النسوي الرسمي.

فالتمثيل النقابي ظلَّ محصوراً في الذكور، وتحوّلت النقابات إلى أطر تقليدية تشتغل على قضايا الأجور والاستقرار الوظيفي من منظور طبقي ذكوري، دون اعتبار للتمييز البنيوي الذي تواجهه النساء في سوق العمل.

وفي المقابل، فإن الجمعيات النسائية ركّزت على التثقيف وقضايا الأسرة، أو تمحورت حول خطاب “تمكين المرأة” الذي يخاطب النخب، ويتجاهل تماماً واقع النساء العاملات، خاصة في القطاعات غير الرسمية أو الهامشية.

هذا الانفصال بين الحراكَين النقابي والنسوي، والذي تراكم عبر الزمن، أنتج فراغاً سياسياً وتنظيمياً واسعاً، ترك النساء العاملات دون مظلة نضالية حقيقية تعبّر عن مصالحهن، أو تدافع عن حقوقهن.

في هذا المقال، نسلّط الضوء على هذا الفراغ، ونناقش أسبابه وتجلياته في السياق الكويتي، كما نطرح أسئلة حول الحاجة إلى مسار نقابي أكثر عدالة وشمولاً، يُعيد رسم الأولويات، ويُعيد بناء الهياكل من الداخل، ويفتح المجال أمام النساء العاملات ليمارسن دوراً نضالياً من موقع القوة لا من موقع الضحية.

 نقابات بلا نساء: تاريخ التمثيل الناقص

منذ بداياتها في ستينيات القرن الماضي، تأسست النقابات العمالية في الكويت ضمن مناخ سياسي اتسم بالحراك الوطني والاهتمام بقضايا العدالة الاجتماعية. لكن رغم طابعها التقدمي، إلَّا أن اهتماماتها انحصرت في تحسين الأجور إلى تثبيت الحقوق الوظيفية للذكور، دون أي حضور يُذكر للنساء في صفوفها أو قياداتها.

ومع دخول أعداد متزايدة من النساء إلى سوق العمل، لم تُحدث النقابات أي تحوّل جوهري في بنيتها أو في خطابها. ظلّ العمل النقابي محصوراً في دوائر ذكورية مغلقة، تنظر إلى قضايا النساء العاملات على أنها “اجتماعية” لا تستحق أن تُدرج ضمن جدول الأعمال النقابي.

وقد يُقال بإن غياب النساء عن النقابات في تلك المرحلة – أي خلال الستينيات- كان يُعزى جزئياً إلى واقع سوق العمل آنذاك، حيث كانت أعداد النساء العاملات محدودة، لكن حتى في ذلك السياق، كان من المفترض أن يشكّل وجود النساء، ولو بأعداد قليلة، دافعاً لطرح قضاياهن وتمثيلهن نقابياً.

أما اليوم، بعدما أصبحت النساء يشكّلن أكثر من نصف القوى العاملة، فإن استمرار هذا التهميش لم يعد له أي مبرر.

حتى حين بدأت بعض النقابات بإنشاء “لجان نسائية”، جاءت هذه الخطوة أقرب إلى “ديكور تنظيمي” منها إلى آلية تمكين حقيقية. فقد أُسندت إليها مهام شكلية مثل تنظيم أنشطة جانبية كاحتفاليات المناسبات العامة والمبادرات الخيرية، دون أي صلاحيات للتفاوض أو التأثير على السياسات الداخلية للنقابة.

يُضاف إلى هذا الإقصاء القائم على النوع الاجتماعي، تهميشٌ آخر لا يقلّ عمقًا: وهو المنع القانوني لانخراط العمالة غير الكويتية في العمل النقابي. فالقوانين السارية لا تسمح للمقيمين والمقيمات بالانضمام إلى النقابات أو الترشح داخل هياكلها، رغم أنهم يشكّلون الغالبية الفعلية من القوى العاملة في قطاعات حيوية كالتعليم، الرعاية الصحية، والعمالة المنزلية.

هذا التمييز المزدوج – على أساس النوع والمواطنة – جعل من النساء العاملات غير الكويتيات الفئة الأكثر هشاشة، والأقل تمثيلاً، والأبعد عن أدوات الدفاع عن حقوقهن، سواء داخل النقابات أو خارجها.

