ملاحظات حول الشعبوية من منظور يساري
علينا أن نتداول أمر هذه الظاهرة المتنامية في العالم والممتدة إلى منطقتنا ومجتمعنا.
يعد محمد مندور واحداً من أهم علامات النقد الأدبي المصري في العصر الحديث، وذلك بالنظر إلى تأثيره الكبير في مسيرة هذا النقد، فقد ساهم في نقله من الخطاب الأكاديمي التخصصي الذي قام على جهود رواده أمثال أمين الخولي وطه حسين وأحمد أمين ومحمد أحمد خلف الله، إلى التعاطي مع حركة الواقع الثقافي وتحولاته اليومية المتدفقة، والتفاعل مع الراهن الأدبي والثقافي المرتبط بتحولات الواقع الاجتماعي والسياسي. مبسطاً له ومعمقاً اياه، في الآن نفسه.
ولقد قام انجاز محمد مندور على الانفتاح العقلي والفكري، فتأثر في بداية حياته الفكرية بآراء لانسون وماييه وطه حسين، تلك الآراء التي يمكن أن نطلق عليها تسمية “الرؤية الجمالية الإنسانية”.
وتعد تلك الرؤية بمثابة الأساس الذي أنطلق منه في كتبه: “في الميزان الجديد” 1944، و”النقد المنهجي عند العرب” 1943. و”نماذج بشرية” 1944. حيث إن الأدب، عنده حسب هذه الرؤية، مغاير، على نحو نوعي، للتفكير الفلسفي أو التاريخي أو ما شابههما، لأنه يتكئ أكثر على المكونات التخييلية والانفعالات الشعورية. فهو، حسب قوله:
“تلك المؤلفات التي تكتب لكافة المثقفين وتثير لديهم، بفضل خصائص صياغتها، صوراً خيالية أو انفعالات شعورية أو احساسات فنية”.
وتلك هي عين وجهة نظر (لانسون) الذي أورد مندور نص كتابه، الذي ألفه بالاشتراك مع (ماييه): “منهج البحث في الأدب واللغة”، بوصفه ملحقاً لكتابه “النقد المنهجي عند العرب”.
لقد قام جهد مندور في هذه المرحلة على التمييز بين الأسلوب العقلي والأسلوب الفني، فاعتبر أن الأسلوب الفني يقتضي “أن تصاغ العبارة من معطيات الحواس”. أما الأسلوب العقلي فيقوم على صياغة المعاني والألفاظ صياغة مجردة، وان حملت صورة فهي صورة عامة. وهنا كان لا بد أن ينتصر مندور إلى “أدبية الأدب” النابعة من لغويته، أي أن الدرس الأدبي لا بد أن يقوم على دراسة المادة التي صيغ منها وليس من داع لإقحام علم النفس أو الاجتماع أو ما شابه، في محاججته الرصينة مع محمد أحمد خلف الله.
كما أنه قام بالتفريق بين ما أسماه بأدب “الجعجعة والطنطنة”، أي الصوت العالي والنبرة الجهيرة الخطابية التي يمثلها “الأدب الإحيائي”، بصفة عامة، فرق بين هذا وما أسماه بـ “أدب الهمس” الذي احتفى به، بخاصة عند شعراء المهجر. كما أنه هاجم ما أطلق عليه اسم “الطرطشة العاطفية”، أي الاغراق والمبالغة في ابراز المشاعر والانفعالات العاطفية، التي ميزت الأدب الرومانتيكي.
ومن هنا يمكن القول بأن الممارسة النقدية قد قامت عند مندور، في تلك المرحلة بالاعتماد على العنصرين التاليين:
وواضح أن هذه المرحلة قد قامت على الدمج الواعي بين المداخل “الذاتية” والمداخل “الموضوعية”. حيث يبرز المدخل “الذاتي” فيما يتعلق بذوق الناقد ودربته الحسية المرتبطة بالخبرة الجمالية المتولدة عن قراءة الأدب وتذوقه. كما يبرز المدخل “الموضوعي” من خلال الانضباط المنهجي (العلمي) في عمل الناقد.
ولقد برز هذا الاتجاه بوضوح في كتبه الثلاثة، آنفة الذكر، والتي مثلت وعي الناقد خلال السنوات العشر التي أعقبت عودته إلى مصر عام 1939. وأضيف اليها كتابه: “في الأدب والنقد” 1949 الذي يكاد يمثل مرحلة برزخية مثلت الانتقال إلى مرحلته التالية.
