هزّ العدوان الصهيوني على العاصمة القطرية الدوحة يوم التاسع من سبتمبر 2025، يقينيات كانت مستقرة ومترسخة في وجدان منظومة مجلس التعاون الخليجي والدول العربية مفادها أن الحماية الأميركية حقيقة مطلقة لا يمكن التشكيك فيها، حتى جاء العدوان الذي استهدف قادة حركة حماس بينما كانوا يناقشون مقترح الرئيس الأميركي لوقف إطلاق النار في قطاع غزة المثقل بحرب إبادة جماعية لم يشهد التاريخ لها مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية.
الهجوم على الدوحة يُذكّر بالهجوم الصهيوني- الأميركي على المفاعلات النووية الإيرانية في يونيو 2025 من حيث المعطيات التي سادت قبيل الهجومين. ففي العدوان على إيران، كان مقرراً أن يعقد اجتماعاً غير مباشر بين الوفدين الأميركي والإيراني، إلا أن الطائرات الصهيونية أغارت، قبل يومين من بدء الاجتماع، على قادة سياسيين وعسكريين وعلماء نوويين في طهران ومدن إيرانية أخرى كمقدمة للهجوم على المفاعلات التي نالها تدميراً كبيراً وأصاب البرنامج النووي بأعطاب تحتاج وقتاً لترميمه وإعادة أجهزة الطرد المركزي للعمل كما كانت. في البداية ادعى دونالد ترامب أنه ليس ضالعاً في خطط الهجوم على إيران، لكنه في نهاية المطاف أرسل طائراته الحربية وقصف مفاعل “نطنز” الذي يعتبر من أهم المفاعلات النووية الإيرانية باعتباره الأكبر وخصب اليورانيوم بنسبة 60 بالمئة القريبة من النسبة المطلوبة لإنتاج سلاح نووي.
وفي الهجوم على الدوحة إدعّى الرئيس الأميركي أن نتنياهو أخبره بعد الهجوم على اجتماع قادة حماس في محاولة للتملص من مسؤولية الشراكة في العدوان، كون ذلك يشكل حرجاً لإدارته التي تستخدم قاعدة “العديد” العسكرية وهي أكبر قاعدة عسكرية أميركية في العالم خارج الولايات المتحدة وحلف الناتو. لم تنطلق المضادات الأميركية التي تحمي القاعدة الأميركية ولم تنطلق مضادات على الطائرات المغيرة والصواريخ التي قصفت مكان اجتماع قادة حماس في وسط حيّ سكني يحوي رياض أطفال ومدارس ومنازل سكنية للأهالي ومقار ديبلوماسية. لكن البروباغاندا التي روجها ترامب لم تنطلِ على أحد بمن فيهم قادة دول مجلس التعاون وبالطبع القيادة القطرية، بل أثار غضباً وشكوكاً بالخذلان وبأن نتنياهو خطط العدوان مع ترامب.
هذا التطور الخطير قاد قطر إلى تقديم طلب مستعجل لعقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي يوم 11 سبتمبر الماضي، أي بعد 48 ساعة من الهجوم الغادر على الدوحة. كل الذين تحدثوا في الجلسة أدانوا جريمة الكيان الصهيوني في عدوانه على الدوحة، واعتبروه انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، بينما أشادوا بموقف قطر ودورها في الوساطة لإيقاف الابادة الجماعية التي ترتكبها قوات الاحتلال. كانت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي لم تدن العدوان وأقصى ما قالته المندوبة الأميركية أن الهجوم ليس مصلحة إسرائيلية وليس مصلحة أميركية… هكذا!!
قبل الجلسة جرى التوافق على بيان ندد بالهجوم على الدوحة من دون أن يذكر “إسرائيل” بوصفها الجهة التي نفذته. صاغت البيان كل من بريطانيا صاحبة وعد بلفور المشؤوم وفرنسا التي يفتخر رئيسها أنه أول من زار الكيان بعيد طوفان الأقصى. البيان شدد على أهمية وقف التصعيد ودعمه لسيادة دولة قطر ولدورها الرئيسي في جهود الوساطة بالمنطقة. اكتفى البيان بالإدانة وانفضت الجلسة دون آليات مسائلة للكيان الذي ضرب مندوبه البيان عرض الحائط واستخف بالمندوبين وهدد الدوحة وأنقرة والقاهرة بأن كيانه سيلاحق حماس وغيرها في تلك العواصم دون أن يوقفه رئيس الجلسة أو يعلق على كلامه.
