المشروع الامبريالي – الصهيوني .. والحرب الممتدة من غزة إلى جنوب لبنان

في الثامن عشر من كانون الثاني/ يناير 1919، عقد “الحلفاء” المنتصرون في الحرب العالمية الأولى “مؤتمر باريس للسلام”(1) بهدف إقرار ما أسموه أسس السلام، من جهة، ومن جهة ثانية من أجل إعادة رسم خارطة العالم الجديدة وتوزيع الحصص رسمياً بين المنتصرين، بعد أن كانت بريطانيا وفرنسا (ومعهما روسيا القيصرية) قد اتفقتا، قبل نهاية الحرب، على كيفية تقسيم تركة “الرجل المريض” العثماني تحت مسمى “إتفاقية سايكس – بيكو” في العام 1916، وبعد أن كان وزير خارجية بريطانيا جيمس بلفور قد قدّم، في العام 1917، وعداً للحركة الصهيونية عبر ممثلها المصرفي روتشيلد بإعطائها قسماً من فلسطين وبتوسيع معدّل هجرة اليهود إليها، خاصة وأن “الهجرة اليهودية” حتى العام 1919 لم تأتِ بالثمار التي كانت الحركة الصهيونية تنتظرها، إذ أن نسبة اليهود إلى السكان الأصليين في فلسطين لم تكن تتجاوز الـ 8 بالمئة(2). لذا لم يستغرب أحد من ممثلي الدول السبعة والعشرين المتواجدين في المؤتمر أن يكون بينهم وفد تابع للمنظمة الصهيونية العالمية، ولا أن يطرح هذا الوفد ورقة تتضمن مقترحات، نذكر منها: أولاً، الاعتراف بحق “الشعب اليهودي” التاريخي في فلسطين، وحقه في إعادة بناء “وطنه القومي” على أرضها، إضافة إلى تحديد للحدود التي يريدها لكيانه، من فلسطين شمالاً حتى نهر الليطاني، وشرقاً حتى خط سكة حديد الحجاز، وجنوباً حتى منطقة العريش(3).

وهكذا كان، تقريباً. فقد أفسحت بريطانيا، الدولة المنتدبة والتي امتلكت حصرية قرار إعطاء الجنسية الفلسطينية، وبرضى الدول الرأسمالية الكبرى الأخرى، في المجال لمتابعة وتوسيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وأتى “مؤتمر بيلتمور” في نيويورك، في العام 1942، ليعلن أن عدد المهاجرين اليهود قد أصبح ما يقارب نصف المليون، وأن وجودهم قد ساهم في جعل “الصحراء تزهر”، وأن الأوان قد حان لكي تتسع الهجرة اليهودية دون قيد أو شرط، بل وخارج دور الدولة البريطانية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بن غوريون وافق، مرحلياً، على قطعة من فلسطين إنطلاقاً من عنوانين: الأول، ويعتمد على قدرة الحركة الصهيونية على تأمين وجود حاسم لليهود داخل المنطقة المرغوب بالسيطرة عليها، والثاني، ويكمن في مدى الإمكانية على جعل الدول الكبرى توافق على تلك الحدود(4).

“الأرض والقوة” الصهيونيتان في غزة والضفة الغربية

ما نحاول قوله أن كل هذه المشاريع التي طرحتها الحركة الصهيونية، وتبنتها بريطانيا، ومن ثم الولايات المتحدة الأميركية، التي أصبحت الدولة المنتدبة الأم بعد الحرب العالمية الثانية، إنما كانت مشاريع جزئية ضمن المشروع الأساسي الذي يمتد من النيل إلى الفرات، والذي تشكّل “فلسطين التاريخية” (كما طرح في مؤتمر السلام في باريس) القلب منها. لذا، نشطت على الدوام حركة الاستيطان، بدءاً من الأراضي المحتلة عام 1948، وخاصة بعد العام 1967 والقرار الدولي 242 الذي أفسح في المجال أمام الكيان الصهيوني للتملص من تنفيذ الانسحاب من الأراضي التي احتلها، بحجة أن القرار يتحدث (في نسخته الانكليزية) عن “أراض محتلة”، وكأن من كتبه(5) كان يحاول إعطاء هذا الكيان إمكانية التسلّح بقوة القرار الدولي من أجل السيطرة على أجزاء جديدة من فلسطين واستقدام مهاجرين جدد للحلول محل السكان الأصليين الذين طالتهم هجرات قسرية (ترانسفير) متعددة منذ العام 1948 وحتى الآن…