أما تلك المرحلة التالية، فيمكن أن نسميها مرحلة “النقد الأيديولوجي”. والتي لا شك أنها قد قامت تحت تأثير قيام ثورة يوليو 52 وازدهار أفكار اليسار والاتجاهات الاشتراكية، بصفة عامة. وهو ما يقف وراء ظهور مفاهيم “الواقعية” و”الالتزام” و”الواقعية الاشتراكية”.. الخ. سواء، أكان ذلك في ارهاصاتها الأولى عند محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس في كتابهما “في الثقافة المصرية”1954، أو ما تبع ذلك من حراك سياسي وفكري عارم، غلبت عليه النزعة التحررية الاجتماعية، في حقبتي الخمسينيات والستينيات على الصعيدين المحلي والعالمي. وقد كان لانتماء مندور (السياسي) لحركة “الطليعة الوفدية”، والتي كانت تمثل (يسار) حزب الوفد، في نهاية الأربعينيات، وما تلا ذلك من تحولات سياسية كبرى، تمثلت في هزيمة 48 وقيام ثورة يوليو 52، والعدوان الثلاثي 1956، كان لكل ذلك الدور الأكبر في هذا التحول السياسي والفكري، ومن ثم، النقدي.
حيث نلاحظ، حينئذ، هذا الانتقال الناعم من تلك النظرة “الجمالية الإنسانية” إلى نظرة أخرى يغلب فيها النظر إلى الأدب والنقد الأدبي من زاوية الدور والوظيفة الاجتماعية والسياسية، وبخاصة في مرحلة نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات. حيث ظهرت مفاهيم “الأدب الملتزم” و”الأدب الهادف”، و”الواقعية” و”النقد الأيديولوجي”. وجاء ذلك الانتقال على استحياء في كتابه “في الأدب والنقد” 1949، كما سبقت الاشارة، ومن ثم، تجلى بوضوح أكبر في كتبه: “الأدب ومذاهبه”، 1957، و”الشعر المصري بعد شوقي” بأجزائه الثلاثة التي صدر أولها عام 1954، وصدر آخرها عام 1958. ومن ثم، “ولي الدين يكن” 1955، وفي العام ذاته، صدرت كتبه عن “اسماعيل صبري” و”خليل مطران” و”المازني”. ثم، كتب: “مسرحيات شوقي” 1954، و”قضايا جديدة في أدبنا الحديث” 1958، و”فن الشعر” 1960، و”مسرح عزيز أباظة” 1958، و”في المسرح النثري” 1960، و”المسرح العالمي” (جمع بعد وفاته). و”الأدب وفنونه” 1964، و”النقد والنقاد المعاصرون” 1964. وهناك كتاب ثقافي وفكري كتبه بعد زيارة إلى الاتحاد السوفيتي وبعض بلدان الكتلة الاشتراكية وقد جاء بعنوان: “جولة في العالم الاشتراكي” 1957.
وفي هذه الكتب التقى مندور، من طرف، مع اتجاه جان بول سارتر، المبني على الفلسفة الوجودية في ما عرف باسم: “الأدب الملتزم”، وهو الاتجاه الذي كان له تأثير كبير بعد الحرب العالمية الثانية. مصرحاً بأن الخلاف بين القيمة الجمالية والقيمة الاجتماعية انما هو خلاف مصطنع. وإن كان قد قصر الالتزام على النثر دون الشعر، (وبالمناسبة، هذا موقف سارتر أيضاً)، بيد أنه تراجع عن هذا الاستثناء للشعر في كتابه: “الشعر المصري بعد شوقي”. ثم هاجم أخطاء “المدرسة الواقعية”، من زاوية ما تصوره لديها من “تفضيل المضمون على الشكل”، محاولاً التوفيق بين ما عرف باسم “الفن للفن”، وما أطلق عليه اسم “الفن للحياة”. مدافعاً عن حرية الكاتب والشاعر في اجتراح ابداعهما على النحو الذي يبغيان. ومن طرف آخر فقد التقى مع الواقعية، بطرحها الاشتراكي الماركسي.
ولم يتوقف جهد مندور عند الكتابة النقدية، بل تعداها إلى الاشتباك مع القضايا السياسية والدخول القوي في معارك أدبية مع محمد أحمد خلف الله والعقاد وغيرهما.