 الحراك النسوي المؤسساتي: من التثقيف إلى التمكين الرمزي

بالتوازي مع نشوء النقابات، شهدت الكويت في الستينيات أيضاً تأسيس أولى الجمعيات النسائية، مثل الجمعية الثقافية الاجتماعية النسائية وجمعية النهضة. وقد مثّلت هذه الجمعيات النساء من الطبقة البرجوازية والوسطى، وانصبّ اهتمامها على قضايا التثقيف، والعمل الخيري، والدور الأسري، دون أن تنخرط فعلياً في قضايا النساء العاملات أو في ربط النضال النسوي بالسياق الاقتصادي والطبقي.

مع تصاعد التيارات الدينية في الثمانينيات، برزت جمعيات نسائية ذات طابع محافظ، مثل “جمعية بيادر السلام”، قدّمت تصوراً لدور المرأة محصوراً في المجال الأسري، بوصفها زوجة وأماً، وغابت تماماً عن خطابها مفاهيم المساواة، والتحرر، والنضال الاجتماعي.

لكن التسعينيات أعادت الزخم لقضية الحقوق السياسية للمرأة، خاصة بعد الغزو العراقي، حيث لعبت النساء أدواراً محورية في الدعم الشعبي والمجتمعي، بدأت تظهر مبادرات ميدانية جريئة، من إنشاء مكاتب اقتراع رمزية، إلى اعتصامات ومطالبات تشريعية شاركت فيها طالبات، موظفات، وناشطات من خلفيات ثقافية واجتماعية متعددة، بدعم من بعض التيارات السياسية والمجموعات الطلابية.

ثم جاءت محطة 2005، التي اعتُبرت علامة فارقة بإقرار حقَي التصويت والترشيح للنساء، ورغم أهمية هذا الإنجاز السياسي، إلَّا أن ما تلاه كان صعوداً لتيار نسوي نخبوي جديد، تبنّى خطاب “تمكين المرأة” كمطلب تنموي، يركّز على تعزيز حضور النساء في المناصب العليا ومجالس الإدارة، دون أن يتقاطع مع واقع النساء العاملات في القطاعات الدنيا أو الهامشية.

هذا التحوّل عمَّق من عزلة النساء العاملات، وتركهن خارج معادلة التأثير. ففي الوقت الذي تجاهلت فيه النقابات قضاياهن كأولويات نقابية، لم تقم الجمعيات النسائية بتمثيلهن بوصفهن فاعلات أساسيات في الحقل العام، بل غالباً ما اختُزل حضورهن في خطابات رمزية لا تمسّ واقعهن اليومي.

ما الذي يُقصي النساء من العمل النقابي؟

لا يكفي أن نتحدث عن غياب النساء داخل النقابات من زاوية الإحصاءات والتمثيل، بل من الضروري أن نحلّل الأسباب البنيوية والاجتماعية والسياسية التي تجعل انخراط النساء في الفعل النقابي معقّداً وهامشياً.

أول هذه الأسباب هو العقلية الذكورية المترسّخة داخل النقابات نفسها. ففي كثير من الأحيان، يُنظر إلى مشاركة المرأة في العمل النقابي على أنها استثناء لا قاعدة، أو على أنها ترف تنظيمي يُمنح للزينة لا للمنازعة. هذه النظرة تُنتج بيئة عمل لا ترحّب بالنساء كفاعلات أساسيات، بل تتعامل مع وجودهن كمجرّد “إضافة” تكميلية.

ثانياً، تلعب العوامل القانونية دوراً كبيراً في عرقلة مشاركة النساء، خصوصاً غير الكويتيات، اللواتي يُشكّلن النسبة الأكبر من القوة العاملة في القطاع الخاص. ورغم هذا الحضور الكثيف، تُقصى غير المواطنات من العمل النقابي بسبب القوانين التي تمنع انضمامهن أو تسجيل عضويتهن داخل النقابات، التي تقتصر رسمياً على الكويتيين والكويتيات فقط. هذا المنع الصريح يحرم قطاعاً واسعاً من النساء من أي أداة دفاع جماعية عن حقوقهن. 

 ثالثاً، تواجه النساء ضغطاً اجتماعياً مضاعفاً، لا سيما في الأوساط الاجتماعية المحافظة التي لا تزال ترى في النشاط العام – خصوصاً المرتبط بالاحتجاج والمطالبة – سلوكاً “ذكورياً”، أو غير لائق “بأنثى محترمة”. كثير من النساء يترددن في المشاركة خوفاً من نظرة المجتمع، أو من نظرة الأسرة، أو من تداعيات شخصية محتملة على سمعتهن.

