شهد العام 1954 تشكيل “العصبة الديمقراطية الكويتية” كأول تنظيم يساري سياسي كويتي، وبالتأكيد فقد ساهم عدد من العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتأثيرات الدولية والإقليمية في تكوين هذا التنظيم ويأتي في مقدمتها:
1- تشكّل الطبقة العاملة بعد اكتشاف النفط في 1939 وتصديره في 1946 وصناعة تكريره بداية الخمسينيات وما صاحب ذلك من بروز حركة مطلبية عمالية تمثلت في الإضرابات التي قام بها عمال النفط في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات.
2- تأثير تنامي الحركات التحررية في العالم وفي البلاد العربية مع انهيار النظام الاستعماري العالمي في أعقاب الحرب العالمية الثانية وبروز دور الاتحاد السوفياتي ونجاح الثورة الصينية بقيادة الحزب الشيوعي.
3- تأثير قدوم الوافدين العرب والأجانب من دول الجوار للعمل في الكويت، وبينهم يساريون وتقدميون من فلسطين وسورية ولبنان، ولجوء أعداد كبيرة من الشيوعيين واليساريين العراقيين والإيرانيين إلى الكويت في بداية الخمسينيات هرباً من بطش السلطات الحاكمة في العراق خلال العهد الملكي وبعد هزيمة الحكم الوطني بقيادة الدكتور محمد مصدق في إيران.
ونلاحظ هنا أنّ تأسيس “العصبة الديمقراطية الكويتية” في العام 1954 قد تزامن تاريخياً مع تأسيس “جبهة الإصلاح الوطني” في السعودية ذات الاتجاه اليساري خلال العام 1954 التي تحولت في العام 1958 إلى “جبهة التحرر الوطني”، وتأسيس “جبهة التحرير الوطني البحرانية” في 15 فبراير “شباط” من العام 1955، وهذا ما يمكن أن نعزوه إلى تشابه الظروف والتأثيرات التي أدّت إلى تأسيس هذه التنظيمات اليسارية الثلاثة في الكويت والسعودية والبحرين.
ووفقاً للمصادر السوفياتية المتوافرة لدى أكاديمية العلوم في الاتحاد السوفياتي – معهد الاستشراق يشير الكتاب الصادر عنها تحت عنوان “تاريخ الأقطار العربية المعاصر”، منشورات دار التقدم في موسكو، 1976 (الجزء الأول صفحة 575) إلى أنّه في عام 1954 تأسست الرابطة الديمقراطية الكويتية التي طالبت بعقد المجلس التأسيسي لوضع الدستور وقطع دابر التدخل البريطاني والأميركي وتصفية الحماية (لاحظ الخلط في الترجمة بين عصبة ورابطة)… فيما يورد الدكتور فلاح المديرس في كتابه “ملامح أولية حول نشأة التجمعات والتنظيمات السياسية في الكويت (1938-1975)” الصادر عن دار قرطاس للنشر، الكويت، ط 2، صفحة 30 إلى أنه في عام 1954 “ظهر أول تنظيم شيوعي سري يحمل اسم “العصبة الديمقراطية الكويتية” والتي نشطت في توزيع المنشورات التي تحتوي على نقد للأوضاع المحلية والهجوم على المصالح الغربية في الكويت ومنطقة الشرق الأوسط. وكان “للعصبة الديمقراطية الكويتية” نشرة أسبوعية تحمل اسم “راية الشعب الكويتي”، والتي رفعت شعارات معادية للإمبريالية والمصالح الغربية في الكويت، وطالبت “راية الشعب الكويتي” بوضع دستور للبلاد وإجراء انتخابات حرة وانتقدت أوضاع العمال العاملين في الشركات الغربية للبترول”، وهذا ما تضمنته تقارير بريطانية صادرة عن المعتمد السياسي البريطاني في الكويت إلى المقيم البريطاني في الخليج ومقره البحرين بتاريخ 26 أغسطس 1954.
ويزيد الدكتور فلاح المديرس على ذلك في كتابه “التوجهات الماركسية الكويتية”، دار قرطاس للنشر، الكويت، 2003 في الصفحتين 19 و20 إلى أنّ “العصبة الديمقراطية الكويتية” طالبت بأن تسلم الحكومة البريطانية إلى حكومة الكويت جميع الودائع المحفوظة في البنوك البريطانية من أجل استخدامها في التنمية الاقتصادية في الكويت، ووصف المعتمد السياسي البريطاني في الكويت الهجوم الذي شنته “العصبة الديمقراطية الكويتية” بأنه من أشد الانتقادات التي وجهت لنظام الحكم في الكويت وذلك في تقريره:
F.O. 371/109810 – confidential 107/3/33/54. British Embassy. Washington D.C to Eastern Department, F.O., London. 20 Nov.1954
وفي كتاب “صقر الخليج عبدالله مبارك الصباح” للدكتورة سعاد محمد الصباح، دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع، ط3، الذي يعرض سيرة رئيس دوائر الشرطة والأمن العام في الخمسينيات ترد تفاصيل عدة من بينها أنّ القنصلية الأميركية في الكويت كتبت في سبتمبر من العام 1954 تقريراً عن المنظمات الشيوعية في الكويت، بل لقد بلغت التقارير الأميركية في هذا الشأن خلال ذلك العام 16 تقريراً، وفي شهر يناير من العام 1955 وحده تم إعداد 6 تقارير، وفي أبريل من العام 1955 عقد اجتماع بين أحد موظفي السفارة البريطانية بواشنطن مع المسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية لتبادل المعلومات حول النشاط الشيوعي في الكويت وفقاً للوثيقة المعنونة:
Memorandum of Conversation about Communist Activities in Kuwait, April 15. 1955
ويورد الكتاب في الصفحة 83 منه أنّه “في عام 1956 استمرت التقارير حول النشاط الشيوعي في الكويت، وقدم الوكيل السياسي إلى الشيخ معلومات عن نشاط الشيوعيين المحليين، وذلك بناءً على تقارير أجهزة المخابرات البريطانية في البصرة، والتي رصدت ازدياد التعاون بين العناصر الشيوعية في العراق والكويت”.