هكذا كان، إن في الضفة الغربية المحتلة، والقدس خصوصاً، أم في غزة لاحقاً. وتجدر الإشارة إلى أن تسارع حركة الاستيطان، بعد توقيع اتفاق أوسلو في العام 1993، إنما أتى ليقلل من الخسارة الناتجة عن انسحاب الاحتلال من قطاع غزة، وتفكيك المستوطنات التي أنشأها داخله، واستبدالها بتوسيع المستوطنات في ما يسمى بمنطقة الغلاف (التي هي أرض غزاوية بالأساس)، الأمر الذي حوّل القطاع المحاصر إلى سجن تمهيداً للخلاص من أهله إما بالقتل البطيء أم بالاقتلاع. هذا، إلى جانب الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة، ونشر المستوطنات الجديدة بالعشرات كي تشكّل عائقاً أمام أي تفكير بتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 181 المتعلق بتقسيم فلسطين… دون أن ننسى الاعتداءات على مخيمات اللاجئين، خاصة في لبنان، والحروب التي خيضت من أجل ضرب منظمة التحرير الفلسطينية، وبالتحديد قوى اليسار ضمنها، والاغتيالات التي نفّذت وتنفذ ضد القيادات والكوادر الفلسطينية.

ومن يراجع التاريخ خلال السنوات الثلاثين الماضية لا بد وأن يرى الخطة التي حاكتها الحركة الصهيونية من أجل الانتهاء من وضع اليد على كامل فلسطين التاريخية(6). وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الخطة استندت بالأساس على عاملي “الأرض والقوة”، أي الاستيلاء على الأرض وارتكاب جرائم التهجير والابادة الجماعية بالاعتماد على قوة السلاح، وبالتحديد سلاح الجو الذي يقلل من خسائر العدو. ذلك أن العامل الديموغرافي الذي نادى به بعض غلاة الصهاينة لم ينجح في تحويل المعادلة لصالح المحتل، بل على العكس من ذلك، ففي نهاية كل حرب، كان الهروب من فلسطين المحتلة سائداً، ولم تنجح حركة استقدام اليهود الفلاشا، في الآونة الأخيرة، في جعل دفة الميزان العددي تميل لصالح الصهاينة(7). لذا، من الملاحظ العودة إلى التفكير بتهجير جديد (ترانسفير) لكامل سكان غزة، أو من يتبقى منهم بعد القتل المتعمّد، تارة إلى مصر، وطوراً إلى جزيرة قريبة تستأجر لإيوائهم، باستثناء ما لا يزيد عن مئتي ألف منهم يمكنهم البقاء للقيام بالأعمال التي يرفض المستعمرون القيام بها.

بالإضافة إلى ما تقدم، لا بد من التذكير بعاملين مهمين يجعلان من قطاع غزة مركزاً اقتصادياً أساسياً بالنسبة للكيان الصهيوني ولواشنطن. أول هذه العوامل هو ما يحتويه بحر غزة من ثروة غازية تريليونية(8). وثانيهما هو الموقع الإستراتيجي المعدّ منذ أوائل ستينيات القرن الماضي، وبالتحديد بعد تأميم قناة السويس وما تلاه من عدوان ثلاثي على مصر، لبناء قناة تصل خليج العقبة بالبحر المتوسط. وإذا كان قد تم تأجيل المشروع، بسبب الفرق في الطول مع قناة السويس، عدا عن الكلفة الباهظة، فإن المشروع الأميركي – الصهيوني الجديد قد خطط كي يمر في غزة، كونها الطريق الأقصر والأوسع والأقل كلفة… هذا، عدا عن تكريس الكيان بديلاً عن مصر، وخاصة عن حاجة واشنطن له من أجل مواجهة مشروع “طريق الحرير” الصيني.

مشروع “إسرائيل الكبرى”

هل يعني أن مشروع الاستيلاء على القطاع وتهجير كل أهله، مع استمرار الاستيطان في الضفة الغربية، سيشكل نهاية التوسّع الصهيوني؟.

بالطبع لا. وما أشرنا إليه بالنسبة للخريطة الصهيونية التي قدّمت إلى مؤتمر باريس في العام 1919 يؤكد لنا أن الصهاينة سيسعون – إذا لم يتم ردعهم – إلى التوسع حتى الليطاني في جنوب لبنان(9). وذلك بعد أن وضعوا اليد على 1420 كلم مربعاً من مياهنا الإقليمية، وبعد أن طرحوا إعادة ترسيم الحدود البرية والعودة إلى تنفيذ القرار 1701، أي إبعاد أية إمكانية للمقاومة في قسم كبير من الجنوب الذي يقصف اليوم بالأسلحة المحرّمة (ومنها الفسفور الأبيض) ويهجّر أهله مجدداً.

كل هذه الجرائم، المستمرة منذ أربعة أشهر، ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني في قطاع غزة وجنوب لبنان، تتم في ظل صمت عربي ودولي رسمي… باستثناء الموقف المشرف لأبناء نيلسون منديلا في جمهورية جنوب أفريقيا وما تلاه من قرار اتخذته محكمة العدل الدولية من أجل حماية فلسطينيي غزة ومنع حدوث أي جريمة إبادة جماعية ضدهم.