رابعاً، تُثقل الأعباء المنزلية كاهل النساء وتحدّ من قدرتهن على الانخراط العام. فالموازنة بين العمل، والرعاية الأسرية، والنشاط النقابي تتطلب بيئة داعمة، لا توفرها لا المؤسسات ولا التشريعات، ولا حتى الثقافة المجتمعية.

أخيراً، لا يمكن إغفال غياب التكوين السياسي والنقابي الموجّه للنساء. فمعظم النقابات لا تستثمر في تدريب الكوادر النسائية أو تمكينهن تنظيمياً. وحتى من تمتلك الرغبة في الانخراط، كثيراً ما تُترك وحدها دون دعم، فتتراجع أو تُدفع للتهميش.

كل هذه العوامل – حين تتقاطع – لا تخلق فقط إقصاءً من الخارج، بل تبني داخلياً شعوراً بالعجز أو بعدم الأهلية، وهو ما يعمّق أزمة التمثيل، ويجعل من النساء المستبعدات اليوم، غائبات عن الغد أيضاً، إنْ لم يتم تفكيك هذه المنظومة من الجذر.

لماذا تصبح العدالة النقابية مستحيلة دون صوت النساء؟

النساء العاملات لا يُقصين فقط من مواقع القرار، بل يُتركن أيضاً بلا أدوات جماعية تدافع عن حقوقهن، وتضع واقعهن الاقتصادي والاجتماعي في صلب النضال العمالي.

النساء في القطاعين العام والخاص يعانين من فجوات في الأجور، ومن أشكال متعددة من التمييز غير المعلن، خصوصاً في ما يتعلق بالترقيات والمناصب القيادية، حيث يُفضل الذكور على حساب الكفاءات من النساء، بغض النظر عن المؤهلات أو سنوات الخدمة.

وقد تتعرض النساء للتحرش أو تُجبرن على العمل في بيئات قاسية، تفتقر إلى الحد الأدنى من الحماية والمساءلة، مما يضاعف من هشاشة أوضاعهن المهنية.

كما أن غياب الحضانات في بيئات العمل يُحمّل النساء عبئاً مضاعفاً، ويجعل التوفيق بين العمل والرعاية الأسرية مسألة صعبة، لا تُؤخذ بعين الاعتبار في السياسات العمالية.

أما في القطاع الخاص، حيث تُشكّل النساء غير الكويتيات النسبة الأكبر من القوة العاملة، فإن التمييز يأخذ طابعاً أكثر حدّة وصراحة. فقد يُفضّل أرباب العمل العزباء على المتزوجة، ويتجنّبون توظيف الحوامل أو اللواتي يُحتمل أن يحملن، خشية تحمّل تكاليف إجازة الأمومة المدفوعة. وفي حالات كثيرة، تُفصل النساء أو يُجبرن على الاستقالة، لا لسبب سوى أنهن أصبحن – في نظر أرباب العمل – عبئاً محتملاً. هذا التمييز لا يُعلن صراحة، لكنه يُمارَس بأعذار إدارية ملفّقة: “قلة الإنتاجية”، “الظروف التشغيلية”، أو “عدم الانسجام مع بيئة العمل”. لكن جوهره يبقى تمييزاً اقتصادياً جندرياً، يُحمّل النساء تكلفة أدوارهن الإنجابية، وكأن الحمل أو الزواج يُفقدهن صلاحية العمل، ويجعلهن “غير ملائمات” في عين السوق.

في ظلِّ هذا المشهد، لا تعني الحاجة إلى نقابات تعبر عن النساء بناء كيانات خاصة بهن، بل تعني إعادة صياغة البيت النقابي من الداخل، ليكون أكثر ديمقراطية، وتمثيلاً، وعدالة، فلا عدالة نقابية دون تمثيل فعلي للنساء العاملات، ولا تحرر نسوي دون مواجهة شروط العمل غير العادل، ولا نضال نقابي شمولي دون تيار نقابي يدرج قضايا النساء العاملات في قلب النضال المشترك.

نحو نقابات لا تقصي النساء: خطوات أولية للتغيير من الداخل 

لأجل بناء مسار نقابي أكثر عدالة وشمولاً، لا يكفي أن نرصد مكامن الخلل، بل نحتاج إلى العمل على تطوير أدوات وبدائل تنطلق من واقع النساء العاملات، وتخاطب احتياجاتهن الحقيقية. وفي هذا السياق، يمكن طرح عدد من الخطوات الأولية:

 • تشكيل كتل نسوية قاعدية داخل النقابات، لا بهدف العزل، بل لبناء قوة داخلية قادرة على فرض قضايا النساء ضمن الأولويات النقابية، وكسر الطابع الذكوري المهيمن على الهياكل والخطاب.