ان قيمة مندور الحقيقية، إنما تتمثل في أنه يمثل نموذجاً دالاً على القدرة على التحول والتوافق مع مجريات الحياة الأدبية والثقافية في مصر والعالم. كما أنها تتبدى في قدرته على تحويل الفكر النقدي إلى حالة معرفية قابلة للانتشار في المجال الثقافي العام وأن يتاح تلقيها من قبل القارئ العام وليس فقط القارئ المتخصص. كما أنه بلا شك يعد واحداً من أيقونات تلك المرحلة الزمنية المصطخبة والمزدهرة بكل اتجاهات الفن والفكر والأدب في تاريخنا الحديث. كما أن سيرته الفكرية والنقدية انما تلخص بجلاء جزءاً حميماً من تاريخنا الثقافي والنقدي في واحدة من أخصب مراحله وأكثرها حركية ومورانا.
مكونات ومستويات جهد مندور النقدي عبر مراحله المتعددة
وإذا كان لجهد مندور النقدي كل هذه القيمة والتنوع، فإن هذا ما يدفعنا نطرح الأسئلة التالية:
كيف نفهم طبيعة الاتجاهات التي تبناها مندور وما ملامحها الفكرية – النظرية والتطبيقية؟
وما العوامل التي أدت إلى هذه التحولات بينها؟
وماذا بقي من محمد مندور بعد كل هذه التقلبات العاصفة، التي انتابت الفكر النقدي، التي نعيشها منذ نهاية الستينيات وحتى الآن؟
ومن هنا يتحدد هدف هذا البحث، حيث يسعى إلى التعرف على مكونات ومستويات جهد مندور النقدي، عبر مراحله المتعددة. وذلك، في ضوء ظرفه التاريخي الاجتماعي الثقافي، وكذلك في ضوء الحراك النقدي العارم الذي ألم بالدرس الأدبي بين القرنين: العشرين والحادي والعشرين.
وسيقوم عمل البحث على دراسة النقاط التالية:
ان النزعة الاصلاحية التي لا تكاد لا تخطئها العين، عند مندور، مردها تأثره الواضح بفلسفة الفيلسوف الفرنسي (برودون)، وتشجيعه لحكومة “ليون بلوم”، التي حاولت التوفيق بين اليمين واليسار في فرنسا في حكومة الجبهة الشعبية 1936، والتي أعقبت الأزمة الاقتصادية الطاحنة عام 1930. حيث كان مندور نافراً من اليمين، أثناء اقامته في فرنسا، وهو ذلك الاتجاه الذي خبره ورآه رأى العين، في مصر. كما أنه نفر من الاتجاهات الراديكالية اليسارية، في الوقت ذاته.
فبرودون، الذي نظر إلى تاريخ المجتمع باعتباره تاريخ صراع الأفكار، (جابر عصفور – أدب ونقد نوفمبر 90 ، ص34) كان يهاجم الملكية التي تؤدي إلى تحكم الإنسان في باقي البشر واستغلال من يملك لمن لا يملك، وهو صاحب عبارة “الملكية سرقة”. وفي الآن نفسه، كان يرفض الشيوعية ويؤكد حق الفرد في الاستقلال وفي الملكية الخاصة، ما دامت بعيدة عن الاستغلال! وقد أكد برودون على هذه الأفكار في كتابه “بؤس الفلسفة”، الصادر عام 1840. وهو الكتاب الذي رد عليه ماركس بكتابه “فلسفة البؤس” الذي صدر عام 1846.
ومن الغريب أن مندور قد تأثر بكتاب برودون، دون أن يشير من أي طرف إلى اطلاعه على كتاب ماركس، أو حتى السماع بوجوده. ولذا لم يحدد موقفاً منه، على أي نحو. وأعتقد أنه من غير المتصور أن مندور يجهل صدور كتاب كارل ماركس، ولكن الأرجح أنه لم يشأ التطرق اليه نظراً لأنه لا ينتمي إلى هذه الوجهة، من ناحية، وكذلك، نظراً للحساسية الأمنية التي يمكن أن يمثلها حديثه عن هذا الكتاب أو عن الاتجاه الذي يمثله، بصفة عامة. ولعل ذلك راجع إلى تربيته وتعليمه البرجوازيين المحافظين، وضعف الحركة اليسارية في مصر قبل بعثته عام 1930. لكن كان ميله إلى اليسار واضحاً، وان لم يكن ذلك قائماً على أسس منهجية ومعرفية محددة، فقد كان قائماً على أسس إنسانية وأخلاقية بالأساس. (لا ننسى أن مندور قد حصل على دبلوم في السياسة والاقتصاد أثناء بعثته)، فاختار الانتماء إلى “الديمقراطية الاجتماعية” مذهباً سياسياً.