شجب وتنديد وإدانة
ما أن انفضت جلسة مجلس الأمن حتى جرى التحضير للقمة العربية – الإسلامية دعماً لدولة قطر في مواجهتها للعدوانين فانعقدت القمة منتصف سبتمبر 2025، أي بعد أربعة أيام من جلسة مجلس الأمن، وقد تناوب على التحدث العديد من قادة وزعماء الدول التي تمثل 57 دولة عربية وإسلامية يمثلون قرابة ملياري نسمة، ومن بينها ست دول عربية مطبعة مع الكيان الصهيوني، لم تتحدث واحدة منها عن تجميد التطبيع أو سحب سفيرها من الكيان أو طرد السفير الصهيوني من العواصم المطبعة، فيما علت الأصوات في الشجب والاستنكار والادانات فغطت سماء قاعة القمة دون الحديث عن خطوة عملية واحدة، بالضبط كما توقع الناطق باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي قبل انعقاد القمة، حيث استخف بالمجتمعين مثلما فعل مندوب الاحتلال في جلسة مجلس الأمن بالذين حضروا يمثلون بلدانهم ومارس غطرسة وصلافة غير معهودتين في الاجتماعات الدولية.
خرج البيان الختامي للقمة مطرزاً بخمسة وعشرين بنداً حملت عبارات الترحيب والتأكيد والتحذير والشجب والتنديد والاستنكار وإدانة الجريمة التي ارتكبها الاحتلال الصهيوني مستهدفاً قادة حماس لكنه قتل خمسة أشخاص بينهم عنصر أمن قطري كان يؤدي واجبه أثناء العدوان.
وقد أكد المجتمعون في ختام قمتهم على “الالتزام الثابت بسيادة واستقلال وأمن جميع الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي”، وذكّروا بواجبهم الجماعي “في الرد على هذا العدوان دفاعاً عن أمننا المشترك”، وأكدوا رفضهم القاطع “لأي مساس بأمن أي من دولنا، وأدانوا “بكل حزم أي اعتداء يستهدفها، مؤكدين تضامننا المطلق والراسخ في مواجهة كل ما من شأنه تهديد أمنها واستقرارها”.
كما دعوا في البند الخامس عشر جميع الدول إلى اتخاذ كافة التدابير القانونية والفعالة الممكنة لمنع إسرائيل من مواصلة أعمالها ضد الشعب الفلسطيني، بما في ذلك دعم الجهود الرامية إلى إنهاء إفلاتها من العقاب ومساءلتها عن آثارها وجرائمها، وفرض العقوبات عليها، وتعليق تزويدها بالأسلحة والذخائر والمواد العسكرية أو نقلها أو عبورها، بما في ذلك المواد ذات الاستخدام المزدوج، ومراجعة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية معها، ومباشرة الإجراءات القانونية ضدها.
اللافت في البند السادس عشر من البيان أن الدول الـ 57 لا تزال تفكر في النظر في مدى توافق عضوية “إسرائيل” في الأمم المتحدة مع ميثاقها، بالنظر إلى الانتهاكات الواضحة لشروط العضوية والاستخفاف المستمر بقرارات الأمم المتحدة، مع التنسيق في الجهود الرامية إلى تعليق عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة، وكأن كل هذه الجرائم لم توصل القمة إلى اليقين بأن هذه الكيان مارق.
كما أكد البيان في البند الـ21 على دعم وصاية الأردن على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس، “والتأكيد أن المسجد الأقصى المبارك / الحرم القدسي الشريف بكامل مساحته البالغة 144 ألف متر مربع، هو مكان عبادة خالص للمسلمين فقط، وأن إدارة أوقاف القدس وشؤون المسجد الأقصى المبارك التابعة لوزارة الأوقاف الأردنية هي الجهة الشرعية الحصرية صاحبة الاختصاص الحصري بإدارة المسجد الأقصى المبارك وصيانته وتنظيم الدخول اليه”. ولم ينس البيان التأكيد على “ضرورة العمل على تثبيت المقدسيين على أرضهم، ودعم لجنة القدس برئاسة جلالة الملك محمد السادس ملك المملكة المغربية وذراعها التنفيذي وكالة بيت مال القدس الشريف”.
