
جورج إبراهيم عبدالله إلى الحرية
كسر المناضل اليساري جورج إبراهيم عبدالله قضبان السجن وانتصر على السجّان، فبعد ٤١ عاماً من الاعتقال في السجون الفرنسية ومنع الإفراج عنه المستحق منذ أكثر
في سياق العدوان الخطير على قطاع غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، تتكشف أبعاد جديدة وخطيرة لحرب الإبادة والمحو الممنهجة التي تقودها قوى الاستعمار الإمبريالي العالمي، ممثلة بالاستعمار الصهيوني الاحلالي.
لا تقتصر نتائج هذه الحرب المدمرة على الاستهداف المباشر للمدنيين وقتلهم بكافة الطرق والوسائل وتدمير البنى التحتية لمختلف القطاعات الاقتصادية والصحية والتعليمية والثقافية بالإضافة إلى المنازل والشوارع وإمدادات الكهرباء والماء وغيره، بل امتدت – بشكل ممنهج وخفي وصامت – لتطال البنية الإنجابية للفلسطينيين، عبر ما يمكن وصفه بـالإبادة الإنجابية (Reproductive Genocide) ، ضمن استراتيجية صهيونية احلالية، تنتظر الفرصة للانقضاض وتحقيق هدفها في تحطيم قدرة الفلسطينيين على التكاثر البيولوجي، ضمن مساعٍ وطموحات قديمة حديثة لحسم الفجوة الديمغرافية التي طالما شغلت النخب السياسية الصهيونية على مدار عقود مضت.
تشير بيانات وزارة الصحة الفلسطينية إلى استشهاد أكثر من 59.000 فلسطيني حتى منتصف تموز\ يوليو 2025، من بينهم 28.000 امرأة و17.000 طفل. إضافةً إلى ذلك، خرجت 84% من المرافق الصحية الأساسية عن الخدمة، بما في ذلك 32 مستشفى و53 مركزاً صحياً. لم يقتصر هذا الانهيار على البنية التحتية الصحية عموماً، بل طال تحديداً خدمات الأمومة والطفولة التي تعتمد عليها مئات الآلاف من النساء، ما أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في معدلات الإجهاض بنسبة تفوق 300%. تُعد هذه النسبة غير مسبوقة، ويتم عزو هذا الارتفاع، وفقاً لما أفاد به الأطباء، بأنه إلى جانب المجاعة والجفاف والتعرض المباشر للقتل فإن الصدمات النفسية والخوف الشديد تسبب في حدوث الولادات المبكرة في ظروف تفتقر للرعاية الطارئة وغالباً ما ينتهي الأمر بوفاة الأطفال قبل الولادة الكاملة. ويؤكد قائد فريق اللجنة الدولية لإغاثة غزة (ارفيند داس)، أن هذه النتائج مرتبطة ارتباطاً مباشراً بتجارب النساء العنيفة مثل رؤية منازلهن تُقصف، والنزوح المتكرر، وانهيار النظام الصحي في غزة.
من أبرز الحوادث التي تدل على النوايا المبيتة لاستهداف البينة الإنجابية، كان في تاريخ كانون أول \ ديسمبر 2023 أي بعد مضي أقل من شهرين للحرب، تم قصف مركز الأميرة بسمة للإخصاب، مما أدى إلى تبخر سائل التبريد وتلف أكثر من 4.000 جنين و1.000 عينة من البويضات والحيوانات المنوية. تشير بعض التقديرات إلى أن عدد الأجنة التالفة نتيجة القصف قد بلغ 5.000 جنين. مثلت هذه الخسارة المؤلمة ضربة قاسية لآمال مئات النساء والعائلات الفلسطينية التي كانت تعاني العقم أو من أمراض تعيق الإنجاب، خاصةً في مجتمع يُنظر فيه إلى الإنجاب بوصفه امتداداً للهوية العائلية والاجتماعية.
ناهيك عن احتساب تدمير الأجنة المجمدة، التي بلغ عددها ما بين 4.000 إلى 5.000 جنين، ضمن الخسائر الديموغرافية غير المرئية.