ومن هنا تتبدى أصول النزعة التوفيقية الاصلاحية في فكر مندور بشكل عام. وهو الأمر الذي طبع عمله النقدي، بدرجات متفاوتة. في مرحلتيه النقديتين. لقد درس مندور وترجم، فيما بعد بعثته (1942)، كتاب جورج ديهاميل “دفاع عن الأدب” على الرغم من يمينية ديهاميل الاريستوقراطية، وتأثر مندور، بعبارته “أيها الشبان افتحوا النوافذ واطردوا الأشباح”. يقول جابر عصفور:
“وهنا أدرك مندور أن الأدب نقد للحياة ومراجعة للواقع وفهم له وأنه تصوير للمألوف بصورة يمكن أن تعيش بفضل صياغتها. لأنها خلق لـ (نماذج بشرية) يمكن أن نجد أنفسنا فيها.”(عصفور ص 35)
فقد جمع ديهاميل بين المثالية والواقعية، وهو ما يشيد به مندور. وهذا الاحتفاء بديهاميل لا يقل عن احتفائه بلانسون الذي توفى عام 1934 قبل أن يلتقيه مندور، ولكنه تأثر بقوة برؤية لانسون النقدية التي تجمع بين “الذاتي” و”الموضوعي” في النقد. فقد ركز على دراسة العلاقات اللغوية ونسيج ومكونات العمل والظروف المحيطة بانتاجه. ان غاية النقد عند لانسون هي إدراك العناصر المكونة للعمل، التي تكشف عن مثل أعلى في الصياغة. وفي الوقت ذاته ركز على العناصر الذاتية، مثل الانطباع الشخصي (الذوقي) الذي يتكون عبر الاحتكاك المباشر بالأعمال الأدبية، وروح الأديب وحياة الجماعة. فالأصل في الأدب عنده هو تأكيد العلاقة بين الأديب والحياة. ويقوم لانسون بدمج هذه العناصر الذاتية في ما يعرفه بـ “الذوق التاريخي” الذي يقوم على المعرفة الواسعة بالأنظمة الأدبية.
ان هذه المنهجية التاريخية انما تقوم على الموازنة بين الذوق الشخصي والحقائق المتعينة المتضمنة في الأعمال الأدبية أو تشير اليها.
ولعل من اللافت أيضاً أن مندور لم يشر إلى اطلاعه على كتابات أندريه مالرو ولا هنري لوفافر أو بول ايلوار. وهم من الماركسيين الحداثيين، الذين ملأوا الحياة ضجيجاً في فترة الثلاثينيات والأربعينيات. كما أنه لم يشر إلى أي علاقة له بأدب أو فلسفة جان بول سارتر، الذي نشر مسرحية “الغثيان” في باريس قبل عودة مندور منها بسنة واحدة، إلا متأخراً في الخمسينيات، وبعد عودته إلى مصر بما يقرب من عشرة أعوام. فلم يتأثر مندور إلا بأهل “الوسط” والأكاديميين الذين يمسكون بالعصا من المنتصف.
ويفسر عصفور هذا الأمر بأن مندور قد وجد في اتجاهه الديمقراطي الاجتماعي.. “ما يصل بينه وبين التنويريين الليبراليين من أساتذته، بالمعنى الذي جعله يتصور مهمته النقدية بوصفها تطويراً متقدماً لجهد هؤلاء الأساتذة الذين استسلموا لضغط الهيئة الاجتماعية” (نفسه ص 38.)
