الرأسمالية كنظام استغلال طبقي تتركز فيه الثروات والموارد بأيدي قلة من كبار الرأسماليين وتتعرّض فيه الطبقة العاملة وعموم الكادحين، سواء في بلدان المركز الرأسمالي الإمبريالي أو في البلدان التابعة، للاستغلال والتفاوت والظلم والتمايز الاقتصادي والاجتماعي، فيما تتعرّض الشعوب في البلدان التابعة إلى الهيمنة الإمبريالية والنهب المنظم لمواردها ومقدراتها والتحكم في مصائرها.
ولئن كان التناقض الرئيسي في النظام الرأسمالي يتمثّل بالأساس في التناقض بين رأس المال والعمل أي بين طبقة الرأسماليين والطبقة العاملة، فإنه في ظل الإمبريالية يتجلى على نحو لا يقل أهمية في التناقض بين الرأسمالية الإمبريالية وشعوب البلدان التابعة، بالإضافة إلى التناقض بين الرأسمالية الإمبريالية والدول التي تتبنى التوجه الاشتراكي مثل الصين وكوبا.
وتشكّل حركات التحرر الوطني قوة مهمة في النضال ضد الرأسمالية الإمبريالية للخلاص من الهيمنة الإمبريالية وكسر التبعية وتحرير إراداتها السياسية ومواردها الاقتصادية وثرواتها الطبيعية، واختيار طريق التنمية الوطنية المستقلة المعتمدة على الذات والعادلة اجتماعياً… بل لعل البلدان التابعة هي الحلقة الأضعف، التي يمكن كسرها في سلسلة النظام الرأسمالي الإمبريالي، مثلما كانت روسيا وليس أوروبا الرأسمالية المتقدمة هي الحلقة الأضعف في تلك السلسلة بدايات القرن العشرين، بحيث انطلقت منها الثورة الاشتراكية.
ومن واجب التقدميين ربط النضال التحرري الوطني بالنضال التحرري الاشتراكي الأممي.
طبيعة الأزمة البنيوية في النظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي
إن النظام الرأسمالي الإمبريالي يعيش اليوم أزمة بنيوية شاملة لا تقتصر على الطابع الدوري للأزمات الاقتصادية، بل تمتد إلى بنية النظام ذاتها، من حيث نمط الإنتاج، وآليات التوزيع، وشكل الدولة، ووظيفة العنف المنظم. هذه الأزمة ليست عارضاً مرحلياً، بل نتيجة منطقية لمسار الرأسمالية الاحتكارية المعولمة، التي بلغت حداً من التمركز والاستقطاب لا يمكن معه استمرار إعادة الانتاج الاجتماعي دون تفجرات عنيفة.
ومن مظاهر احتدام أزمة النظام الرأسمالي الإمبريالي الآخذة في التفاقم والاتساع:
– حالة التقهقر والتراجع النسبيين للقوة الإمبريالية المهيمنة وتبدل موازين القوى جراء أفول عهد القطب الواحد وبروز ظاهرة الدول الصاعدة.
– اشتداد الميل في الاندفاع نحو الحرب.
– مأزق “الديمقراطية البرجوازية” جراء العزوف الواسع لغالبية المواطنين في بلدان المراكز الإمبريالية عن المشاركة في الانتخابات، الذي يكاد أن يبلغ مستوى المقاطعة.
– اتساع الفقر والبطالة جراء موجات الغلاء والتضخم وانخفاض الأجور والمعاشات التقاعدية، أو عبر موجات اللاجئين والمهاجرين المستجيرين من رمضاء الأطراف الكولونيالية التابعة بنار المركز الإمبريالي، أو مظاهر البؤس والمعاناة الناجمة عن الخصخصة وتسليع الصحة والتعليم.
– تعاظم مستوى الاستغلال الرأسمالي للشعوب وما نجم عنه من أزمات الجوع والمناخ والمياه والطاقة، التي بلغت درجات تهدد إعادة إنتاج الجنس البشري.