وفي الصفحة 84 يشير الكتاب إلى أنّ الشيخ عبدالله مبارك الصباح رئيس دائرة الأمن العام، بالتعاون مع مستر كوتس المستشار البريطاني لدائرة الأمن العام، بدأ “في اتخاذ إجراءات الملاحقة والقبض على الشيوعيين، ولعب سكرتيره هاني قدومي دوراً هاماً في هذا المجال. وفي السابع من مايو تم القبض على 12 شيوعياً غير كويتي، وفي مايو عام 1956 تم القبض على 15 شيوعياً آخر. ولكن في مناسبة أخرى ضاعت فرصة القبض على ثلاثين شيوعياً كانوا يعقدون اجتماعاً في أحد المنازل بالمدينة بسبب عدم تحرك عبداللطيف فيصل الثويني، رئيس قسم الأمن الداخلي، في الوقت المناسب مما دفع كوتس إلى انتقاده لدى الشيخ”!.
ويضيف الكتاب “وتزايدت انتقادات المستشار كوتس لأسلوب الثويني في التعامل مع الشيوعيين، الذي كان يقوم باستدعاء المشتبه فيهم للحضور إلى مبنى الأمن العام، مما أعطاهم فرصة للتخلص من الوثائق التي قد تكون بحوزتهم قبل ذهابهم” وذلك وفقاً لتقرير:
From American consulate (Brewer) to Department of State, March 6, and April 10. 1956
ومع اشتداد حملة العداء للشيوعية والاتحاد السوفياتي وملاحقة اليساريين الكويتيين واعتقالهم والتضييق عليهم، وإبعاد اليساريين غير الكويتيين من الكويت، فقد جرى تفكيك “العصبة الديمقراطية الكويتية” في العام 1959.
بحلول شهر نوفمبر 2024، وفي خضم الحرب الدائرة منذ أكتوبر 2023 في غزة والضفة والجنوب اللبناني بين قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية من جهة وقوات الاحتلال الصهيوني بمشاركة أميركا من جهة أخرى، يكون قد مضى 89 عاماً على المواجهات المسلحة الأولى للشعب الفلسطيني ضد التشكيلات الصهيونية المسلحة القادمة من مختلف بلدان العالم لاحتلال فلسطين وإقامة دولة دينية لليهود طبقاً للمشروع الاستعماري بقيادة بريطانيا، أقوى دولة استعمارية في تلك الفترة.
إن دراسة التاريخ بتناقضاته وتطوراته تساهم في تجنب الأخطاء وتطوير ما كان صحيحاً. فالأحداث التاريخية تبقى في ذاكرة المجتمعات. هذه الأحداث قد لا يُرى تأثيرها وقت حدوثها، لكن تضاف إلى جينات هذه المجتمعات ومفعولها يورَّث جيلاً بعد جيل. إذاً، من المهم أن يتم تدوين واستذكار التجارب، الإيجابية منها والسلبية، بين فترة وأخرى حتى تدُرس كيلا تنسى وتندثر وتفقد الأجيال القادمة الإحساس بمدى أهميتها وتأثيرها على حياتهم.
محاولة لتسليط بعض الضوء على جوانب مهمة من مسيرة الحزب تتعلق بما تميّز به نضال هذا الحزب الطليعي ودوره وخبراته وتجاربه المتنوعة، التي تشكّل له رصيداً نضالياً تاريخياً غنياً ويفترض أن تكون مصدر إلهام للمناضلين العرب.
ضمن حالة النهوض العامة، التي شهدتها الحركة الوطنية الديمقراطية الكويتية في النصف الأول من ستينات القرن العشرين، وامتداداً للمسار التاريخي الممتد منذ الخمسينات لنضال الحركة الطلابية الكويتية، تأسست في ديسمبر من العام 1964 المنظمتان الطلابيتان الديمقراطيتان: الاتحاد الوطني لطلبة الكويت والاتحاد المحلي لطلبة الكويت “الثانويين”.