أما على المستوى الأدبي فقد كان الأدب المصري قد أنجز انتقاله القوي من “الاحياء” إلى “الرومانسية”: متمثلة في نتاجات مطران والعقاد والمازني وشكري وجماعة ابوللو. وطرحت المدرسة المهجرية ثمارها المتميزة في الشعر، كما تأسس معهد الفنون المسرحية 1931. وكان توفيق الحكيم قد أنجز جانباً كبيراً من مشروعه، كما اكتملت صورة الرواية في مصر على أيدي هيكل، والأخوين عيسى وشحاتة عبيد، ومحمود تيمور، وطه حسين، والعقاد. ومن هنا صار الموقف الابداعي أكثر تعقيداً وتشابكاً وتشعباً، مما أدى إلى ضرورة ايجاد “ميزان جديد” للنقد فكان كتاب مندور الذي حمل العنوان ذاته (الميزان الجديد) 1944. محققاً ذلك “الذوق التاريخي” الذي تحدث عنه لانسون. السابق ذكره. وليطرح مفهوم “الهمس” و”الأدب المهموس” في الشعر، متجاوزاً الفهم الرومانسي، ونافياً لبقايا الاحيائية المدرسية الخطابية الزاعقة. ومرسخاً لعلاقة جديدة يتخلى فيها الشاعر عن كل من علويته، وعن فراره من الواقع، على حد سواء. مجسداً تصويره للمألوف الذي يبقى بفعل صياغته الفنية وبفضل ما تنطوي عليه من “نماذج بشرية” راسخة في أعماقنا. وهنا جاء كتابه الثاني “نماذج بشرية” 1944. الذي انصب على تحليل شخصيات الأدب العالمي النموذجية من حيث تحقيقها للمثل الأعلى الأخلاقي والاجتماعي، مثل “فاوست” و”دون كيخوتة” و”الأبله” و”عوليسيس”.. الخ. وهذا المزج بين الأخلاقي والاجتماعي هو عين ما تنادي به الديمقراطية الاجتماعية في مجال السياسة.
ولقد تصاعد هذا الفهم للدور الاجتماعي مع كتابه البرزخي السابق الاشارة اليه “في الأدب والنقد”، مع انخراط مندور في الحياة الثقافية والاجتماعية ودخوله في قلب مشكلات المجتمع المصري حيث تعاطف مع الاشتراكيين في مواجهتهم لدعوات “الفن للفن” لصالح التعامل مع الفن باعتباره سلاحاً للكفاح ومحركاً لوعي الجماهير. لكن هذا التعاطف لم يصل ابداً إلى حده الأقصى، حيث تحفظ قائلا:
“وليس من المعقول أن يسجن الأدب والشعر بنوع خاص في منطقة الكفاح وأن يتخلى عن كافة وظائفه الأخرى” (في الأدب والنقد عن عصفور ص42)
وهنا يصبح مندور متصلاً ومنفصلاً عن كلا الاتجاهين، في الآن نفسه. مفضلاً الصياغة على المضمون، فالأدب في النهاية صياغة فنية قبل أن يكون رسالة اعتقادية. وهو لذلك يؤثر النقد اللغوي التفسيري على النقد القائم على مرجعيات معرفية وأيديولوجية أخرى. بل انه قام بالهجوم على ما أسماه بـ “النقد الاعتقادي”. وهنا أعاد طرح كتابه في النقد المنهجي عند العرب ليؤصل هذا المنحى اللغوي الصياغي، عام 1948.
ومن العجيب أن مندور قد قبض عليه بتهمة الانتماء إلى الشيوعية عام 46 نظراً لاتصاله المنفتح مع جماعات اليسار من أصحاب مجلة “الفجر الجديد”، التي تم اغلاقها مع جريدة “الوفد المصري” التي كان يرأس تحريرها مندور، نفسه، على أيدي حكومة اسماعيل صدقي (جلاد الشعب).
ومع قيام ثورة يوليو (1952) تقدم مندور أكثر فأكثر باتجاه مواقع اليسار، وأعلى من شأن الدور الاجتماعي للأدب وضرورة التزامه، بل وصل إلى حد المناداة بنوع من “الواقعية” و”النقد الأيديولوجي”. وهنا لا بد من التنويه إلى تفرقته بين ما أطلق عليه: “الأدب الصدى” و”الأدب القائد”، و”الأدب الموجه”. متبنياً نوعاً من الواقعية الاشتراكية التي بدأت بالتعاطف مع (محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس) في كتابهما “في الثقافة المصرية”، السابق الاشارة اليه، في مواجهة طه حسين والعقاد. وعندها أصدر كتابه: “الديمقراطية السياسية”، معبراً عن يسار الليبرالية (الديمقراطية الاجتماعية)، حيث ظهر في كتاباته مفهوم “الالتزام في الأدب”. ثم نشبت حرب 56، فظهر لديه مفهوم “الواقعية”.
ومن يتأمل كتب مندور طوال الخمسينيات يجد عناصر التحول ماثلة بقوة، منذ صدور كتابه: “الشعر المصري بعد شوقي” 1954 وما تلاه. بيد أن التحول هنا لم يكن خالصاً ولا تاماً، بل بقيت نثارات من الرومانسية متمثلة في العلاقة بين النص وصاحبه والتأثرات الذاتية للناقد والتركيز على الصياغة اللغوية.. الخ.