تشير الإحصائيات الرسمية الصادرة عن الجهات الحكومية في قطاع غزة إلى أن “إسرائيل” ارتكبت ما مجموعه 11.850 مجزرة بحق العائلات الفلسطينية، أدّت إلى إبادة 2.165 عائلة بشكل كامل، أي تم محوها نهائياً من السجلات المدنية دون أن يبقى منها أي فرد على قيد الحياة. كما فقدت 5.064 عائلة أخرى ما مجموعه 9.272 فرداً، ما يعني أن مئات العائلات لم تفقد فقط أبناءها الحاليين، بل أيضاً امتدادها المستقبلي. ووفق حسابات ديموغرافية محافظة، تستند إلى متوسط حجم العائلة الفلسطينية (ستة أفراد)، ومعدل نمو سكاني يبلغ 2.8% سنوياً، مع افتراض دورة إنجابية واحدة كل 25 عاماً، تُقدّر الخسارة الديموغرافية المتوقعة بما يقارب 44.401 نسمة، وهو رقم يُجسّد ما كان يمكن أن يُولد من أجيال لولا عمليات الإبادة، بما يعادل سكان مدينة فلسطينية متوسطة الحجم، في مشهد يُجسّد الإبادة الإنجابية بكل أبعادها البيولوجية والاجتماعية (المصدر: الأناضول).
تُنفّذ هذه السياسات ضمن مشروع استعماري متكامل يستهدف إعادة تشكيل البنية السكانية الفلسطينية، لتصبح أقلية مهمشة داخل ما يُسمّى بـ “الدولة اليهودية” النقية عرقياً. فهذه “الدولة” تنكر على الفلسطينيين صفتهم كسكان أصليين، وتتعامل معهم باعتبارهم “دخلاء” أو “أغيار”، بلا حق طبيعي في الأرض أو الحياة. وقد أعادت أحداث “طوفان الأقصى” إنتاج هذا الخطاب الاستعلائي العنصري بصيغ أكثر تطرّفاً، كما ظهر في تصريحات رسمية تصف الفلسطينيين بـ “الحيوانات البشرية” أو “الأفاعي”، وهي أوصاف تبرّر – رمزياً وفعلياً – استباحة أجسادهم، وبخاصة أجساد النساء.
في هذا الإطار، تُستهدف النساء الفلسطينيات بوصفهن خزّانات المستقبل البيولوجي الفلسطيني، في ما يمكن تسميته بـ “الإبادة الرحمية” (Womb-targeted Genocide) إذ تُعامل أجساد النساء كمساحات استراتيجية للصراع السكاني، وتسعى آلة الحرب إلى نزع القدرة الإنجابية عنهن بكل الوسائل. لا يمكن فهم استشهاد عشرات الآلاف من النساء والفتيات والأطفال كأثر جانبي للحرب، بل كنتاج لسياسات عنف بيو – سياسي ممنهج، يستهدف تدمير الإمكانيات الإنجابية المستقبلية للفلسطينيين.
التقاء الإبادة الإنجابية مع العنف الجندري الاستعماري الصهيوني
تُستخدم أدوات متعددة في هذا التدمير: القصف العنيف، والتجويع، وحرمان النساء من الحد الأدنى من الغذاء والرعاية، وتدمير البنية التحتية الصحية، ونسف مراكز الخصوبة والإخصاب الصناعي، في مشهد ممنهج يهدف إلى اجتثاث قدرة جماعة بشرية كاملة على الاستمرار البيولوجي. وتكتسب هذه السياسات خطراً مضاعفاً في ضوء الخصوبة المرتفعة نسبياً في غزة، التي بلغت 3.96 مولوداً لكل امرأة عام 2022، ما يجعل من الجسد الفلسطيني – في العقلية الاستعمارية الصهيونية – تهديداً ديموغرافياً لا بد من تصفيته.
إن استهداف القدرة الإنجابية للفلسطينيين لا يُعدّ مجرد جريمة حرب عادية، بل يُصنّف ضمن فئة الجرائم ضد الإنسانية، ويشمل ذلك التدمير الجزئي أو الكلي لجماعة معينة بناءً على هويتها الوطنية أو العرقية. هذا التصنيف يتوافق مع تعريف اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948، التي تجرّم كل فعل يُرتكب بقصد تدمير جماعة قومية أو عرقية أو دينية كلياً أو جزئياً، بما في ذلك الإجراءات التي تستهدف منع الولادات أو تدمير البنية الإنجابية لتلك الجماعة (اتفاقية منع الإبادة الجماعية، 1948).
وبناءً عليه، فإن السياسات والممارسات الإسرائيلية التي تستهدف النساء والأجنة والأُسر الفلسطينية تنطبق عليها أحكام الإبادة الجماعية، ما يجعلها من الجرائم الدولية التي يتحمّل مرتكبوها المسؤولية الجنائية على الصعيد الدولي (الأمم المتحدة، 2023).
وقد دعمت قضايا قانونية دولية، من بينها الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية عام 2023 ضد “إسرائيل”، حيث تتضمن الاتهامات جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تشمل الاستهداف الممنهج للمدنيين الفلسطينيين، وسياسات الإبادة التي تشمل البنية الإنجابية، وذلك استناداً إلى مبادئ العدالة الدولية ومن ضمنها اتفاقيات جنيف واتفاقية منع الإبادة الجماعية (محكمة العدل الدولية، 2023).
