كيف يُبَرّر التعذيب؟ في عمق  سيناريو القنبلة الموقوتة

-+=

صدر عن منشورات تكوين كتاب “كيف يُبَرَّر التعذيب؟” في عمق  سيناريو القنبلة الموقوتة، للكاتب أليكس آدامز، ترجمة د. إيمان معروف.

كلمة الغلاف

شهد الصعود الحالي لليمين العالمي – وفي ظلّ قيم العالم الغربي الرأسمالي – عودة المدافعين عن التعذيب إلى واجهة التيار السياسي، منطلقين من ترويجهم لصوابية فكرة تعذيب الخصوم من أجل تحقيق الأمن العام. وتشير آخر الاستطلاعات أن قطاعات كبيرة من السكان في الديمقراطيات العالمية مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تعتبر التعذيب مبرراً ومشروعاً في حالات الطوارئ. حيث يتراءى التعذيب في الثقافة الشعبية السائدة على نطاق أوسع من أي وقت مضى، وغالباً في الأفلام أو الروايات التي دائماً ما تجنح لتصوير “سيناريو القنبلة الموقوتة”.

في هذا الكتاب، يدرس الناقد الثقافي أليكس آدامز هذا السيناريو بعمق، بالنظر إلى الطرق التي تُقدم بها للعامة من خلال الأفلام والروايات والبرامج التلفزيونية. ويحاول من خلاله تعرية وانتقاد حجة هذه النظرية خطوة بخطوة، حيث يُذكّرنا هذا الكتاب بأنه على الرغم مما يجعل البعض يتقبّل “سيناريو القنبلة الموقوتة” في حالات انفعالية بداعي الحفاظ على الأبرياء، إلّا أنه من غير الممكن تبرير التعذيب على الإطلاق؛ إذ أنّ التعذيب هو سمة ثابتة للحكومات الشمولية والاستبدادية والتاريخ الاستعماري (الكولونيالي) العالمي والحاضر الاستعماري. وبالتالي فإن سيناريو القنبلة الموقوتة يُستخدم لحجب هذا التاريخ المادي للتعذيب الممنهج، ويعترف به إلى المدى الذي يظهر فيه أنه ينحرف عنه.

المقدمة

التعذيب وبنية الفطرة السليمة

يستحيل نقاش ما هو واضح (١).الكسيس جيني

مهلاً. أي سيناريو؟ وأي قنبلة؟

سيناريو القنبلة الموقوتة، تجربة فكرية حول متى يكون من المقبول أخلاقياً ممارسة التعذيب؟ إن افترضنا أنه مقبول أصلاً. إن خضتَ يوماً نقاشاً حول التعذيب، فلا بدّ أنك سمعت عن هذا السيناريو. غالباً ما يُنظر إلى هذا السيناريو على أنه سؤال بلاغي يتطلب إجابة شخصية، ويوجِّه بدوره المشاركين نحو اختيار إجابة معينة. إذ يسير النقاش عادة وفق الخطوط التالية: يعلم الجميع أن التعذيب لا يمكن تبريره في الظروف العادية لأنه شكل من أشكال سوء المعاملة المثير للاشمئزاز والغريب والمنفّر، ولا يمارسه إلا المختلّون عقلياً أو بلطجية الحكومات الدنيئة، إلى جانب أنه يسبب لضحاياه ألماً وضيقاً شديدين وربما الموت. لا أحد، بالطبع، يحاول تبرير التعذيب في حد ذاته. لكن تخيل، إن استطعت، أن قنبلة موقوتة وضعت في مكان خفي في مدينة ما، والساعة تقترب من الصفر بلا رحمة وصولاً إلى لحظة التفجير، وقد وقع المجرم المسؤول عنها في قبضتك. اختلف الوضع هنا: نحن لسنا أمام رجل مختلّ عقلياً يعذب شخصاً ما بشكل فظيع من باب التسلية، أو أمام جماعة من ذوي القمصان البنية يقتلون المنشقين سياسياً والمعارضين في قبو التعذيب لدى بعض الأنظمة الاستبدادية. أنت أمام إرهابي، فهل يمكنك -هل فعلاً يمكنك- تعذيب هذا الإرهابي المذنب بالتأكيد من أجل انتزاع معلومات منه في غاية الأهمية حول مكان القنبلة كي تتمكن من إيقافها في اللحظة الأخيرة قبل أن تنفجر وتودي بحياة مئات أو آلاف الضحايا الأبرياء؟

نذكر ما يشبه ذلك في فيلم غريغور جوردن «اللا متصور Unthinkable»، قام إرهابي بزرع قنابل نووية في ثلاث مدن في جميع أنحاء الولايات المتحدة وقدم مطالب جيوسياسية مبالغ بها يعلم جيداً أنه من الصعب تلبيتها. أو ربما، مقطع من رواية جان لارتيجوي السينتوريون، حيث زرع مجموعة من رجال العصابات القوميين 15 قنبلة موقوتة في عاصمة دولة استعمارية كجزء من حملتهم المسلّحة المناهضة للاستعمار. أو ربما، كما في فيلم تشارلز برونسون أمنية الموت الجزء الخامس: وجه الموت، حين يضطر الرجل اليائس لإنقاذ ابنة زوجته المختطفة وحمايتها من القتل على يد رجل عصابات مخيف بلا قلب. فهل التعذيب في هذه السيناريوهات هو ردّ الفعل الصحيح أو السلوك الصحيح الذي يجب اتباعه؟