ويعد كتاب “النقد الايديولوجي” ممثلاً للذروة التي وصل اليها مندور، وهي تلك التي جاءت في أربع مقالات بجريدة الشعب عام 1958، وجمعت بعد وفاته. حيث نلاحظ انه قد استبدل ما أطلق عليه “النقد الاعتقادي” بـ “النقد الأيديولوجي” وهو النقد الذي يسعى إلى تبين مصادر الأدب والفن ووظائفها عند الأديب وتأثيرها في المتلقي. بالمعنى الذي ينقل التركيز النقدي من الفردي إلى الجمعي ومن الحرية الغامضة إلى الالتزام المحدد. ومن السلبية إلى الايجابية. ومن الشكل (الصياغة) إلى المضمون. ويتم فهم العمل بمجمله بوصفه “انعكاساً” لواقع الحياة وتطورها. فيأخذ منها ويعطيها. ويصبح هذا في رأيه هو “المفهوم الديالكتيكي للفلسفة الاشتراكية بالنسبة للأدب” (جابر ص 58)
وعلى الرغم من هذا فإننا لا نستطيع القول بأن مندور قد قطع بصورة كاملة مع أفكاره الوسطية السابقة، بل بقي الانطباع التأثري الذوقي، إلى جانب البحث في المصادر والأهداف. وبقي المحور الجمالي الذي يبحث في الصياغة والأساليب. يقول:
“وهذا النقد الايديولوجي لا يمكن في مذهبنا أن يغني بأية حال عن النقد الفني الجمالي الذي يتميز به الأدب عن غيره من الكتابات، فالأدب هو كل ما يثير فينا بفضل خصائص صياغته انفعالات عاطفية أو احساسات جمالية”. (جابر ص 58)
ويعلق جابر على ذلك بقوله:
“تلك كلمات يرجع صدرها إلى الستينيات وعجزها إلى الأربعينيات (لانسون على وجه التحديد)” (نفسه).
وتلك هي نهاية محاولات التكيف الوسطي عند مندور. غارساً بذلك بذرة تبحث عن الاكتمال والنمو على أيدي الأجيال القادمة. يقول:
“اننا نهيب بأدباء مصر والعرب أن يواصلوا الجهاد وأن لا تلهيهم المكاسب عن بقية الشوط، فنحن لا نزال في حاجة إلى تعميق القيم الجديدة في نفوس الجيل الحاضر ثم الأجيال الناهضة، بل وأن نترك للأجيال اللاحقة شواهد على الجهاد المرير الذي تحمله جيلنا.” (نفسه ص58)
وبهذا يمكننا القول بأن مندور قد فتح عدة أقواس تبحث عن الملء ورؤس موضوعات ومقترحات نظرية تبحث عن التحقق.
علينا أن نتداول أمر هذه الظاهرة المتنامية في العالم والممتدة إلى منطقتنا ومجتمعنا.
علاقة الفكر بالواقع، وعلاقة الأسبقية بينهما، والبراكسيس قضايا تُشكل أحد المباحث الرئيسة في النظرية الماركسية – اللينينية التي أدخلت من خلالها جديدها في الفلسفة النفيي لمفهومها المثالي والمادي الميكانيكي في آن معاً. فالفكر (الوعي) غير منفصل عن الواقع وتناقضاته وهي علاقة توجب تمييز مفهومها، ولتحديد تلك العلاقة هناك ضرورة، منهجية، لتحديد كيفية ارتباط الفكر بالواقع وبالبراكسيس ودورهم في التغيير.
نظام تعليمي لا يملك المواطن القدرة العقلية والإرادة المعنوية التي تساعده على اكتساب المهارات لقراءة وفهم واقعه للوصول إلى حقيقة وجوهر ما يدور حوله من ظواهر وأحداث. ولا يهتم برغبات التلميذ ولا يلبي حاجاته ولا يطور القدرات التي تمكن التلميذ من الخلق والابتكار والإبداع أو تملكه مهارات التحليل والتركيب والقبول والرفض والرؤى النقدية.
عُرِفَ الشعب الإيرلندي كأكثر الشعوب الغربيّة تأييداً للقضيّة الفلسطينيّة، حيث برز هذا التضامن في السنوات الأخيرة وخصوصاً بعد أحداث السابع من أكتوبر. ففي الأشهر الماضية، خرج الإيرلنديون بأعداد ضخمة في وقفات تضامنية في العاصمة الإيرلندية دبلن للتعبير عن دعمهم لفلسطين واستنكارهم لجرائم الاحتلال الإسرائيلي.