يكشف هذا الاستهداف عن الوجه الحقيقي المخفي للاستعمار الاستيطاني، الذي لا يكتفي بالسيطرة على الأرض، بل يسعى إلى محو إمكانية استمرار البقاء والنمو الطبيعي للفلسطينيين وهم السكان الأصليين التاريخيين، من خلال تفكيك بنيتهم البيولوجية، وتحويل الأرحام إلى معركة صامتة تدور رحاها بعيداً عن أعين العالم، ولكنها معركة مميتة وأكثر وحشية لكونها تستهدف حقاً من حقوق المرأة الإنسانية والأساسية في الإنجاب وتكوين الأسرة، وحقها في الاحتفاظ بسلالتها البشرية. يُفضي هذا التحليل إلى إشكالية جوهرية تتطلب منا تفكيكاً نقدياً ومعرفياً معمقاً، قد لا تستطيع هذه الورقة معالجة كل تداعياته المرتبطة بالسؤال كيف يمكن فهم الإبادة الإنجابية كبنية تهدف إلى اقتلاع الفلسطينيين من جذورهم؟ يأتي ذلك على الرغم من أن الفلسطينيين لا يُعرَّفون كـ “عرق” بيولوجي وفق المفهوم الكلاسيكي، بل هم شعب أصيل ذو امتداد تاريخي ضارب في جذور المكان.
في الدراسات الاجتماعية والنقدية المعاصرة، يُفهم العرق باعتباره بناءً اجتماعياً وسياسياً، لا يرتكز إلى أساس بيولوجي، بل يُستخدم كأداة للهيمنة في السياقات الاستعمارية والنيوليبرالية. وقد أكدت أبحاث مشروع الجينوم البشري (جون كريغ فنتر، 2000) أن العرق لا أساس له في الجينات، وأن البشرية تنتمي إلى نوع واحد: الإنسان العاقل. مع ذلك، ظلت الإيديولوجيا العنصرية متجذرة ضمن المشروع الإمبريالي للرأسمالية الحديثة، حيث وظّفت العلوم الطبيعية لتكريس اختراع “العرق الأبيض” بوصفه متفوقاً منذ القرن السابع عشر، مقابل توصيف الشعوب الأخرى بـ “التخلف” و”انعدام الأهلية”، لتبرير الاستعباد والاستعمار (Wolfe, 2006).
وقد أظهرت نظريات ما بعد الكولونيالية، وخاصة النسوية السوداء ودراسات الشعوب الأصلانية، كيف استُخدمت السياسات الإنجابية كوسيلة للضبط والسيطرة، من خلال أدوات عنف منظم مثل التعقيم القسري أو حرمان النساء من الرعاية الصحية. يأتي ذلك في مسعى لتقليص أعداد الجماعات المستَعمَرة أو “غير المرغوب فيها”، في ما يمكن وصفه بـ “الاستئصال العرقي” أو الإبادة الإنجابية.
في هذا السياق، لا يعود الإنجاب مجرد وظيفة بيولوجية أو بيئية للتكاثر، بل يتحول إلى ساحة صراع سيادي وجودي. تُمارَس السيطرة البيو – سياسية على الجسد والجماعة معاً، فتخضع البنية الديموغرافية للمجتمع المستعمَر لعمليات تفكيك ممنهج تهدف إلى منع تكاثره ونفي مستقبله.
تبرز هنا أهمية مفهوم التقاطعية (Intersectionality) الذي طرحته النسوية السوداء، الذي يُظهر كيف تتفاعل أنظمة القمع المختلفة – مثل العرق، والجندر، والطبقة – في إنتاج أشكال مركبة من العنف الوجودي. فكما تُظهر تجارب النساء السوداوات، لا ينبع القمع فقط من كونهن نساء، بل من التقاء الجندر مع العرق والطبقة في بنية عنف متداخلة.
وتطبيقاً على السياق الفلسطيني، تكشف هذه المقاربة عن كيفيات التقاء الإبادة الإنجابية مع العنف الجندري الاستعماري الصهيوني، وارتباطه بـالهوية السياسية والقومية للمرأة الفلسطينية، تتحول المرأة الفلسطينية في هذا البناء الاستعماري إلى هدف مركب للقمع:
أولاً: لأنها امرأة يُستهدف رحمها بوصفه أداة بيولوجية للوجود الوطني.
ثانياً: لأنها فلسطينية تُعَرْقَنُ سياسياً، مما يبرر استهدافها تصنيفها كـونها تُمثل تهديداً ديموغرافياً للأمن القومي الإسرائيلي.