ولأن الحل السلمي للقضية الفلسطينية هاجس مفصلي فقد تم التأكيد في البيان على “أن السلام العادل والشامل والدائم في الشرق الأوسط لن يتحقق بتجاوز القضية الفلسطينية أو محاولات تجاهل حقوق الشعب الفلسطيني، أو من خلال العنف واستهداف الوسطاء، بل من خلال الالتزام بمبادرة السلام العربية وبقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة”.
وقد تم تكليف الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، الأطراف في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، باتخاذ جميع التدابير الممكنة ضمن أطرها القانونية الوطنية لدعم تنفيذ أوامر القبض الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بتاريخ 21 نوفمبر 2024 ضد مرتكبي الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، كما يدعو الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي لبذل الجهود الدبلوماسية والسياسية والقانونية لضمان امتثال إسرائيل، بصفتها السلطة القائمة بالاحتلال لالتزاماتها الملزمة بموجب التدابير المؤقتة الصادرة عن محكمة العدل الدولية بتاريخ 26 يناير 2024 في قضية “تطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في قطاع غزة”.
وبينما كان البيان الختامي يُتلى في أروقة القمة، كانت الطائرات والصواريخ الصهيونية تقصف سوريا ولبنان واليمن وتواصل حرب الإبادة والتطهير العرقي في قطاع غزة والضفة الغربية.
هل كان البيان الختامي كافياً للجم العدوان الصهيوني على الدوحة ووقف إبادته الجماعية بحق الشعب الفلسطيني منذ قرابة عامين؟
وهل التزمت أي من الدول المطبعة مع العدو وتلك التي تتعامل معه من تحت الطاولة ونفذت دعوة البيان للتوقف عن ارسال السلاح والمواد الغذائية وقطع العلاقات الديبلوماسية؟
وماذا لو انضمت الدول الإسلامية الأعضاء في محكمة الجنايات ومحكمة العدل الدولية الى القضايا المرفوعة على الكيان وقادته؟
ربما أجاب البيان الختامي عن كل هذه التساؤلات وغيرها الكثير من الأسئلة التي يوجهها المواطن العربي والإسلامي إلى بعض قادته صباح كل يوم وهو يشاهد الابادة الجماعية على الهواء مباشرة. فالقمة العربية – الإسلامية لم تخرج عن سياق الانشائيات التي اتسمت بها القمم المثيلة، وأن التوصيف الأقرب للحقيقة هو العجز الكامل عن اتخاذ إجراءات عملية مهما كانت هامشية. فقد كان بالإمكان سحب السفراء وطرد السفراء الصهاينة من العواصم العربية. كما كان بالإمكان إعلان عربي جامع لإرسال المساعدات الانسانية لإنقاذ أطفال غزة ونسائها وشيوخها من حرب التجويع. وكان بالإمكان فرض إرسال الطواقم الطبية والمساعدات للمستشفيات القائمة في القطاع. وكان يمكن إغلاق الأجواء على الطيران الحربي والمدني الصهيوني ومنعه من عبور الأجواء العربية وإغلاق مكاتب شركة العال الصهيونية في المطارات والعواصم العربية.
إن الولايات المتحدة وإداراتها المتعاقبة ليست قدراً محتوماً على دول المنطقة والعالم، وبالتالي لا يمكن لها أن تحدد مخرجات القمم وتفرضها على الدول. صحيح أنها “القوة العسكرية الأولى في العالم، لكنها لا تملك السيطرة المباشرة على كل شيء”، وفق الكاتب ايمانويل تود في كتابه (هزيمة الغرب). وفي اللحظة التي تصل الدول والحكومات إلى هذه القناعة فإن كل شيء يمكن أن يتغير. فالمشكلة تكمن في غياب الإرادة السياسية عن مثل هذه القمم التي لا يمكنها بهذا المستوى من الأداء والقرارات أن تمرر كسرة خبز لطفل محاصر في غزة يقتله الجوع، أو تحمي أسطولاً بحرياً من أحرار العالم المتطوعين الذين يشقون عباب البحر نحو شواطئ غزة لكسر حصارها الغاشم.