يأتي سيناريو القنبلة الموقوتة بأشكال عديدة. وتؤطر جميعها بأساليب درامية متنوعة ضمن مجموعة هائلة من الأنواع الأدبية والفنية، وتستدعي نخبة واسعة من الأفكار المتداخلة، لكن مكوناتها الأساسية هي نفسها تقريباً – الحالات الطارئة العاجلة محدودة الوقت والأسير المذنب، وافتراض أن ممارسة التعذيب على هذا الأسير سينتج عنها معلومات حاسمة ومحددة ستقود مباشرة إلى حلّ مرضٍ للحالة الطارئة وإنقاذ الضحايا الأبرياء. لذلك، من الواضح في هيكل السؤال نفسه أنه لا يعترف إلا بردّ واحد مقبول أخلاقياً: نعم، إذا افترضنا أن التعذيب سيحقق ما نريد، وإذا ثبت أن التعذيب في هذه الحالة هو أهون الشرين، وإن كانت ممارسته تفضي إلى حماية حياة الأبرياء، فمن المؤكد أن بالإمكان التغاضي عنه والقبول به.

يمكن العثور على أمثلة في كتب الفلسفة والسياسة بقدر ما يمكن العثور عليها في الأدب. فعلى سبيل المثال، كتب الفيلسوف مايكل ليفين عام 1982، “في وقت قريب سيهدِّد إرهابي عشرات الآلاف من الأرواح، وسيكون التعذيب هو السبيل الوحيد لإنقاذهم”(٢). وفي مقالته القصيرة، التي تتخللها مواقف افتراضية عاطفية مثل تفجير سلاح نووي في مدينة نيويورك في الرابع من يوليو أكّد بشكل قاطع أن التعذيب في ظل ظروف سيناريو القنبلة الموقوتة «ليس فقط مسموحاً به بل إلزامي أيضاً من الناحية الأخلاقية». ويرى ليفين أنكَ كلما حظيتَ بفرصة لمنع الدمار المروّع من خلال ممارسة التعذيب الجسدي على الشخص المسؤول عنه، فلا ينبغي أن تتردّد على الإطلاق.

وبعد مضيّ عشرين عاماً، رأى آلان ديرشوفيتز، محامي الحقوق المدنية والروائي الذي حقق مكانة بارزة ومربحة عبر الدفاع عن المواقف الاستفزازية، أن على الولايات المتحدة وديمقراطيات التعذيب الأخرى إصدار ما وصفه بـ “مذكرات التعذيب” في الحالات الطارئة التي تشبه سيناريو القنبلة الموقوتة. ويفترض أولاً أن “من الأفضل بالتأكيد تعذيب الإرهابي المذنب الذي يحجب بشكل غير قانوني المعلومات اللازمة لمنع ارتكاب عمل إرهابي بدلاً من ترك عدد كبير من الضحايا الأبرياء عرضة للموت”(٣)، ويفترض ثانياً أن التعذيب سوف يُرتكب بالتأكيد إذا وقع مثل هذا الحدث. وبعبارة أخرى، يتفق الجميع على أن التعذيب ضد شخص واحد أفضل من هجوم إرهابي ضد العديد من البشر، لأنه ينطوي على تعرّض عدد أقلّ من الأشخاص لألم أقلّ؛ ثم يفترض أن الشرطة أو القوات العسكرية المسؤولة عن الأزمات الطارئة ستوافق على هذا الرأي وتقرر ممارسة التعذيب من أجل منع هذا الهجوم. وينتقل بدءاً من هذه النقطة إلى الاستنتاج بأن التعذيب في سيناريو القنابل الموقوتة يجب ألا يعاقب عليه القانون ضمن فئة محدودة من الظروف الاستثنائية، من أجل الحماية القانونية لعملاء القانون والنظام الذين، حسب ديرشوفيتز، يمارسون فقط الشيء الواضح والطبيعي الذي سيفعله أي منا في مثل هذه الحالة.

بعد مضيّ ثلاثة عشر عاماً، دافع دونالد ترامب مراراً وتكراراً عن التعذيب أثناء حملته الانتخابية. وقد فاز بالدعم لترشيحه للرئاسة في جلسات نقاش الجمهوريين من خلال الادّعاء بأنه سيعيد أسلوب التعذيب بالإيهام بالغرق “بل وحتى ما هو أسوأ من ذلك بكثير”(٤). وحاول في لقاء مع المجلة الدورية الأمريكية يو إس إيه توداي USA Today اتخاذ موقف متشدد بشأن الأمن القومي من خلال الادعاء بأنه “سيدعم ويؤيد استخدام أساليب الاستجواب المحسّنة [تعبير ملطف شائع للتعذيب] إذا كان استخدام هذه الأساليب سيعزز حماية وسلامة الأمة”، واستخدم مفردات جاك باور، بطل المسلسل التلفزيوني 24 الذي أنتجته شبكة فوكس التلفزيونية، ووظّفت الشخصية في كونها عضو في وحدة مكافحة الإرهاب 24، حيث وعد بأنه “سيفعل كل ما يلزم لحماية هذه الأمة وشعبها والدفاع عنها”(٥). وفي وقت لاحق، في أول مقابلة تلفزيونية له كرئيس للولايات المتحدة، دافع ترامب عن أسلوب التعذيب بالإيهام بالغرق، وادعى أن التعذيب “له فوائده دون أدنى شك”(٦).