 • إطلاق برامج تكوين وتثقيف نقابي موجّه للنساء، يعزز من الوعي بالحقوق، ويكسر الحواجز النفسية والتنظيمية التي تعيق المشاركة، خاصة في ظلِّ غياب الدعم المؤسسي. 

•الانفتاح على العاملات غير الممثلات نقابياً، خصوصًا في القطاع الخاص والاقتصاد غير المنظم، والاستماع لتجاربهن ومطالبهن، والسعي لتبنّي هذه المطالب كقضايا ذات أولوية، هذا الانفتاح يجب أن يكون خطوة أولى في اتجاه أوسع، يهدف إلى صياغة تصور قانوني وتنظيمي يُفضي في النهاية إلى بلورة تصورات قانونية وتنظيمية تتيح لهن الانضمام إلى النقابات، وتضمن لهن الحماية النقابية، عبر تعديل القوانين القائمة، أو آليات عضوية بديلة.

 • دمج قضايا مثل الأجور المنخفضة، التحرّش في أماكن العمل، إجازات الأمومة، غياب الحضانات، والتمييز ضد المقيمات في الخطاب النقابي، بوصفها قضايا جوهرية لا هامشية. 

• تنظيم حملات ضغط وتضامن ميدانية ورقمية، تُسلّط الضوء على الانتهاكات التي تتعرض لها النساء في سوق العمل، وتُعيد قضاياهن إلى دائرة النقاش العام.

ما نحتاجه ليس فقط فتح الباب أمام النساء لدخول النقابات، بل إعادة صياغة هذا البيت النقابي من جديد، ليكون أكثر ديمقراطية، وتمثيلاً، وعدالة. فالمعركة ليست فقط مع العقلية الذكورية داخل الهياكل، بل أيضاً مع الأنظمة الاقتصادية التي تفرض الهشاشة، وتُبقي النساء العاملات في أسفل السلم بلا حماية ولا صوت.

خاتمة

في ظلِّ واقع نقابي يُهمش النساء، وواقع نسوي يغفل عن العاملات، تصبح الحاجة إلى إدماج قضايا النساء العاملات في صلب النضال النقابي أكثر من مجرد مطلب، إنها إعادة تعريف للعمل النقابي نفسه.

فالحديث عن الإنصاف داخل النقابات يظل فارغاً ما لم توضع أوضاع العاملات في موقع مركزي، وما لم تتحول مطالبهن من هامشية إلى أولوية.

ولأن النضال العمالي لا يكتمل بنصف الطبقة، فإن إدماج هذا البعد النسوي في العمل النقابي في الكويت والمنطقة هو الخطوة الأولى نحو نضال جذري عادل وشامل… نضال لا يكتفي بالمطالبة بحقوق مُجزأة، بل يعيد رسم ملامح العدالة من جذورها.

Author

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

بعد إلغاء العذر التخفيفي لجرائم الشرف ورفع سنّ الزواج… نساء الكويت بين الاستجابة الجزئية لمطالبهن وما يتعرضن له من تمييز

هناك مفارقة لافتة للانتباه وتدعو إلى الاستغراب والتساؤل، ففي الوقت، الذي تضررت فيه عشرات آلاف النساء في الكويت من زوجات الكويتيين الحاصلات على الجنسية الكويتية

يوم المرأة العالمي بين الاحتفاء بالإنجازات ومواجهة التحديات

هذه التحديات تتطلب النضال المشترك من أجل إقامة نظام اجتماعي عادل تكون فيه المرأة حرة، آمنة، ومتساوية في الحقوق والفرص ويجعل قضية تحرر المرأة جزءاً لا يتجزأ من النضال لأجل التحرر الوطني والاجتماعي.

حماية المرأة من العنف في اليوم العالمي للمرأة

يحتفل العالم بالمرأة في الثامن من مارس كل عام، للتأكيد على التقدير والاحترام للدور الذي تقوم به النساء، في سبيل تقدم وبناء ونهضة وتطور العالم في جميع المجالات سياسياً واقتصادياً واجتماعياَ، بعدما خرجت المرأة للعمل ووصلت لمناصب صنع القرار.