– تحوّل أزمة فيض الانتاج إلى أزمة فيض إنتاج المال والسلاح، حيث لا يمكن التخلص منهما بالسهولة ذاتها التي تم فيها التخلص من فيض البضائع، ما يعني أنّ تناقضات الرأسمالية تفاقمت بحيث يصعب عليها تجاوز أزمتها.
– طغيان قطاع المال وفقاعاته، وقطاعات الاقتصاد غير الفعلي على قطاعات الاقتصادات الفعلية.
– تعاظم الدَين.
– استمرار تقلّص الفواصل الزمنية بين دورات الأزمات.
وقد أنتج منطق التراكم الإمبريالي نظاماً عالمياً قائماً على التقسيم البنيوي بين مركز يراكم الفائض وأطراف مهمشة، مقيدة بشروط تبعية دائمة تخضعها للإستغلال.. إذ تبيّن بوضوح كيف يتم تدمير البنى الاقتصادية والاجتماعية في الأطراف لصالح الاندماج القسري في السوق الإمبريالي، لا كفاعلين، بل كخزانات للمواد الخام وقوى عاملة رخيصة، وأسواق مفتوحة، مصحوبة بنهب منظم لمقدراتها عبر فخ الديون والاستحواذ على الفوائض المالية.
إنّ هذه التبعية ليست خياراً سياسياً لحكومات تابعة فحسب، بل هي نتيجة لبنية عالمية مفروضة بقوة السلاح والديون والمؤسسات الدولية التي تعمل على فرض النموذج الرأسمالي الإمبريالي، إذ أنّ الرأسمالية في بلدان التبعية لا تنتج برجوازية وطنية، بل طبقة كومبرادورية وظيفتها الحفاظ على بنية التبعية وإعادة إنتاجها.
تراجع الهيمنة الإمبريالية وصعود ملامح نظام متعدد الأقطاب
يُظهر الوضع العالمي اليوم علامات واضحة على انحسار تدريجي للهيمنة الأحادية القطبية التي فرضتها الولايات المتحدة عقب انهيار الاتحاد السوفييتي. فلم يعد بمقدور الإمبريالية الأمريكية أن تفرض إرادتها بذات الفاعلية السابقة، إذ تتعرض داخلياً لأزمات بنيوية (تفاوت طبقي حاد، شلل مؤسسي، تصاعد العنصرية، تحلل أخلاقي، انقسام ثقافي)، وخارجياً لتحديات متزايدة من قبل قوى صاعدة كالصين وروسيا، تعمل على تقويض أسس النظام المالي والتجاري العالمي الذي تهيمن عليه الإمبريالية الغربية بهدف تأسيس نظام عالمي جديد متعدد القطبية، ومن جهة أخرى مقاومة الشعوب وحركات تحررها التي ما زالت صامدة وتواجه قوى الهيمنة وتوابعها وتسدد ضربات مؤلمة لمشاريع الإمبريالية.
غير أن هذا التعدد القطبي الوليد لا يعني آلياً تحقق نظام أكثر عدلاً، ما لم تستثمره قوى التحرر الوطني والشعوب في بناء مشاريع سيادية مستقلة، تعيد الاعتبار للتنمية المتمحورة حول الذات، وللعدالة الاجتماعية.
إن طريق شعوب الأمة العربية نحو التقارب والاتحاد مرتبط بالضرورة بالتحرر الوطني والقومي، فالوحدة العربية ليست مجرد حلم قومي مأمول، وإنما هي خطوة مستحقة على طريق استكمال التحرر الوطني والقومي، بما في ذلك إزالة التجزئة.
التحدي الذي يواجه طهران اليوم يتمحور في كيفية التعاطي مع التطورات التي سبقت وأعقبت العدوان، وأهمها الاختراقات الأمنية التي كادت أن تحدث فرقاً كبيراً، وفي التعاطي مع الداخل الإيراني الذي أكد مجدداً الانتماء لبلده
مسار الصراع الوطني والطبقي في المنطقة عسير وخطير، وأمام اليسار وقوى التحرر والديمقراطية امتحان فكري وسياسي وتنظيمي، ومراجعة للتخلص من الفئوية والرمادية والتشرذم، وبناء أواصر الثقة مع الفئات الكادحة، وإطلاق ورشة عمل لتوحيد الصفوف وتنظيمها