يُنتج هذا التلاقي عنفاً إنجابياً بنيوياً يضع الجسد الأنثوي الفلسطيني في قلب الحرب البيو- سياسية. ووفقًا لـ النسوية الاشتراكية، فإن العدالة الإنجابية لا تُفهم خارج سياق التحرر القومي والطبقي؛ إذ تتشابك الظروف الاقتصادية والاجتماعية المدمرة بفعل الحصار والتهجير والتجويع مع استهداف القدرة الإنجابية للنساء، لتشكل بعداً محورياً من أبعاد العنف البنيوي ضد الجماعة الأصيلة.
سياسة “القتل بالحرمان”
تُجسد غزة اليوم هذا التقاطع المأساوي بين الاستعمار المعاصر وأدوات التحكم البيو- سياسي، حيث لا تُمارس السلطة من خلال إدارة الحياة فقط، بل عبر إدارة الموت أيضاً، ضمن ما يُعرف بـالسياسة النيكروية كما صاغها مفكر ما بعد الكولونيالية أشيل مبمبي (Achille Mbembe). فالعنف هنا لا يقتصر على القتل أو القصف، بل يتجلى في استهداف القدرة على البقاء والاستمرار، عبر تفكيك المنظومات الإنجابية والصحية، وتدمير البنية الاجتماعية والمادية التي تُمكّن الجماعة من إعادة إنتاج ذاتها.
في هذا الحقل، يصبح الجسد الفلسطيني – ولا سيما جسد المرأة – ساحةً للسيادة البيولوجية والسياسية، يُستهدف الرحم كرمز للخصوبة الوطنية، وتُضرب المنشآت الصحية، خصوصاً تلك المعنية بالصحة الإنجابية، ضمن استراتيجية تشير إلى نية ممنهجة في محو إمكانية الولادة وإعادة التكوين.
وتندرج هذه الممارسات تحت ما يمكن تسميته بـسياسات “القتل بالحرمان”، والتي تُخضع السكان لموت بطيء يتمظهر في انعدام الرعاية الصحية، وانهيار البنى التحتية، ونقص الغذاء والدواء. يصبح الزمن نفسه أداة للعنف، حيث تُعلّق الحياة في انتظار موت محتوم، ويتحول الإنجاب من أمل إلى عبء وجودي محفوف بالخطر.
ولا يُنظر إلى الأطفال الفلسطينيين بوصفهم امتداداً طبيعياً للحياة، بل يُشيطَنون منذ لحظة الولادة كـ “تهديد ديموغرافي”، ويُبرَّر استهدافهم باعتبارهم رموزاً سياسية، تُسقط عنهم الحماية الإنسانية والأخلاقية.
تُظهر هذه الدينامية كيف يتموضع الفلسطينيون داخل ما يسميه مبمبي بـحقل الموت (Death-world، حيث تُفرغ الحياة من معناها السياسي، ويُعاد تعريف الحق في الوجود وفق منطق استعماري يسعى لا إلى السيطرة على الأرض فقط، بل إلى محو الزمن الفلسطيني نفسه، عبر تفكيك قدرته على إعادة إنتاج الحياة، والذات، والانتماء.
وبذلك، لا تأخذ الإبادة الإنجابية طابعاً مادياً فحسب، بل تتحول إلى أداة لنفي المستقبل، لتفتيت العلاقة العضوية بين الأرض، والجسد، والجماعة. وهكذا، يمكن فهم ما يحدث في غزة لا كأزمة إنسانية عابرة، بل كأحد أكثر أشكال العنف الاستعماري البنيوي تطوراً، عنف يسعى إلى هندسة شروط عدم إمكانية الحياة، وفرض سيادة استعمارية على الجغرافيا، والزمن، والخصوبة، في آنٍ واحد.
كسر المناضل اليساري جورج إبراهيم عبدالله قضبان السجن وانتصر على السجّان، فبعد ٤١ عاماً من الاعتقال في السجون الفرنسية ومنع الإفراج عنه المستحق منذ أكثر
أصدرت وزارة العدل الفرنسية، اليوم الخميس 17 يوليو الجاري، قرار الإفراج عن المناضل والمقاوم اليساري ضد العدو الصهيوني، جورج إبراهيم عبدالله المسجون تعسفاً في فرنسا
التناقض الرئيسي في النظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي، وطبيعة أزمته البنيوية وتراجع هيمنته
إن طريق شعوب الأمة العربية نحو التقارب والاتحاد مرتبط بالضرورة بالتحرر الوطني والقومي، فالوحدة العربية ليست مجرد حلم قومي مأمول، وإنما هي خطوة مستحقة على طريق استكمال التحرر الوطني والقومي، بما في ذلك إزالة التجزئة.