بالنظر إلى أن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية يدافع صراحةً عن التعذيب في أي فرصة سانحة، وأنه عيّن جينا هاسبيل، العميل الميداني السابق في وكالة الاستخبارات المركزية مسؤولة عن إدارة موقع أسود لأحد سجون التعذيب [موقع أسود هو مصطلح عسكري يشير إلى المرافق التي تسيطر عليها وكالة المخابرات المركزية وتستخدمها الحكومة الأمريكية في حربها على الإرهاب لاحتجاز الإرهابيين]، ومن ثم إدارة وكالة الاستخبارات المركزية(٧)، فإننا لا نبالغ حين نقول إن التشجيع على التعذيب هو من أخطر القضايا السياسية الدولية اليوم. ولكنها مع ذلك ليست مجرد مسألة تخص الولايات المتحدة.

لقد دافع الرئيس البرازيلي المنتخب حديثاً بول بولسونارو عن التعذيب، وصرّح في مقابلة تلفزيونية معه أنه “يؤيد التعذيب، والناس يؤيدونه أيضاً كما تعلم”؛ كما أوصى بالتعذيب كأسلوب للشرطة في المواقف الطارئة التي تتطلب التحقيق مع المتاجرين بالبشر والخاطفين(٨). وفي مكان آخر، قام الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي بإضفاء الطابع المؤسسي على مظهر خطير جداً من مظاهر العنف، يشمل التعذيب، كجزء من حربه على المخدرات، وكذلك الرئيس السريلانكي ماهيندا راجاباكسا المتورط في جرائم حرب من ضمنها جرائم التعذيب. وتواجه بريطانيا أيضاً دعوات متكررة لإجراء تحقيقات قضائية بشأن تواطؤ أجهزتها الأمنية في ممارسات التعذيب بعد أحداث 11 سبتمبر وتطبيق نظام الترحيل الاستثنائي(٩)، كما شاركت القوات البريطانية قديماً في عمليات التعذيب، خاصةً في سياق العملية المطوّلة والمؤلمة لإنهاء الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية (في قبرص وعدن وكينيا وأيرلندا الشمالية، على سبيل المثال)(١٠). ونظراً لإعادة إحياء التعذيب على الصعيد الدولي كقضية عالمية، يبدو من المناسب لمعارضي التعذيب إخضاع مبررات التعذيب التي تُرَوَّج في الخطاب الثقافي والسياسي الشعبي إلى التدقيق النقدي. وهذا هو الغرض من هذا الكتاب.

مكتبة ومنشورات تكوين

Author

  • منشورات تكوين

    دار نشر تأسست عام 2017، مقرها الكويت والعراق، متخصصة في نشر الكتب الأدبية والفكرية تأليفاً وترجمة.

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

الشهيد غسان كنفاني أديب المقاومة .. “ورقة من غزة”

تحية إلى الشهيد غسان كنفاني الأديب الثائر المقاوم الذي امتزج حبر قلمه بدمه الأحمر القاني.. تحية إلى غزة التي مازالت تكتب فصول “ورقة من غزة” بمزيد من الصمود والمقاومة… تحدد لنا البوصلة وتعلمنا سر الكرامة مقاومة العدو الصهيوني لتحرير فلسطين من المي للمي.

في إجابة كَنْط عن سؤال ما هي الأنوار وتمييزه ضد المرأة 

“ثار” كَنْط على الواقع بصراخ في فضاءات الكلام والتنظير المنفصل عن أرض الواقع لتأبيده بأشكال مختلفة في الشكل متماثلة في المضمون، بما يعكس تأبيد أيديولوجية الاستغلال تحت شعار “العقل وحريته”، على أساس ما تريده سلطة الاستبداد من العقل.

رغبة ما بعد الرأسمالية… المحاضرات الأخيرة لمارك فيشر

يضمّ هذا الكتاب تلك المحاضرات الأخيرة، التي بدأها فيشر بالتساؤل حول معنى “ما بعد الرأسمالية”، واستمر بتتبع العلاقةِ بين الرغبة والرأسمالية، متوقفاً عند فرويد وماركوزه ولوكاتش وليوتار. نسمع صوت فيشر يائساً تارةً، وباحثاً عن الأملِ تارة، يستعيد إرث الثقافة المضادة من السبعينيات، ويفكّر في شبحِ عالمٍ كان يُمكن أن يكون حراً.