أخيراً، لا يجب أن ننسى محاولات الكيان الصهيوني وضع اليد نهائياً على الجولان المحتل، ولا كذلك محاولاته التوسع باتجاه الأردن ومصر وبعض المناطق العراقية…

لذا، الحل الوحيد يكمن في المقاومة الشاملة والموحدة للمخطط الامبريالي – الصهيوني. وأولها المقاومة المسلحة.


____________________________________

(1) –   استمر مؤتمر باريس للسلام سنة، تم خلالها التوقيع على عدة اتفاقيات، أهمها بالنسبة لنا إتفاقية سيفر التي تعتبر تطبيقاً لاتفاقية سايكس – بيكو؛ كما تم إنشاء عصبة الأمم التي وافقت على انتداب بريطانيا وفرنسا على مستعمرات السلطنة العثمانية. والمعروف أن الثورة البلشفية كانت قد فضحت محتوى اتفاقية سايكس – بيكو التي وقع عليها وزير خارجية القيصر سيرغي سازونوف.

(2) – حسب بعض الكتب والدراسات التي صدرت في نهاية القرن الماضي..  

(3)  راجع كتاب هنري لورانس القضية الفلسطينية، الجزء الأول، دار فيّار للنشر، 2002.

(4)-  كتاب أنيتا شابيرا، الأرض والقوة، الصادر عن جامعة ستانفورد 1999. بكل الأحوال، لم يطرح مشروع ما يسمى “إسرائيل الكبرى” إلا بعد حرب الأيام الستة في العام 1967.

(5)-  صاغ القرار اللورد كارادون، مندوب بريطانيا لدى مجلس الأمن، واشترط التصويت على القرار كما هو دون إدخال تعديلات عليه، فإما يقبل كما هو أو يرفض.

(6)-  بدءاً بالإعلان عن الكيان “دولة لليهود في العالم”، إلى تهويد القدس والإعلان عن تحويلها إلى عاصمة لتلك الدولة، إلى صفقة القرن ومؤتمر المنامة، وحركة التطبيع التي أعادت الحياة إلى كمب دايفيد، إلى الحديث المستمر عن موت القرار الدولي  رقم 194 والانتهاء من حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وصولاً إلى الرفض العلني لقيام دولة فلسطينية… إلخ.

 (7) –  راجع كتاب عامون سوفّر “حاجز الفصل”، القسم الثاني، جامعة حيفا، 2004.

(8) –   تضم مياه غزة البحرية حقلان رئيسيان للغاز، الأول، ويقع على بعد 35 كيلومتر غرب مدينة غزة، والثاني يمتد بين المياه الإقليمية للقطاع ومياه المناطق الفلسطينية المحتلة.

(9) –   الخطة باء في العدوان على لبنان في العام 1982: الوصول إلى نهر الأولي في صيدا، أي احتلال منطقة تقع على مسافة 45 كيلومتراً من الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة.

Author

  • د. ماري الدبس

    نائب الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني والمنسقة السابقة للقاء اليساري العربي.

اقرأ المزيد من المقالات ذات الصلة

احتدام حرب الجنرالات في السودان

تجددت الاشتباكات بين جنرالات الحرب في السودان الجنرال “حميدتي” قائد ميليشيا الدعم السريع، والجنرال البرهان قائد الجيش المختطف من الحركة الإسلامية، بشكل أكثر شراسة خلال شهر أكتوبر المنصرم على جميع محاور القتال، بخاصة في محوري الخرطوم وولاية الجزيرة.

أيقونة المقاومة الفلسطينية ليلى خالد في حوار خاص مع «تقدُّم»: عملية 7 أكتوبر بداية معركة التحرير والمقاومة بوصلتنا

خلاصة خبرتها النضالية ورؤيتها الثورية المفعمة بروح المقاومة والثقة بتحقيق النصر وتحرير فلسطين كل فلسطين، ولتضع أمامنا قراءتها للمشهد المقاوم المستمر منذ أكثر من عام في مواجهة العدوان الصهيوني على قطاع غزة الصامد، بالإضافة إلى حديثها عن الحاضنة الشعبية للمقاومة ودور جبهات الإسناد في دعمها.

العدوان الصهيوني على لبنان: الأهداف والمواجهة

في هذه المعركة المفتوحة، والطويلة، وبغض النظر عن مساراتها، ومراحلها، تترابط مسائل التحرر الوطني والتحرر الاجتماعي ومواجهة السيطرة الإمبريالية وربيبتها الصهيونية، فلنكن على مستوى التحدّي.

متضامنون مع الصحافية هبة أبو طه

دفاعاً عن حرية الصحافة وما تعرضت له الزميلة الصحافية هبة أبو طه في الأردن، من تضييق وتعسف، أصدرت ٢٤ منصة إعلامية حول العالم بياناً تضامنياً